دخلت الاستراتيجية الأميركية في آسيا الباسفيك في إعادة رسم جزئي على خلفية المتغيرين الصيني والياباني، يضاف إليهما الملف النووي الكوري الشمالي والأزمة التايوانية المتجهة نحو مزيد من التصعيد، إضافة إلى قضايا الإرهاب الدولي في قضية الانتشار النووي وعلاقتها برسم السياسات والتحالفات الإقليمية، تبرز منطقة شمال آسيا كنموذج جلي لهذه المقولة. فقد دفع الملف النووي الكوري الشمالي ضمن أمور أخرى باتجاه إعادة بعث للبناء الأمني الياباني، وإعادة تعريف اليابان لحدود ومجال استخدام قوتها. وفي إعادة البعث والتعريف هذه، تشكل مناخ جديد للسياسة الخارجية اليابانية على الصعيدين الإقليمي والدولي . وفي السياق الإقليمي الآسيوي، دفع المتغير الياباني باتجاه إعادة رسم للعلاقات اليابانية الصينية، التي أضحت أكثر توترا. وفي تداع آخر، اتجهت الصين لإعادة بناء علاقاتها مع الهند، حيث بدت هذه العلاقات وقد دخلت حالة من الانفراج والتعاون بعد نصف قرن من التوتر. إلا أن المتغير الياباني لم يكن الدافع الوحيد لإعادة رسم العلاقات الصينية الهندية، على النحو الذي سيأتي بيانه . وعلى خلفية العامل الصيني ونمط كثيف من التحولات الكونية، اتجهت العلاقات الأميركية الهندية هي الأخرى إلى حالة من التنامي المضطرد الذي اقترب من التحالف. وفي السياق ذاته، دخلت الاستراتيجية الأميركية في آسيا الباسفيك في إعادة رسم جزئي على خلفية المتغيرين الصيني والياباني، يضاف إليهما الملف النووي الكوري الشمالي والأزمة التايوانية المتجهة نحو مزيد من التصعيد، إضافة إلى قضايا الإرهاب الدولي . على صعيد العلاقات الصينية اليابانية، ينظر الصينيون إلى استيلاء اليابان على تايوان في العام 1895، وما ترتب على ذلك من احتلال دام خمسين عاماً، باعتباره واحداً من أكثر الأحداث التي شهدها التاريخ المعاصر للدولة إذلالاً للصين. ولقد أبدت حكومة الصين على نحو خاص امتعاضها من أي تدخل ياباني في تايوان منذ العام 1972، حين قطعت طوكيو العلاقات الدبلوماسية مع حكومة تايوان واعترفت بنظام بكين الشيوعي. بيد أن الساسة والجماعات المؤيدة لتايوان في اليابان قد اكتسبت في الأعوام الأخيرة قوة دافع جديدة. وعلى سبيل المثال، على الرغم من الاحتجاجات الصينية، استضافت اليابان في العام 2003 حفل استقبال بمناسبة عيد ميلاد الإمبراطور في تايبيه. وفي العام الماضي أصدرت اليابان تأشيرة دخول للرئيس التايواني السابق لي تنغ-هيوي، وهو الرجل الذي يدافع بوضوح عن تحالف اليابانوالولاياتالمتحدة وتايوان ضد الصين. وفي الوقت نفسه، تصاعد التوتر في منطقة بحر شرق الصين، حيث أعلنت طوكيو مؤخرا عن فرض السيادة بصورة رسمية على سلسلة من الجزر كانت كل من الصين وتايوان واليابان تتنازع على سيادتها. وفضلاً عن ذلك، تتولى جهات عسكرية أميركية التنسيق المحكم مع اليابان بشأن إعادة انتشار قواتها وتعزيز قدراتها في مجالات السيطرة والقتال بالقرب من تايوان. ولقد اعتبرت مراجعة دفاعية حديثة لليابان أن الصين تمثل تهديداً لها. ولقد وضعت قوات الدفاع الذاتي اليابانية الخطوط العريضة لثلاثة سيناريوهات لغزو صيني محتمل، وتتولى الإعداد للدفاع وفقاً لتلك السيناريوهات. وقد اتسم التوتر الصيني الياباني الأخير بفورة عارمة من الأنشطة المعادية لليابان في الصين، والتي تجري منذ العام 2003. ففي آب أغسطس من ذلك العام مزق عمال البناء في مدينة