اول ما يتصدى له الأهل هو كذب اطفالهم. ويطلب الوالدان من الأولاد ان يقولوا الحقيقة وألا يخافوا. وبذلك يزرعون عميقاً في أذهان الصغار ان في قول الحقيقة أمر يرتبط بالخوف. يحصل هذا وإذ يبدأ الصغير كلامه بالتلعثم، يوحي أهله اليه بأنه خائف بينما يحاول قول الحقيقة. وهو الأمر الذي يوثق الشعور بالخوف مع قول الحقيقة. ولا يعلم الصغير ما الذي يجب ان يفعله تحديداً، فلعله"يندهش"امام هذا النوع من القهر، في حين تشتد قوة اقتران فكرة الخوف مع فكرة القول. وإذا كانت الحقيقة مقترنه بالخوف ولو في ظرف واحد، لا يعود قول ما هو ليس حقيقة كذباً. فعكس الحقيقة هو الخيال: ينسج المرء وقائع في خياله وتبدو للسامع وكأنها حوادث حدثت. وهذا"وهم الواقع"او محاكاة الواقع، ومحض خيال ليس إلا. التأليف الأدبي او الغني هو من محض الخيال، نسيج ينسجه المرء إما محاولاً استيعاب ما يجرى من حوله في الحياة وإما ليصور تلك الأمور التي تحدث ويعلّق عليها. وهذا من سمات الإبداع. والإبداع هو القيمة المضافة الى الواقع المتخيّل، وفي الفن يسمى"علم الجمال". فأي نسج للخيال يصاحبه تعليق الفنان يصل الى المتلقي"واقعاً"وقولاً نابعاً من ذات الفنان. وفي ذلك خروج من حال قول الحقيقة او من الشعور بالخوف او من الظن او الشك. وفي العمل الابداعي حرفة في صناعته، وهو يضفي قيمة على حياة البشر واجتماعهم. إذاً، في العمل الفني واقع متخيل وقيمة مضافة. وقد وصف الفيلسوف الاغريقي ارسطو كاتب التراجيديا المأساة بأنه شخص يكذب. وكلما أجاد هذا الكاتب كذبه كلما ازداد روعة. وروعة النسج يتناسب مع الحكمة في اقوال الكاتب. بيد ان الحكمة هي قول صادق، لأنها تنطبق على الحياة وتسمو بالانسان نحو عيش افضل. فالفن، اذاً، يجمع نقيضين: الأول هو الكذب والثاني هو القول الصادق. علماً ان الغاية من الفن هي الجمال. لكأن في العمل الفني تلاقى الكذب والصدق، فكان الجمال... وكانت الحكمة على حساب الكذب. قال بيكاسو، وهو من أشهر الرسامين في القرن العشرين، صاحب المدرسة"التكعيبية"،"العمل الفني هو كذبه نستنبط منها الحقيقة". الحقيقة هنا ترتبط بالمستوى الأعلى من الفكر. وقال هيغل الفيلسوف الألماني الشهير، صاحب الفلسفة"المثالية":"ان الغاية من الفن هي الفلسفة". أي ان الغاية المنطلقة من الكذب هي الصدق الذي يولّد في داخلنا الشعور بالجمال.