في مساء يوم من آب أغسطس 1997 كنت أرى سماء كابول من فوق جبل السراج على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة الأفغانية، وقد أنارتها صواريخ قوات التحالف الشمالي بقيادة أحمد شاه مسعود وزير الدفاع الراحل في حكومة برهان الدين رباني، وأحد أبرز قادة المجاهدين الأفغان ضد الاحتلال السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي. لم تمض ساعات قليلة على هذا المشهد حتى كنت أجلس أمام القائد الطاجيكي الأفغاني في حضور مستشاره السياسي وفي ما بعد وزير الخارجية الدكتور عبدالله عبدالله، وأطرح السؤال التالي: هل ستدخل العاصمة كابول الليلة أم غداً؟ ابتسم القائد الأفغاني قائلاً: لا الليلة ولا غداً! وعدت أسأله مرة أخرى متعجباً: الهجوم الذي تشنه قواتك كاسح، ويبدو لي بناء على مشاهداتي في حروب أخرى أن فرص الاستيلاء على كابول قوية؟! أجاب الرجل بتؤدة: نعم، أستطيع دخول العاصمة في الفجر بعد ساعات قليلة، لكنني لا أريد أن أخرج منها بعد أيام! لم أفهم ما يرمي إليه القائد الأفغاني، خصوصاً ان الدفاعات الطالبانية في ذلك الوقت كانت تتهاوى. ويبدو أن جهلي دفع القائد الأفغاني الى أن يوضح ما بدا لي غامضاً، حيث قال: عليك أن تعلم أن التركيبة القبلية العصبية للمجتمع الأفغاني يجب أن تحترم، فطالبان كلمة لا تعكس عرقاً، وإنما مجرد اسم سياسي له دلالته الدينية، لكن أعضاء حركة طالبان وأنصارها ينتمون الى الغالبية السكانية من البشتون، ونحن لا نسعى الى إقصاء الغالبية عن الحكم، وإنما نضغط عسكرياً لنفرض شروطنا التي من بينها زيادة تمثيل الأقليات في السلطة، ووقف بعض الممارسات التي نراها خاطئة من جانب طالبان، وهذا سبب عدم دخولنا كابول عسكرياً وليس عدم قدرتنا على ذلك، ونحن لا نريد أن نخرج منها في وقت أسرع من دخولنا إياها! * * * المؤكد ان رئيس وزراء أثيوبيا ملس زيناوي لم يكن حاضراً هذا اللقاء مع القائد الأفغاني الراحل، إلا أن العقلية الاستراتيجية التي يتمتع بها زيناوي دفعته للإعلان ان قواته لن تدخل العاصمة الصومالية مقديشو تاركة لقوات الحكومة الموقتة مهمة السيطرة عليها، وإن كنا نكاد نجزم بأن ضعف قوات الحكومة الموقتة سيدفع الأثيوبيين لدخول مقديشو، وإن تخفوا في الزي العسكري الصومالي، وهو ما يجعلنا نرجح بقاء القوات الأثيوبية في الصومال لفترة ليست بالقصيرة بهدف تأمين نظام الحكومة الموقتة. ويبدو ان التحرك الأثيوبي جاء بدفع من الولاياتالمتحدة التي أدركت ان العمل السري الاستخباراتي الذي كثفته داخل الصومال خلال السنوات الثلاث الماضية لن يؤتي أكله في الوقت المطلوب. والعمليات السرية التي تقوم بها واشنطن في الصومال، بما في ذلك تقديم مساعدات الى كل من الحكومة وأمراء الحرب، يؤكدها جون بريندر جاست المتخصص في الشؤون الأفريقية في عهد الرئيس بيل كلينتون، ويقول ان الولاياتالمتحدة تقوم بشراء المعلومات الاستخباراتية من أمراء الحرب الصوماليين، كما كلفت بعضاً منهم باختطاف مشتبه في انتمائهم الى"القاعدة"أحياء للاستجواب. ولأن الصومال ابن شرعي لأفريقيا، ورث عن قارته مواطن ضعف تميز دولها، من بينها التعددية القبلية والعرقية، الى جانب