تعود علاقة الفلسفة بالشعر إلى ما أدرجه أفلاطون في كتابه الثالث من الجمهورية، حين طالب بطرد الشعراء خارج المدينة الفاضلة، لأنهم ينحرفون بالفكر عن درب الحقيقة، وحين وسم الشعر بالعاطفة، وذهب إلى اعتبار الفلسفة تقوم على «حب الحكمة». هذه الأقوال وغيرها عند أفلاطون تشير بوضوح إلى استعمالين للغة، وإلى التفريق بين الشعر والفكر في علاقتهما بالواقع. من المتفق عليه اليوم، أن علاقة الفلسفة بالشعر تتمركز حول اللغة، وفي اللغة بالذات، فكلاهما يفهم الواقع على طريقته، ويعبّر عنه بلغة خاصة به. الفلسفة تستعمل لغة المحاجّة العقلانية، بينما الأدب يستعمل لغة ذات بعد جمالي. وهكذا، ففي وجه ثرثرات الكلام التي تسود عمليات التواصل في مجتمعاتنا الاستهلاكية، تسعى الفلسفة والشعر إلى العودة باللغة إلى براءتها الأولى، وإشراقها البهي. يميز رولان بارت في هذا السياق، بين لغة الكاتب ولغة المدوّن، بين لغة الشاعر ولغة الفيلسوف. قائلاً إن الكاتب (والشاعر ضمناً) يعتبر اللغة غاية بحد ذاتها، لذا يشتغل على كلماته قبل أن تبصر وجودها الشعري، بينما المدوّن أو الفيلسوف فيعتبر اللغة وسيلةً في خدمة أفكاره. تتواصل الفلسفة مع الشعر إذاً، عبر اللغة، ويتمايز الاثنان في كيفية كتابة واقع ما نشعر به ونفكّر فيه. من هنا كان السؤال في القديم والحديث يتردد دائماً، أيفكّر الشاعر عندما يكتب! والفيلسوف أيكتب عندما يفكر! في الواقع، الكتابة هي مكان الصراع بين هذين النشاطين الإنسانيين، وهي مجال الاختلاف بينهما لجهة اقترابهما من الواقع وملامسته، والتعبير عنه. من هنا قام في الفلسفة الحديثة اتجاهان حول طبيعة اللغة، في علاقتها بالواقع. اتجاه يبحث عن الواقع في تجليّه الميتافيزيقي، واتجاه يفكر في اللغة بحدّ ذاتها، واعتبارها مجالاً للبحث والتفكير في الواقع من حيث هو واقع تقوم اللغة مقامه. في الكتاب الذي أصدرته «المنظمة العربية للترجمة» لأستاذ الفلسفة في جامعة السوربون كريستيان دوميه «جنوح الفلاسفة الشعري» والذي ترجمته ريتا خاطر، عودة إلى علاقة الفلسفة بالكتابة الشعرية، من خلال أبحاث بعض كبار الفلاسفة أمثال ديكارت، وكنت، ونيتشه، وهايدغر، وغيرهم. والأبحاث التي يشتمل عليها الكتاب لا تعالج العلاقة التي تربط الفلسفة بالشعر ولا تعالج أيضاً المضمون الفلسفي الذي تنطوي عليه بعض القصائد الشعرية، بل تنظر في العلاقة التي أنشأها الفلاسفة من خلال مطالعتهم للقصائد الشعرية. تتجلّى فرضيّة كتاب «جنوح الفلاسفة الشعري» لدوميه في أن الفلاسفة يميلون بمقتضى ظروف وأساليب خاصة إلى ملاقاة القصيدة الشعرية سواء اتخذت شكل الحلم، أو الخيال المبدع، أو الحنين، محاولين توطين مضمونها في أرض الإدراك العقلي. يحاول الفيلسوف في قراءته القصائد الشعرية كما يكتب صاحب الكتاب أن يفهم كيف يتكلم الفكر شعراً، بشكل أفضل مما تتكلمه الفلسفة