كيكيهار الصينية، عن طريق الخطأ، علباً صغيرة تحتوي على غاز الخردل تركت هناك منذ أيام الاحتلال الياباني، فأدى ذلك إلى جرح العشرات وقتل شخص واحد على الأقل. ولقد أثار ذلك ردة فعل غاضبة عنيفة. وقد كانت ملايين التوقيعات التي جمعت بسرعة على عريضة نشرت على صفحات شبكة الإنترنت تطالب الحكومة اليابانية بإيجاد حل شامل لقضية الأسلحة الكيميائية، متماشية تماماً مع الذم والقدح في موجة معادية لليابان ملأت صفحات الإنترنت. وفي آب - أغسطس الماضي أثناء بطولة كأس الأمم الآسيوية في كرة القدم والتي عقدت في الصين، كال مشجعو الفريق الصيني في تشونجكانج، وجينان، وبكين الشتائم والإهانات لأعضاء الفريق الياباني ورشقوا حافلتهم بالزجاجات. وأثناء المباراة النهائية على البطولة والتي فاز بها الفريق الياباني بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد للصين، كان مشجعو الفريق الصيني يهتفون «اقتلوهم، اقتلوهم ...». كما تعرضت العلاقات بين الصين واليابان للمزيد من التوتر حين رفض رئيس الصين وين جياباو الدعوة التي وجهها إليه رئيس وزراء اليابان جونيشيرو كويزومي لزيارة اليابان. ولقد أخذت القومية تشكل عنصراً بارزاً في أجهزة الإعلام الصينية خلال السنوات الأخيرة. وبدأت المقالات الحادة بشأن الولاياتالمتحدةواليابان تظهر بمعدلات متزايدة وتحتل مكاناً أكثر بروزاً في الصحف اليومية. ومع تطور الإصلاحات التي تولاها دنغ شياوبنغ، وعلى نحو خاص بعد «رحلة الجنوب» التي قام بها في العام 1992، حين أعطى الإذن بالانتقال السريع للاقتصاد إلى آليات السوق، تغيرت أجهزة الإعلام الصينية إلى حدٍ يفوق الخيال.وبعد أن كان عدد الصحف في العام 1978 لا يتجاوز 186 صحيفة، علاوة على بضع مجلات وقنوات إذاعية وتلفازية، أصبح في الصين اليوم حوالي 2200 صحيفة، و9000 مجلة، و1000 محطة إذاعية، و240 محطة تلفازية، علاوة على انتشار متنامٍ لقنوات الكابل التلفازية. ولم تعد أغلب هذه الجهات تتلقى دعماً مالياً كاملاً من الحكومة، وأصبح لزاماً عليها أن تعتمد في بقائها ونموها على عوائدها من الإعلانات. وعلى ما يبدو، فإن منع أجهزة الإعلام الصينية من توجيه الانتقادات المرتبطة بالشئون الداخلية، جعلها تتحول بنظرتها المنتقدة إلى الخارج. وهو توجه آمن من الناحية السياسية، حيث ان انتقاد العالم الخارجي، وعلى نحو خاص دول مثل اليابانوالولاياتالمتحدة، يعد في حد ذاته امتداحا لحكومة الصين. وبالعودة إلى إعادة البناء الأمني الياباني المتأتي على خلفية جملة من المتغيرات الإقليمية والكونية، وبمراجعة الخطوط العريضة لبرنامج الدفاع الوطني لليابان، التي يطلق عليها اسم الخطوط العامة اختصاراً، يمكن ملاحظة أن حكومة جونيشيرو كويزومي قد أقدمت على رفع بعض القيود على تصدير السلاح بإنهاء ما يسمى «بسياسة منع تصدير الكل» والتي فرضت منذ حكومة ميكي في العام 1976. ولقد اعتبرت الخطوط العامة، وبشكل واضح، بأن الأبحاث المشتركة التي تجريها اليابان مع الولاياتالمتحدة لتطوير وإنتاج أنظمة الدفاع البحرية الباليستية SM-3 استثناءاً. وبشكل عام يسمح للحكومة الآن بدراسة طلبات السلاح المقدمة من الحكومات الصديقة على أساس التعامل مع كل حالة على حدة تبعاً لمساهمة الصفقة في تحريضها أو إثارتها للصراعات الإقليمية أو العالمية. وغالباً، ونتيجة لذلك، سيتم السماح لسلاح خفر السواحل الياباني أو البحرية