ذُكر أن الإمام الشافعي رحمه الله خرج إلى اليمن في طلب كُتب وعلم الفِراسة حتى كتبها وجمعها . . وبعدما انتهى من تعلمها مرّ في طريق العودة على رجل واقف في فناء داره فتفرس في وجه فعرف أنه أخبث ما يكون حسب علم الفراسة . . لكنه سأله هل من مَنزل قال : نعم . . فانزله واستضافه فيه وأكرمه . . حيث بعث إليه بعشاء طيب وعلف لدابته وفراش ولحاف . . .لكن الشافعي رحمه الله تعالى كان قد تفرّس في وجه وطبائع الرجل وعلم منها أنه ذو طبع خبيث ولئيم . . واعتقد الإمام أن هذا العلم باطل في استدلالاته لكون الرجل جاء وأظهر غير ما توقعه وتفرسه فيه . . الأمر الذي جعل الإمام يتقلب طوال ليله متحسراً على فشل أول اختبار له، إذ كان يريد التحقق وتجربة علمه الذي استغرق منه جهداً كبيراً وسفراً بعيداً ووقتا من عمره ويقول وهو على فراشه : ما أصنع بهذه الكتب بعد كل هذا الجهد لو خابت فراستي في هذا الرجل؟ ! لكن الإمام عندما أصبح وعزم على الرحيل قال للرجل من باب رد الجميل : إذا قدمت لمكة المكرمة فاسأل عن الشافعي . . وذاك بالطبع لرد المعروف ومقابلة الإحسان بالإحسان . إلا أن الرجل قال عندها منتهراً وبقوة حيث بانت حقيقته : وهل أنا مولى لأبيك؟؟ !! وطالبه بثمن طعامه الذي قدمه له درهمين،وعطر بثلاثة دراهم، وعلفاً لدابته بدرهمين . . . وهكذا . . ثم ختم كلامه بشتم الشافعي رحمه الله تعالى . . ففرح الشافعي أشد الفرح على أنه لم تخطئ فِراسته، ولم يهدر وقته في تعلم الفِراسة وجمع الكتب المتعلقة بها وقال لغلامه أعطه ما يريد . ثم سأله هل بقي لك شيء؟ قال نعم كراءُ المنزل فقد وسَّعتُ عليكَ وضّيقتُ علي نفسي وعيالي . . قال الشافعي : فعظم وكبر عندها اعتقادي في " علم الفِراسة " وأعطيته ما قد طلب؟ والحقيقة لقد برع العرب قديماً في علوم كثيرة منها علم الفِراسة وكان يقال تفرَّست في وجه الرجل فعرفت من أين هو ومن أين قدِم . . . الخ وكانوا يعرفون الفرق بين الوجوه على اختلافها سواء وجوه سكان الصحراء، أو سكان المدن، وكذلك وجوه غير العرب من الفرس واليونانيين والآسيويين . والفِراسة هي نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن الملتزم بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يكشف له بعض ما خفي على غيره مستدلاً عليه بظاهر الأمر،فتراه مسددا في رأيه، ويمكنه أن يفرق بهذه الفراسة بين الحق والباطل والصادق والكاذب، وبالطبع دون أن يستغني بذلك عن الشرع . فعن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " . أما الفَراسة فهي أمر مختلف فهي مهارة وإجادة وحذق ركوب الخيل من قبل " الخيّالة " وهي " فَرَاسةً وفُرُوسَةً وفُرُوسِيَّةً . وإذا ما اجتمع للمرء الفِراسة والفَراسة معاً فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء . . . ويُحكى أنه جاء رجل إلى الإمام الشافعي يسأله مسألة، فقال له : أأنت من أهل صنعاء ؟ فقال : نعم . . قال الشافعي : فلعلك حداد ؟ قال : نعم . . وروى كذلك عن الإمام الشافعى ومحمد بن الحسن أنهما كانا جالسين عند فناء الكعبة، فنظرا ووجدا رجلاً فقال أحدهما إني أراه نجاراً . . وقال الآخر أراه حداداً، وبعد أن سألاه قال الرجل : كنت في الماضي نجاراً واليوم أعمل حداداً . قال ابن القيم رحمه الله : " كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه أعظم الأمة فراسة وبعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه " . . وقد كانت لهما قصص كثيرة في الفِراسة . كما كان عثمان بن عفان رضي الله عنه كذلك . . فقد روي أنه دخل عليه رجل ذات يوم . . وكان قد نظر لامرأة في الطريق وتأمل محاسنها، فقال له عثمان : يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه؟ ! فقال الرجل : أوحيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عثمان رضي الله عنه : لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة . . . فالواقع أن كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم وكذلك التابعين تروى عنهم قصص عن الفِراسة . . كما يروى عن قوة وصدق فراسة ابنة شعيب عليه السلام حيث قال الله تعالى على لسانها في محكم التنزيل : " يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَْمِينُ " سورة القصص الآية " " 62 وأختم بالطريف في علم الفِراسة أنه سُئل إياس بن معاوية عن رجل فقال هذا " غريب " وهو من أهل بلدة يقال لها " واسط " وهو " مُعلِّم " وهو يطلب عبداً شارداً عنه، فلما تحققوا من ذلك وجدوا الأمر كما قال، فرجعوا وسألوه كيف عرفت ذلك فقال رأيته " يمشي ويلتفت " فعلمت أنه " غريب " ، ورأيته وعلى ثوبه حمرة تربة أرض " واسط " ، فعلمت أنه " من أهلها " ، ورأيته " يمر بالصبيان " فيسلم عليهم " ولا يسلم على الرجال " فعلمت أنه " مُعلم " ، ورأيته إذا مر " بذي هيئة حسنة " لم يلتفت إليه، وإذا مر " بذي أسمال وملابس بسيطة " تأمله . . فعلمت عندها أنه يطلب عبداً شارداً منه . حقيقة لقد كان العرب قديماً أصحاب علم وبصيرة . . ولهم ضروب وأصول ونبوغ في العديد من العلوم الأخرى غير الفِراسة والفَراسة مثل النجوم والإهتداء بها . . ومعرفة السحب التي يتوقعون معها هطول الأمطار عن غيرها فيتريثون في الأسفار . . بل ومعرفة المواقع التي هطلت فيها تجنباً للسفر في الأوحال والسيول . . وتحسباً للزرع وسقى أنعامهم . . كما كانوا يعرفون أثر السير والمسير في البادية والصحراء، ومعرفة مواقع القرى والبلاد دون بوصلة أو أقمار إصطناعية، وغيرها من العلوم العلمية والمعارف . . فسبحان الله هل نستطيع أن نجمع بين تعلم الفِراسة والفَراسة وسائر العلوم النافعة الأخرى في وقتنا هذا ؟ ! ربما نستطيع ذلك . . ونسأله تعالي التوفيق . Y_ alyousof@ yahoo . com