دعوت غير مرة الى محاكمة المسؤولين عن الحرب في العراق، وفي حين ركزت دائماً على دور عصابة الحرب من المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة، فقد انتقدت رئيس الوزراء توني بلير وطالبت باستقالته واليوم أجد أن هناك في بريطانيا من يريد محاكمته. أي محاكمة يجب أن تنتظر خروجه من المقر الرسمي في 10 داوننغ ستريت، إلا أنه متمسك بالكرسي وكأن له جذوراً عربية، فبعدما أعلن في السابع من أيلول سبتمبر الماضي أنه سيترك رئاسة الوزراء هذه السنة، عاد قبل أيام ليلمّح الى أنه باقٍ حتى الصيف. ربما كان توني بلير يستحق المحاكمة بسبب جريمة الحرب على العراق أكثر من جورج بوش، فالرئيس الأميركي يستطيع أن يدعي الجهل، أو الحمق، إلا أن بلير ذكي بإجماع الآراء، ومع ذلك جعل السياسة البريطانية تابعاً مطيعاً للسياسة الأميركية العدوانية، ولطخ سمعة بلاده وجعلها هدفاً للارهابيين كما رأينا في 7/7/2005، وهو طبعاً من الوقاحة أن يرفض الربط بين سياسته واستهداف بلاده بالارهاب، إلا أن كل رأي بريطاني قرأته رجح الربط وقال إن رئيس الوزراء يخدع نفسه. مسرحية"محاكمة توني بلير"بثها التلفزيون البريطاني المستقل ثلاث مرات، ولم تتح لي رؤيتها إلا في نهاية الأسبوع، ووجدتها ذكية أحياناً ومضحكة أحياناً أخرى، إلا أنها أقل من حجم التهم الحقيقية التي يمكن توجيهها الى رئيس الوزراء، فقد قتل مئات الألوف من العراقيين الأبرياء، ودمر البلد مع مستقبله، ولا نزال نسمع إصراراً وقحاً على صواب قرار الحرب. كانت المسرحية من أفكار اليستير بيتون الذي استعان بالمحامي فيليب ساندس، استاذ القانون في الكلية الجامعية في لندن، لأنه كان ألف كتاباً بعنوان"عالم بلا قانون"، ويعتبر الحرب على العراق غير شرعية. يقال إن الفن يقلد الحياة، ولكن ربما عشنا لنرى أن الحياة تقلد الفن، وتنتهي مسرحية محاكمة بلير بمحاكمته فعلاً. المحامي ساندس يقول ان بيتون ورفاقه درسوا احتمالات عدة لمحاكمة بلير، وراجعوا القانون بشأنها، وكانت هناك فكرة أن يعتقل في بلد له قوانين تحاسب المسؤولين عن حروب غير شرعية، أو أن يرسل الى محكمة جرائم الحرب الدولية في لاهاي لولا أن هذه لا تنظر في قضايا مثل هذه الحروب، أو يعتقل في بلد صديق بموجب مذكرة جلب عن دوره في الحرب، ليسلم الى بلده. والتهم ضد بلير، وبوش وبقية العصابة أخطر كثيراً مما اتهم به أوغستو بينوشيه. وفي النهاية اختارت المسرحية أن يحاكم توني بلير أمام محكمة دولية تشكلها الأممالمتحدة خصيصاً للنظر في الجرائم التي رافقت الحرب على العراق. لو كان هناك عدل في هذا العالم لحوكم توني بلير، مع العصابة الأميركية ولحكم عليهم جميعاً. ورئيس وزراء ماليزيا السابق مهاتير محمد قال هذا الشهر إن جورج بوش وتوني بلير أسوأ من صدام حسين، وعلى أيديهما من دماء العراقيين أكثر مما سفك صدام حسين. وهو طالب بمحاكمة صورية لبوش من نوع محاكمة صدام، وقال إن بلير مجرم حرب مثل صدام الذي يتهمه بلير بجرائم حرب. الحرب على العراق كانت جريمة ودور توني بلير فيها أكيد، إلا أنه مثل حليفه بوش، يعيش في عالم آخر ويضلل نفسه ويحاول أن يضلل الناس. ففي تصريح له أخيراً لم يجد عذراً لنفسه سوى أن يتهم الميديا ومعارضي الحرب بتأليب الرأي العام ضد الحرب، وكأن المواطن البريطاني لا يرى صور القتل والدمار في العراق، ولا يعرف عن الضحايا من الجنود البريطانيين في حرب غير مبررة، أو كأن كل أخبار الحرب من تلفيق الميديا، فلا قتل ولا دمار، ولا خسائر تزيد يوماً عن يوم. الصحافة البريطانية كلها دانت تصريح بلير هذا، إلا أنه يهذي، فهو قال في مناسبة أخرى إن العراق وأفغانستان يجب أن يصبحا مناطق سياحية. أقول انه يجب القضاء على الايدز والفقر، إلا أنه لن يقضى عليهما لمجرد انني ارغب في ذلك، ولن يعرف العراق وأفغانستان السلام، ولن يَعْمِرَا، لمجرد أن ذلك يناسب بلير. رئيس الوزراء البريطاني سياسي محترف وداهية، وقد انتشل حزب العمال من هوة اليأس والفشل، ومع ذلك يتصرف وكأنه لا يعرف أن السياسة الأميركية دمرت افغانستانوالعراق، وأن تبعيته الذليلة لهذه السياسة أضرت بسمعة بريطانيا حول العالم، وعرّضتها للارهاب، وقضت على إرثه السياسي نهائياً. هو أعلن أخيراً أنه باق الى ما بعد 21 حزيران يونيو المقبل، عندما تعقد قمة لرؤساء الحكومات الأوروبية في بروكسل ومشاركته ستعود بضرر من دون أي مردود ايجابي، فهو راحل بعدها، وقد فقد صدقيته، ووجوده سيحرم رئيس الوزراء القادم من فرصة لقاء القادة الأوروبيين الآخرين والتعارف والنقاش. أقول إن توني بلير فشل، وانتهى في عالم خاص من الأحلام والاوهام.