اليابانية بتفعيل أكثر كفاءة لبيع أو إمداد بلدان رابطة «آسيان»، مثل ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة، بسفن قتالية جديدة أو مستعملة، في سبيل مساعدتها في حربها على القرصنة والإرهاب البحري. كما سيتم السماح للبحرية اليابانية بتزويد بلدان أوربا وبلدان «آسيان» بمراكب الإنقاذ البحرية ومراكب الدوريات والزوارق القتالية. وفي سياق المقاربات الخاصة بتطوير قوات الدفاع الياباني نفسها، يرى بعض خبراء الدفاع اليابانيين أنه يتعين على القوات البرية اليابانية أن تعيد تكييف بنيتها الحالية، والتي تعمل بالتوازي مع القدرة القتالية رداً على أي غزو واسع النطاق، من أجل زيادة القدرة على التكيف مع أي عمل عسكري تحت ظروف أقل شدة. أما القوات البحرية اليابانية فيتعين عليها - حسب هؤلاء الخبراء - أن تحول تركيزها بعيداً عن القدرات الحربية المضادة للغواصات، والتي كانت لازمة في عصر الحرب الباردة، وأن تعمل على تشكيل بنية تهدف إلى الدفاع عن الجزر، ومراقبة الصواريخ الباليستية والرد عليها، ومقاومة الأنشطة غير القانونية التي تقوم بها سفن التجسس. أما القوات الجوية فتواصل أنشطة المراقبة في المجال الجوي المتاخم، وتعمل على صيانة قدرتها على الرد السريع في مواجهة الغارات الجوية، بينما تعكف على إدخال بعض التعديل على تكتيكات رد الفعل تجاه حالات الغزو، وذلك مع تضاؤل احتمالات التعرض لهجوم من الجو، حيث يبدو التحدي هذه المرة قادما من الصين وليس روسيا . وكما سبقت الإشارة، فإن الاستراتيجية الأميركية في آسيا الباسفيك قد اتجهت هي الأخرى لإعادة بناء على خلفية التطورات الأساسية في المنطقة، وخاصة الملف النووي الكوري الشمالي والاتجاه الجديد للقوة الصينية، أو لنقل الدور الصيني المتنامي بوجه عام . وتتأسس النظرية الجديدة للولايات في مجال الردع بصفة عامة على ثلاثة أعمدة هي: إمكانية تلقي الضربة الهجومية (بما فيها الضربة النووية)، إمكانيات الدفاع الفاعلة وغير الفاعلة (الأنظمة المضادة للصواريخ وغيرها) وإمكانية إعادة تأسيس قوات الدفاع. وفيما يتعلق بالصين، اختلفت الولاياتالمتحدة مع حلفائها الأوروبيين على مشروع لرفع الحظر على واردات السلاح لبكين، كان الأوروبيون قد طالبوا به . ولقد أثار طلب فرنسا برفع حظر بيع الأسلحة عن الصين جدلا واسعا، فباريس التي كانت متهمة من قبل واشنطن بتجاهلها للملف الصيني الخاص بحقوق الإنسان، كانت قد دافعت عن موقفها مؤكدة انه لا يجب أن تعامل الصين اليوم بالصين الضالعة في مجزرة «تيينانمين» في العام 1989. ومنذ خريف العام 2003، انضمت فرنسا إلى حملة المطالبة برفع حظر بيع الأسلحة إلى الصين. لقد وقفت باريس بقوة خلف هذه الحملة، ممثلة في الرئيس جاك شيراك الذي أكد على هذا الموقف بمناسبة زيارته إلى بكين في تشرين الأول أكتوبر الماضي. وتدريجيا عملت فرنسا على إقناع شركائها الأوروبيين، بدعم من ألمانيا، على أن رفع حظر بيع الأسلحة للصين «قد صار ممكنا». ورأى شيراك أن رفع الحظر هذا يعد عملية رمزية تسمح بإخراج الصين من قائمة الدول الخاضعة للعقوبات الاقتصادية، ولا تؤدي بالضرورة إلى تطوير صفقات بيع الأسلحة إليها. وذكر أيضا بأن الصين لم تسارع إلى طلب الأسلحة وأن الاتحاد الأوروبي يعتمد بصرامة قانونا حازما بخصوص بيع العتاد العسكري. ومن أجل طمأنة مخاوف اليابانيين فقد دعا شيراك كلا من طوكيو وبكين إلى الإفادة