غداة مقتله في الثاني من تشرين الثاني نوفمبر 1975، أقام الحزب الشيوعي الايطالي حفل تأبين لبير باولو بازوليني، الشاعر والرسام والمخرج الايطالي. وحمل قادة الحزب قبعة بازوليني في صورة تذكارية تخلد ذكراه. ولكن الحزب الشيوعي الايطالي لم ينفرد في الاحتفاء بذكرى الشاعر المغدور. فمؤسسو حزب"ايطاليون راديكاليون"، المنشق عن الحزب الليبرالي الايطالي، نعوا بازوليني، ووصفوه بپ"قديس مات في سبيل انقاذ قاتليه". ورأى حزب ايطاليا اليميني ان بازوليني كان واحداً من ناشطيه. فهو هاجم الشيوعيين اكثر من مرة. وكثرت نظريات المؤامرة التي تتناول حقيقة اغتيال بازوليني. وعلى ما نسبت احزاب مختلفة التوجهات انتماء بازوليني اليها، دارت شبهات التورط في تصفية بازوليني حول احزاب يمينية وأخرى يسارية. واتهم عدد من اصدقاء بازوليني، من امثال اوريانا فالاشي وايتالو كالفينو، الحزب الفاشي الجديد بقتل بازوليني، في حين وجهت صحيفة هذا الحزب اصابع الاتهام الى الماركسيين. وبعد يوم على مقتله، سلم غيسيبي بيلوز، الملقب بپ"جوي الضفدع"، نفسه الى الشرطة، واعترف بقتله بازوليني بعد محاولة هذا الاخير اغتصابه. ولكن التحقيقات أثبتت كذب اعترافات الشاب. وكتب الاديب البرتو مورافيا، صديق بازوليني طوال اكثر من ثلاثين عاماً، كتاباً عن وفاة صديقه. وزعم أن ساحة الجريمة في منطقة أوستيا، على مقربة من روما، تشبه مشهدين روائيين وصفهما بازوليني في روايتيه راغازي دي فيتا"فتيان الحياة وپ"اونا فيتا فيولنتا"حياة عنيفة، وأن هذه الساحة تبعث صورة مرت في فيلم بازوليني الأول"اكاتون". والحق ان حادثة قتل بازوليني، والتباس ظروفها، تحمل على التساؤل عن هويته، وحقيقة آرائه. فمن هو هذا الشخص الذي أثار، في حياته وموته، جدلاً كبيراً؟ ولد بازوليني في 1922، عام وصول بينيتو موسوليني الى السلطة. وحملت سلطوية والد بازوليني هذا الاخير على النفور من أبيه، والتقرب من والدته، وامضاء عطلة الصيف في منزل عائلتها. وعلى رغم ضعف ايمان والديه الديني، بهرت صورة يسوع بازوليني الشاب الفتي. وفي 1946، كتب في دفتر يومياته انه يريد ان يلقى مصير المسيح، وان يدان ويقتل، على رغم براءته من التهمة. وتخيل بازوليني جمعاً من الناس يشاهد عملية دق المسامير على أطراف جسده العاري. وحملت اعمال بازوليني الاولى أثر تماهيه بيسوع واعجابه بالشاعر جيوفاني باسكولي، وبالأديب والناقد الأدبي اوغو فوسكولو. وكتب بازوليني مجموعته الشعرية الاولى"بويزي آ كازارسا"بلغة فريولين، وهي لغة محلية ايطالية محكية وقريبة من اللاتينية وغير مدونة. ونقل بازوليني المجموعة الشعرية الى الايطالية. ومتناقضات المجموعة الشعرية غير خفية. فبازوليني توسل لغة قاسية وحادة للتغني بالطبيعة والفتوة والحب في سن الشباب. ولغة فريولين ليست لغة بازوليني الام. فأسرته درجت، مثل بقية اسر الطبقة الوسطى، على تكلم اللغة الايطالية"الفصحى"، ونبذت اللغة المحكية العامية. وتعلم بازوليني لغة فريولي من تحدثه مع أولاد يتكلمونها، واستعان بكتب عن أصول الألسنية لكتابة هذه اللغة. ورفضت الصحف الايطالية نشر مجموعة بازوليني الشعرية الاولى، وخشيت من ان تتهم بمعاداة الفاشية. فهذه الايديولوجيا لا تعترف باللغات المحلية. وفي 1949، غادر بازوليني حفلاً راقصاً برفقة أربعة مراهقين. واتهم أولياء المراهقين بازوليني بالتغرير بقصَّر. فاضطر بازوليني الى مغادرة مسقط رأسه، والاقامة بروما. ويرى نقاد كثر ان انتقال بازوليني الى روما هو منعطف كبير