مع تصاعد المد القومي في اليابان، الى منصب رئيس الوزراء الذي يجسده وصول اليميني المتشدد من تيار "المحافظين الجدد" شينزو آبي خلفاً لراعيه جونيشيرو كويزومي، حين انتخبه البرلمان الياباني يوم 26 أيلول سبتمبر الماضي بغالبية كبيرة، بدأ آبي الذي زار أوروبا أخيراً لبحث مستقبل العلاقات اليابانية - الأوروبية، والتعاون مع الحلف الأطلسي، سعيه الى ترجمة قوة اليابان الاقتصادية في الساحة الدولية على المستويين الأمني والسياسي، يتناسب مع حجم اليابان كقوة عظمى في القرن الجديد. وقد جاء تولي آبي الحكم بعدما شهد الاقتصاد الياباني تعافياً خلال السنوات الخمس الماضية بين حكم جونيشيرو كويزومي 2001-2006، الذي منح خليفته إرثاً يتعلق باليابان الناشئة، المتحررة من آثار عقد من الكساد الاقتصادي، والملتصقة بالولاياتالمتحدة الأميركية أكثر من أي وقت مضى. عندما تولى كويزومي رئاسة الوزراء عام 2001، كان معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في اليابان 0.4 في المئة فقط، ولم تكن هناك توقعات متفائلة في شأن تزايد هذا المعدل في المستقبل. إلا أن معدل النمو وصل في عامي 2004 و2005 إلى 2.3 في المئة على التوالي، وسادت توقعات ببلوغ هذا المعدل مستوى 3 في المئة في عام 2006. كما قفزت قيمة الصادرات من 383 بليون دولار في عام 2001 إلى 568 بليون دولار في 2005، وارتفعت قيمة الانفاق الاستهلاكي بالأسعار الحقيقية من 287 تريليون ين إلى 3.3 تريليونات ين259 بليون دولار في الفترة نفسها، ما يمثل زيادة نسبتها 4.8 في المئة خلال السنوات الخمس. ومن جهة أخرى، تراجع معدل البطالة من 5.2 في المئة في 2001 إلى 4.2 في المئة في 2005 نتيجة الزيادة المستمرة في فرص التوظيف منذ عام 2002. وتزامن تنامي القوة الاقتصادية اليابانية مع ميل عام لدى صانعي السياسة اليابانية إلى لعب دور سياسي وعسكري نشط على الصعيد الدولي. ويعتبر رئيس الوزراء الياباني الجديد آبي الذي يبلغ من العمر 52 سنة، خير من يمثل هذا الاتجاه، بصفته قومياً متشدداً، وشكل مفاجأة"امبراطورية الشمس". ويمثل آبي رمز الجيل الجديد من رجال السياسة اليابانيين، وهو متأثر بأفكار جده في ما يتعلق بالعلاقات مع الولاياتالمتحدة الأميركية، إذ يأمل ببناء جيش أقوى، وبمراجعة الدستور السلمي الذي اعتمدته اليابان عام 1947 عقب هزيمتها في الحرب. وأعلن آبي في بداية العام الجديد، أنه سيطرح على البرلمان مشروع استفتاء دستوري لتعديل المادة 9 من الدستور، بهدف مراجعة الخيارات العسكرية المتعلقة بالعدول عن الحرب، لكي يسمح لليابان بالمشاركة في صورة نشطة في عمليات حفظ السلام. وتعتبر هذه الخطوة تجاوزاً لما بات يعرف ب"عقيدة يوشيدا"، وهي الاتفاقية التي جرى توقيعها سنة 1951 وقامت على مبدأين، سلمية ومثالية الدستور، والاعتماد أمنياً على الولاياتالمتحدة. ويرى المراقبون في زيارة"آبي"للعديد من العواصم الأوروبية باريس، لندن، بروكسيل وبرلين خرقاً من جانب رئيس الوزراء الياباني للطقوس اليابانية التقليدية، التي كرسها أسلافه من رؤساء الحكومات اليابانيين، الذين درجوا على تخصيص الزيارة الخارجية الأولى للولايات المتحدة. هذا عدا عن أنه جاء يناقش مع الأوروبيين شؤون بلاده السياسية والعسكرية، بعيداً من القواعد والاتفاقات التي تربطها مع واشنطن. إن المعنى البعيد لهذه الجولة بالنسبة الى المراقبين الأوروبيين، هو أن اليابانيين باتوا يدركون ضرورة عدم رهن كل تحالفاتهم بالولاياتالمتحدة، بل توسيع الآفاق، والبحث عن تفاهمات استراتيجية أخرى. وهذا الإدراك ليس جديداً، فهم منذ نهاية الحرب الباردة بدأوا التفكير في إيجاد توازن في العلاقات السياسية الخارجية اليابانية، التي ظلت مرتهنة