من نموذج التقارب الفرنسي الألماني، إذ ان «التحالف بين البلدين من شأنه تأسيس قطب دولي هام في عالم اليوم». بيد أن واشنطن ظلت حازمة في موقفها المعارض لرفع الحظر عن صادرات الأسلحة إلى الصين، مشيرة بصفة أساسية إلى التوترات في مضيق تايوان، وطبيعة المناخ القلق للعلاقات الصينية اليابانية، فضلا عن احتمالات انزلاق الصين إلى نزاع إقليمي واسع قد تفرزه أزمة الملف النووي الكوري الشمالي . وفي زيارته الأوروبية في نيسان أبريل الماضي، كان روبيرت زوليك قد وضع دول الاتحاد الأوروبي أمام مسؤولياتها وتبعات رفع الحظر بهذه الكلمات: «سيشكل ذلك تراجعا جديا في العلاقات الأطلسية... وتوقعوا أن أسلحة أوروبية تقتل جنودا أميركيين، فإن ذلك سوف لن يخدم مسار تعاوننا» . وفي جزء آخر من القارة، بدت الطبيعة المستجدة للعلاقات الصينية الهندية كنتاج فرعي لمتغيرات الأمن في آسيا الباسفيك، بقدر كونها نتاجا للتقارب الأميركي الباكستاني، وقبل ذلك الأميركي الهندي الذي اقترب من ارتداء طابع استراتيجي. وفي ربيع هذا العام قام رئيس الوزراء الصيني وين جياباو بزيارة إلى الهند مدتها أربعة أيام تم خلالها توقيع إحدى عشرة اتفاقية، من بينها اتفاقية تعاون استراتيجي شامل لمدة خمسة أعوام. واتفاقية أخرى تتضمن مجموعة جديدة من المبادئ المرشدة بشأن وضع آلية لتسوية النزاعات الحدودية بين الدولتين. كما أعلن وين أن الصين سوف تساند الهند في مطالبتها بمقعد دائم في مجلس الأمن الدولي .وقال رئيس وزراء الهند مانموهان سنغ خلال زيارة وين: «إن الهند والصين تستطيعان معا إعادة صياغة النظام العالمي». ولقد نَمَت التجارة بين البلدين من مائة مليون دولار في العام 1994 إلى ما يقرب من 14 مليار دولار في العام 2004، كما توقع وزير التجارة والصناعة الهندي أن يتضاعف هذا الرقم مع نهاية العقد الجاري. وعلينا أن نقول الآن ان الصين والولاياتالمتحدة يتنافسان على الهند من منطلقات متقاربة في مدلولاتها. ومنذ زيارة الرئيس بل كلينتون للهند، وعلى نحو خاص مع وصول الرئيس جورج بوش للسلطة، تحولت الولاياتالمتحدة من عدم المبالاة بالهند إلى تنمية علاقات إستراتيجية قوية معها. وخلال زيارتها للهند في آذار مارس الماضي، أكدت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس على أهمية العلاقة الإستراتيجية بين البلدين، بما في ذلك الاستعداد للتفكير في إقامة علاقات تجارية في مجالات التكنولوجيا المتطورة، والطاقة النووية، والإنتاج المشترك للطائرات المقاتلة مثل إف 16 وإف 18. وأكدت رايس للقادة الهنود أن واشنطن تواجه مع باكستان تهديداً مشتركاً من قبل إرهاب لا يعرف حدودا قومية، وأن التعاون معها لا يشكل تهديدا لنيودلهي، وإن الحرب الباردة قد أصبحت جزءاً من الماضي. وثمة عدة عوامل تعزز الموقف الأميركي الجديد تجاه الهند، فاللغة الخطابية بشأن «أكبر ديمقراطيتين في العالم» ليست بالجديدة، لكنها تتلاءم مع التوجه الجديد للإدارة الأميركية. كما ان الدور المتنامي الذي تلعبه الجالية الهندية المغتربة في الولاياتالمتحدة، وعلى نحو خاص في مجال صناعات المعلومات، ذو تأثير قوي يوازي ذلك التأثير الذي خلفه ارتفاع مؤشرات التجارة الثنائية بين البلدين والذي صاحب النمو الاقتصادي الجامح الذي شهدته الهند مؤخراً. وعلى نفس القدر من الأهمية تأتي المخاوف الإستراتيجية بشأن الإرهاب الدولي وتعاظم قوة الصين.