الحلاق الجار العجوز ليس ضليعاً في شؤون علم النفس والثقافة في شكل عام. ولكن حين تقترب الأمور من ميدان يرى أنه جزء أساس ومضيء من التراث العربي تنتفخ أوداجه ويبتسم ابتسامة الخبير. من هنا لم يكن غريباً عليه قبل أيام أن يعلن أمام الزبائن أن من يريد أن يفهم الأمور وحقائقها في زمننا هذا، عليه أنه يعود الى ذلك الجزء من التراث الذي حدده بأنه"علم الفراسة". لماذا؟ بكل بساطة لأنه يفكر منذ زمن بعيد ان افضل ما يمكن الواحد منا - نحن عباد الله الصالحين - أن يفعله حين تنغلق عليه أمور السياسة وتختلط تصريحات السياسيين وتحليلات الاحداث، وتفقد المعايير توازنها والحقائق وضوحها، إنما هو اللجوء الى هذا العلم. كيف؟ "ببساطة... جربوا أن تجلسوا أمام شاشة التلفزيون وافتحوا أية محطة، بيدكم اليمنى، واحملوا باليسرى كتاباً تراثياً في علم الفراسة، فماذا ستكتشفون؟ ماذا ستكتشف ايها الجار؟ ببساطة أيضاً أن الشاشة يمكن أن تكون آلة لكشف الكذب، تزيد فاعليتها ألف مرة عن تلك الآلات التي يقال لنا ان اجهزة الشرطة والمحققين يستخدمونها لمعرفة هل المتهمون يقولون الحقيقة أو لا يقولونها". وقبل أن تسأله مزيداً من التفسير، يتابع الحلاق وهو مزهو باكتشافه، أن كل شيء يمكن أن يكذب لدى الانسان، إلا ملامحه ونظرات عينيه وحركات يديه. اذ، مهما كان السياسي أو المحلل أو أي من الذين يتحدثون عبر الشاشة، ضليعاً في التمثيل، حافظاً بدقة ما يريد قوله من اكاذيب، ستكون هناك لحظة تفضحه فيها عيناه، أو حركة من يده، أو نحنحة ما من شفتيه، أو مجرد لفتة صغيرة. في مثل هذه الحال"إن كنت عارفاً بأمور علم الفراسة كما صاغها جدودنا، ستجد نفسك في انتظار احدى تلك الاشارات لتدرك بسرعة أن السيد المذكور يكذب. هذا في شكل عام. أما في شكل خاص، فعليك - يضيف الجار وقد شعر أنه افحمك تماماً - ان تراقبهم جميعاً حين يبدأون الكلام، فهم ينظرون حولهم كالقط الذي وجد نفسه محاصراً، ليتأكدوا من ان ليس ثمة من ينظر اليهم حقاً نظرة الراغب في سير الأمور... فهم الذّ ما يلذّ لهم أن يشعروا بأن من حولهم مؤيد لهم مسبقاً، سواء كذبوا أم صدقوا. والحمد لله أنهم عادة يعتقدون بأنهم انما يتحدثون الى من في قربهم، ناسين أن الكاميرا هي ملايين العيون المحدقة بهم لتلتقطهم شرط أن تكون مطلعة سلفاً على علم الفراسة...". وإذ يصل الحلاق العجوز الى هذا الاستنتاج ينظر اليك بتحد وتشف. وتفهم أن نظرته رد على نظرية كنتَ أنت قلتها أمامه قبل فترة: نظرية تفيد بأن علينا ألا نغضب ازاء حضور بعض من لا نحبهم على الشاشة خلال نشرة الاخبار، إذ يمكن استخدام دقائق حضورهم لتأدية عمل يراه مفيداً... من دون أن نخسر شيئاً!! كانت نظرة الجار تقول: لو كنتم من مكتشفي علم الفراسة ستدركون كم أن ثمة في الابتعاد من الشاشة، ولو لتلك الدقائق خسارة... طالما أن الذين تريدون تفاديهم قد يكونون الأكثر صلاحية للمثول أمام آلة كشف الكذب الجديدة هذه!