وراثته مكامن القوة التي حبا الله بها أفريقيا، ومن بينها الموقع الاستراتيجي الذي يصل بين قارة أفريقيا والشرق الأوسط، ويتحكم في مضيق باب المندب، والسواحل الطويلة على بحر العرب، ناهيك وهو الأهم - عن ثروة نفطية وغازية هائلة. تلك الامكانات الجيوبوليتيكية والطبيعية هي التي دفعت قوى دولية الى تحريك عوامل الضعف الكامنة في الجسد الصومالي. نبدأ القصة بالرجوع الى فترة حكم الرئيس الراحل محمد سياد بري منذ بداية سبعينات القرن ال 20 وحتى بداية تسعيناته. في تلك الفترة، تأكدت الولاياتالمتحدة بما لا يدع مجالاً للشك من وجود احتياط نفطي هائل يسبح فوقه الصومال، وهذا دفع شركات النفط الأميركية كونكو - أميكو - شيفرون الى رصد بليون دولار في مقابل امتيازات التنقيب والاستغلال. ودفع ذلك واشنطن الى تعيين روبرت أوكلي، أحد أهم ضباط الاستخبارات المركزية وأحد مهندسي ما عرف باسم فضيحة إيران - كونترا، مبعوثاً خاصاً لدى الصومال. والمفارقة التي لا تخلو من دلالة أن أوكلي كان يدير عمله في الصومال، إضافة الى طاقم سفارة بلاده، من مقر شركة كونكو للبترول في مقديشو! إلا أن الوقت لم يمهل واشنطن، إذ عمد محمد فارح عيديد أحد جنرالات الجيش الى الانقلاب على بري الحليف القوي لواشنطن، لتنزلق البلاد في حرب أهلية، وينتهي الحال بالصومال مقسماً الى ثلاثة كيانات هي: أرض الصومال في الشمال، وهي مكونة من ثلاث محافظات، ولها حكومة وبرلمان وشرطة وجيش، ولاية بونت، وهي مكونة من خمس محافظات، ولها هي الأخرى حكومة وبرلمان منتخب وشرطة وجيش، ويترأسها الجنرال محمود موسى يحمل للمفارقة الجنسية الكندية، أمراء الحرب الذين سيطروا على مقديشو حاربوا الحكومة الموقتة. أما المحاكم الإسلامية التي كانت توارت تحت ضربات أثيوبيا في بداية التسعينات، فعاودت الظهور في عام 1994، وقبل أن تؤدي الخلافات القبلية في عام 1996 الى تحجيم دورها السياسي والعسكري وحصره في التحكيم القبلي. وفي أعقاب هجمات 11 أيلول سبتمبر 2001، أجبرت الولاياتالمتحدة الحكومة الصومالية الانتقالية على إلغاء المحاكم الإسلامية بعد أن أدرجتها ضمن قائمة المنظمات الإرهابية. ودخلت الحكومة الانتقالية في مفاوضات طويلة مع رؤساء المحاكم الإسلامية انتهت الى ضمهم الى الجهاز القضائي الحكومي، واستيعاب الميليشيات التابعة للمحاكم في جهاز الشرطة. لكن فشل الحكومة الانتقالية في السيطرة على الوضع الأمني، ومعاودة الميليشيات القبلية السطو والنهب، وانشغال الحكومة وقادة الفصائل المعارضة بالمفاوضات في نيروبي، دفع عدداً من رجال الأعمال الصوماليين في مقديشو الى تبني إحياء المحاكم مرة أخرى. وعلمنا من مصدر موثوق به في شركة نفط أميركية انه"تم سد منافذ الكثير من الآبار المكتشفة الغنية بالنفط، كما تم التمويه على الكثير منها، وحفظت خرائط مفصلة عنها الى حين العودة مرة أخرى في ظل نظام موال...". ولعل كلمة"موال"تلك هي التي دفعت واشنطن الى عدم التجاوب مع دعوات المحاكم الإسلامية المتكررة للشركات الأميركية التي تمتلك حقوق استغلال في الصومال منذ نظام الرئيس السابق سياد بري للعودة، وبدء العمل، إلا أن ذلك دفع واشنطن الى الإسراع في إسقاط