للاتفاقات التاريخية مع واشنطن، وكانوا يدركون دائماً أن الاتحاد الأوروبي وحده، هو الذي يمكن أن يلبي هذا الطموح الذي يتجاوز حدود الاقتصاد بكثير. لقد تبلور خيار اليابان في التوجه نحو أوروبا في الآونة الأخيرة، حيث صارت طوكيو تلمس على نحو عميق وزن أوروبا السياسي، وتأثيرها في إدارة وحل المشاكل الكبرى، قضية الشرق الأوسط كما انها تراقب صعود القوتين الصينية والروسية، والطموحات النووية الإيرانية، والكورية الشمالية. وقاد ذلك إلى تكوين قناعة في أوساط النخبة اليابانية بضرورة بناء"شراكة استراتيجية"مع أوروبا. لقد عزز من هذه النظرة الجديدة أمران أساسيان: الأول، هو كثرة الأسئلة المطروحة اليوم حول إخفاق القوة الأميركية في حكم العالم. والثاني، هو طموحات طوكيو المتنامية في لعب دور سياسي مستقل ومؤثر في المسرح الدولي، يناسب وزنها كثاني قوة اقتصادية في العالم. وتبقى الولاياتالمتحدة في نظر اليابانيين قوة كبرى، ولكن طوكيو بدأت تلاحظ أن هذه القوة أخذت تتراجع شيئاً فشيئاً على صعيد ترجمة نفسها إلى سلطة ونفوذ دوليين، وهي باتت غير قادرة، كما كان الأمر في السابق، على فرض رؤيتها على الآخرين. وهناك من يجزم ببدء تلاشي أوهام"الانتصارية"الأميركية في أذهان اليابانيين، هذه الانتصارية التي بشر بها المفكر"فرانسيس فوكوياما"، بعد نهاية الحرب الباردة في كتابه المعروف، حتى إن عنوان كتابه الأخير"أميركا على مفترق الطرق"، تم تعديله في الترجمة اليابانية ليصبح"نهاية أميركا"! "نهاية التاريخ" إن عجز الولاياتالمتحدة عن الخروج من"المستنقع العراقي"، على رغم قدرتها النارية الجبارة، دفع دولة مثل اليابان تعتمد عليها في أمنها الخارجي، إلى التفكير بحلفاء جدد، ومن نوعية مختلفة. وجاءت هزيمة الجمهوريين في الانتخابات النصفية الأخيرة، لتكشف الشلل الذي أصاب الولاياتالمتحدة، الأمر الذي دفع طوكيو إلى إثارة جملة من الأسئلة حول الپ"باكس أمريكانا"، من دون التشكيك بالتحالف مع الولاياتالمتحدة، الذي يظل"قاعدة"لسياستها الخارجية. ومنذ نهاية الحرب الباردة أصبحت اليابان تنظر بقلق شديد الى"تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية الصينية في محيطها الآسيوي. وهي ترى أن تربة الخلافات الصينية - اليابانية الخصبة تاريخياً تغذي الصراع التنافسي الجغرافي - السياسي بين اليابانوالصين، وتعزز السباق على بسط النفوذ على مصادر الطاقة. وتسعى الصين إلى دور ريادي في جوارها الآسيوي وهي تستمد نفوذها من قوتها الاقتصادية. ولا شك في أن اليابان ترفض تحول الصين إلى قطب النفوذ في آسيا. الصينواليابان تتنافسان على النفوذ، وتظن إحداهما الظنون في الأخرى. وأولوية بكين هي الحؤول دون انفصال تايوان وإعلانها الاستقلال. وأولوية طوكيو هي مواجهة الخطر العسكري الصيني. ولذا حاول رئيس الوزراء الياباني آبي في جولته الأوروبية الأخيرة محاصرة الجاذبية المتنامية التي تمارسها الصين تجاه بلدان أوروبية عدة. ففي كل محطة من محطاته الأوروبية، طالب آبي الأوروبيين بالاستمرار في فرض الحظر على مبيعات الأسلحة من جانب الاتحاد الأوروبي إلى الصين، وهو الحظر المعمول به منذ انتفاضة تيانانمين عام 1989. وتعتبر زيارة آبي كأول رئيس حكومة في تاريخ اليابان لمقر قيادة الحلف الأطلسي في بروكسيل، خطوة متفردة، إذ حث الحلف على مزيد من الالتزام بالشؤون الآسيوية، مثلما هو الأمر في أفغانستان. ورأى المراقبون أن الرسالة التي يمكن استخلاصها من هذه الالتفاتة هي أن آبي يهدف للانتقال باليابان من"المسالمة السلبية"إلى"المسالمة الإيجابية"، والبحث عن دور ملموس على صعيد الأمن الدولي، وهو ما سبق التطرق إليه في مؤتمر الحلف الأطلسي الأخير في ريغا. * كاتب تونسي