في حياته الادبية والفنية. ولكن بازوليني لم يتخل عن أغراضه الفنية في المدينة. فهو واصل سعيه الى جهر المقدس في تفاصيل الأشياء العابرة. وجاب بازوليني روما، وتعلم لغة العمال المعروفة ب"روماناسيو"، أي الروماني القبيح. وتسكع مع أولاد الشوارع، وتتلمذ عليهم. واشترى البيتزا لزمرة الاحياء لقاء استقبالها له في صفوف الشلة. وفي روايته الأولى"راغازي دي فيتا"، نقل بازوليني يوميات شوارع روما، وروى لقاء زمرة من الشباب بلاعبي قمار ومومسات وفنانين نصابين، وانزلاق هذه الزمرة الى حياة وضيعة يملؤها العنف. وأثارت هذه الرواية غضب اليساريين واليمينيين، على حد سواء. فالشيوعيون أخذوا على بازوليني انصرافه الى وصف ما هو قذر ومنحط في عالم العمال وأشباههم وما يبعث على النفور. وصادر انطونيو سيغني، رئيس الوزراء الايطالي، وهو ينتمي الى الحزب الديموقراطي المسيحي المحافظ، رواية بازوليني من المكاتب، وسعى الى محاكمة بازوليني وناشر روايته بتهمة نشر مواد"تخل بالحياء". ولم يثن التلويح بمحاكمته بازوليني عن مواصلة عمله الفني. فاستمر يستفز جمهور القراء والمشاهدين والتيارات السياسية. وفي اعماله التالية، أظهر بازوليني جانباً خفياً من حياة أبناء العالم السفلي بروما. ففي العالم الوضيع والقاسي هذا، تتجلى امام عدسة بازوليني مشاعر نبيلة وشغف وعلاقات حميمة. وفي"ليال رومانية"، صور بازوليني شباب الأحياء الفقيرة الجانحين والعنيفين في صورة البراءة والطهارة والجمال. وشبه بازوليني هؤلاء الشباب بالملائكة والانصاب اليونانية والتماثيل. وفي"ماما روما"، ترقى بائعة هوى بغي تربي ابنها تربية لائقة وشريفة الى مصاف شهيدة طبقة العمال. وفي فيلم"روكاتا"، وهو يروي قصة مخرج افلام يصور فيلماً عن يسوع المسيح، ألقى فيه الممثل اورسون ويلز خطاباً أعلن فيه ان معظم الايطاليين أميون، وان الذكور الايطاليين وحوش واستعماريون وعنصريون. فأفلح بازوليني في إهانة الايطاليين، سواء كانوا يساريين أو يمينيين أو حياديين أو محافظين. وبعد هذا الفيلم، واجه بازوليني صعوبات في تمويل عمله اللاحق. وشاءت الاقدار ان تهب الكنيسة الكاثوليكية لنجدته. فبعد انتخاب البابا يوحنا XXIII الليبرالي في 1958، سعت الكنيسة الى نشر رسالتها بأسلوب جديد. ووافق بازوليني على اخراج فيلم"إنجيل متى". وفي الشريط الروائي هذا، ابرز بازوليني معاناة من هم في أدنى السلم الاجتماعي الايطالي. فيسوع، في المرآة السينمائية، سياسي ومحرض ينجح في استمالة الجماهير اليه، يفضح ظلم الطبقة الحاكمة. وفي أفلامه الثلاثة اللاحقة المعروفة بپ"ثلاثية الحياة"، ابتعد بازوليني من المشاغل الايديولوجية والسياسية. فطغت الالوان البهية على أفلامه. واحتفى بازوليني ببهاء الحياة، وجمال الاجساد، والعلاقات الحميمة، والمتعة والنشوة. وعلى خلافها، غلبت السويداء الكئيبة على فيلمه"سالو". وهو اقتبس فيه رواية ماركي دو ساد"120 يوماً في سدوم". فبازوليني انقلب على ما احتفى به في"ثلاثية الحياة"، أي على الجسد والمتعة. ودان في"سالو"الفاشية والتوتاليتارية، والمبالغة في الاستهلاك الجماهيري، وفي أعمال القانون، والغلو في التدين أو التحرر. ولا شك في ان بازوليني عادى الايديولوجيا على مشاربها، والاستكانة الى النظام الاجتماعي القائم، وفساد مؤسسات الكنيسة والدولة. فرفض ما هو سائد دأب بازوليني. والرفض والغضب هذان دعوة الى الحياة. عن نتالي ريش مديرة تحرير "باريس ريفيو" ، "نيويورك ريفيو اوف بوكس" الاميركية، 27/9/2007