نظام المحاكم الإسلامية، لما تردد من أنباء عن تحرك صيني تجاه النفط الصومالي، وذلك لمنع تكرار ما حدث للنفط السوداني. والولاياتالمتحدة بتفويضها أثيوبيا بالمهمة نيابة عنها، كانت تتفادى تكرار العملية الفاشلة التي قامت بها تحت مظلة الأممالمتحدة في عام 1993، وكان اسمها"استعادة الأمل"ولكن ليس للشعب الصومالي، وإنما لشركات النفط الأميركية! ومن المفيد في هذا المقام، التعرف عن قرب على اللاعبين الرئيسيين المباشرين في هذا الصراع وولاءاتهم الإقليمية وما وراء الإقليمية. ولدى هؤلاء قدرة على قراءة أفكار بعضهم البعض سياسياً وعسكرياً، بفضل تاريخ طويل متشابك ربطهم بعلاقات تأرجحت ما بين العداء الشديد والتحالف الوثيق. - ملس زيناوي رئيس وزراء أثيوبيا 54 سنة وهو أبرز اللاعبين بقدراته السياسية الفكرية التي أهلته لأن يقود تمرداً بنجاح في أثيوبيا ليخلع منغستو هيلامريام عام 1991، ويجلس في سدة الحكم منذ ذلك الحين كواحد من قادة أفريقيا. وبدأت علاقة زيناوي بحسن ضاهر عويس زعيم ما يعرف باسم"المحاكم الإسلامية"بداية دامية، كما يحتمل أن تنتهي قريباً نهاية دامية! فلم يكد زيناوي يستقر في الحكم حتى بعث بقواته الى الصومال لقمع بدايات حركة"المحاكم الإسلامية"في مهدها، الأمر الذي توج بانتصارات عسكرية أثيوبية، إلا أنها لم تنجح في اقتلاع الحركة الإسلامية من جذورها، والدليل هو التدخل الأثيوبي الحالي. - الشيخ حسن ضاهر عويس زعيم المحاكم الإسلامية 65 سنة يقال انه القائد الفعلي للتيار الجهادي السلفي في الصومال، وهو عقيد سابق في جيش الرئيس سياد بري، ومقاتل شرس خاض حرب أوغادين ضد الجيش الأثيوبي عام 1977، ومنحه الرئيس بري وسام الشجاعة. وعويس مثل غالبية الشعب الصومالي - يؤمن بضرورة استعادة الصومال إقليم أوغادين ذي الأكثرية الصومالية، والذي يخضع للسيادة الأثيوبية. وينتمي عويس الى قبيلة"الهبرجدر"التي ترجع أصولها الى الجزيرة العربية. والطريف، أن الرئيس الحالي عبدالله يوسف أحمد وقع أسيراً في يد عويس خلال الحرب التي شنها الأخير في عام 1992 للسيطرة على إقليم"أرض بونت"شمال شرقي الصومال، والتي كان الرئيس الحالي أحد مؤيدي استقلالها. وصدر حكم بالإعدام على الرئيس الحالي، إلا أن الشيخ عويس استجاب لاسترحام الداعية الإسلامي الصومالي عبدالقادر نور فارح بالإفراج عن الرئيس الحالي وصحبه من دون قيد أو شرط، وها هو عبدالله يوسف يقود حرباً شعواء على عويس! - عبدالله يوسف أحمد 75 سنة عين رئيساً للصومال منذ إنشاء الحكومة الموقتة عام 2004، وهو حليف لأثيوبيا ساعدها من معقله في أرض بونت شمال الصومال في إنزال هزيمة بالمحاكم الإسلامية في بداية التسعينات. والمفارقة أن تحالفه مع أثيوبيا جاء بعد أن خاض الحرب ضدها كقائد في جيش نظام سياد بري السابق في السبعينات من القرن الماضي. ويوسف ينتمي الى قبيلة"دارود"جبرتي إسماعيل كبرى القبائل الصومالية، تنتشر في مساحات واسعة من شرق وشمال ووسط وجنوب الصومال، ناهيك عن اثيوبيا إقليم أوغادين، وكينيا إقليم أنفدي. - علي جيدي، رئيس الوزراء في الحكومة الموقتة، وهو من التكنوقراط، ينتمي الى قبيلة"الهوية"، إحدى القبائل الكبيرة المنتشرة في وسط الصومال، خصوصاً في العاصمة ومحيطها. وما يميز جيدي انه الى جانب صفته الفنية، لم يتورط في الحرب الأهلية مثل زعماء قبيلته الذين تلطخت أيديهم بدماء آلاف من الأبرياء. - اساياس أفورقي، رئيس أريتريا، ورفيق الكفاح المسلح لزيناوي في غابات أثيوبيا في الثمانينات، ذلك الكفاح الذي انتهى بإسقاط نظام منغستو، وأفسح الطريق لاستقلال أريتريا، وذلك قبل أن ينقلب أقرباء الأمس - حيث ان الرجلين أبناء خؤولة الى عدوين لدودين. وكانت الأممالمتحدة رصدت في تشرين الأول اكتوبر الماضي تحريك أريتريا 1500 جندي وعشرات الدبابات الى المنطقة الحدودية مع أثيوبيا ما أثار القلق. مجريات الأحداث الأخيرة في الصومال تؤدي الى ملاحظات ذات دلالة، من بينها: 1 - الانسحاب التكتيكي الذي استخدمته قيادات المحاكم ليس غريباً عليهم قولاً وفعلاً. فقد مارست المحاكم هذه الانسحابات والاختفاءات التكتيكية على مدار 16 سنة. وكانت تعاود الظهور مرة أخرى في شكل أقوى. وحديث قيادات المحاكم عن حرب استنزاف طويلة الأمد مع أثيوبيا، ليس غريباً عن تاريخ تحرك المحاكم. 2 - اختيار الولاياتالمتحدةأثيوبيا كقوة عسكرية كبرى في القرن الأفريقي وأداة لقلب نظام"المحاكم"، يعتبر اختياراً سيئاً، لإغفال واشنطن عامل الكراهية التاريخية التي يكنها الشعب الصوماليلأثيوبيا جاره اللدود. هذه الكراهية هي التي دفعت بآلاف من عرق الأورومو المسلكين الأثيوبيين، وإخوانهم من مسلمي إقليم أوغادين الى القتال في صفوف"المحاكم"، فكيف بأبناء الشعب الصومالي ذاته؟! 3 - الموقف الأميركي الذي أعاق إصدار مجلس الأمن بياناً يطالب الأطراف الخارجية بما فيها أثيوبيا بالانسحاب من الصومال، تطابق مع ميوعة موقف الاتحاد الأفريقي إزاء مخالفة أثيوبيا ميثاق الاتحاد بدخول قواتها الصومال من دون تفويض من مجلس الأمن والسلم أو من المجلس الرئاسي التابعين للاتحاد. ولعل ذروة الأزمة الصومالية بدخول قوات أثيوبية أراضي الصومال جسدت للمرة الأولى القاسم المشترك الأعظم بين الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي، وهو الولاياتالمتحدة. والدليل هو تصريحات باتريك مازيمهاكا المتحدث باسم الاتحاد الافريقي لهيئة الإذاعة البريطانية الثلثاء الماضي، مؤيداً التدخل الأثيوبي في الصومال، ومشيراً الى أن لأديس أبابا الحق في التدخل العسكري إذا شعرت بأن سيادتها مهددة! صحيح ان في اليوم التالي لهذه التصريحات الغريبة، وبعد اجتماعه بوفد الجامعة العربية في مقر الاتحاد في أديس أبابا، بحضور وفد من تجمع الإيغاد، دعا رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي ألفا عمر كوناري أثيوبيا الى الانسحاب، إلا أن القوات الأثيوبية كانت آنذاك تدق أبواب مقديشو! * * * كلما تأملت في حكمة القائد الأفغاني أحمد شاه مسعود التي بدأنا بها المقال، كلما تمنيت على الرئيس عبدالله يوسف أن يدرك انه إذا ونقول إذا من باب الشك نجح في السيطرة على النمر الأثيوبي الذي امتطاه لدخول مقديشو، فإنه يجب أن يقنع هذا النمر بألا يجره الى مطاردة المحاكم الإسلامية فيتحول الصومال الى أفغانستان جديدة، وتتحول"المحاكم"الى طالبان أخرى... * كاتب مصري.