فكراً. إن الشاعر في عمله على اللغة بغية تحويلها إلى شعر يعيد إلى الكلمة ألقها وإلى الجملة بهاءها، فالشاعر يبث في كل مفردة وكل جملة حياة جديدة وهالة تشع في كل الاتجاهات شكلاً ومضموناً. ونتيجة لذلك تأخذ لغته شكل صورٍ، توحي بالتساؤلات، وتنطق بعلامات التمييز والمباينة، والتبدّد والجمع التي تشوب معقولات العالم الظاهرة والمخفية. إن ما تحدثه الكلمات عبر ريشة الشاعر وضمن القصيدة، هو بمثابة صدمة كهربائية بحسب تعبير الشاعر الفرنسي أندريه بريتون. صدمة تحوّل مادة الكتابة إلى صور شعرية أشبه ما تكون بالعقاقير المنبّهة التي تسرّع نبضات المخيلة، وتكشف عن سبل تكون الأشياء وصيرورتها، وهذا ما يبحث عنه الفيلسوف، فالصور التي يدركها من خلال قراءته القصيدة التي تؤلف عالماً بذاته تمثّل ذروة بحثه عن فهم هذا العالم في كل معطياته. وقد شدّد الفيلسوف الفرنسي جول دولوز على الشبه بين النشاط الذي يقوم به الكاتب (وضمناً الشاعر) وبين ما يقوم به الفيلسوف فكلاهما يضع نفسه في موضع الترحّل، أي في اعتماد أسلوب الذهاب والإياب إلى التصوّر العقلي، من خلال المرور بالصور والأشخاص، ومختلف أشكال اللحن، والإيقاعات، والمشاهد. إن كل موقف نتصوّره اليوم على أنه خلق فنّي كما يؤكد هايدغر، كان يُعدّ قصيدة بالنسبة إلى اليونانيين. وأن نفلسف يعني أيضاً أن نحمل، وأن ننقل ما يكون قائماً أصلاً بغية إظهاره. فما هو قوام هذا الخلق؟ وما الذي يميّزه عن الخلق الشعري؟ إن رصد طريقة عمل الفيلسوف، وطرح الأسئلة حول أساليب عمله، أسوةً بما يجري مع الرسام أو الشاعر أو الموسيقي، وحول النهج الذي يتكون فيه الخطاب على المستوى الفلسفي. إن عملية الرصد هذه تمثّل طريقة قائمة للنظر في الأمور الفلسفية، ولكن قلة من الأشخاص سواء كانوا فلاسفة أم لا يحاولون الكشف عن الكيفية التي يعمل بموجبها الفكر، ومن بينهم فرويد الذي كتب منوهاً بأن سبينوزا ابتكر فرضياته انطلاقاً من «المناخ الذي خلقه»، وليس انطلاقاً من دراسة عمله الأدبي. ووحده ربما بول فاليري يجعل هذا النهج من النظر في طريقة العمل العقلية الموضوع الأكثر ثباتاً في فكره الخاص. فشخصية السيد تيست كما يقول هي الصورة المعكوسة للفيلسوف. بمعنى أنها تعيش عيشة الشخص الذي يشاهد نفسه يعيش. ثمة أداة تعبر عن طريقة العمل العقلية تكمن عند الشاعر في استعمال الاستعارة، وثمة وظيفة يؤديها الخيال كما يقول الكاتب الإيطالي آلان لومباردي. فعملية إدراك العلاقات التي تقوم بين حقائق جدّ متباعدة، وإيجاد مقارنات وتشابيه جدّ فطنة ومبتكرة، وإنشاء تماثلات وتشابيه بين أغراض تنتمي إلى أنماط مختلفة للغاية، ومقارنة الأشياء الخيالية مع الأشياء المادية الصرف، بغية فرض الفكرة الأكثر تجريداً، وبغية إسناد كل شيء إلى الصور، فضلاً عن ابتكار الصور الأكثر جدةً وقوةً، تلك هي بعض المواهب التي يتحلّى بها الشاعر. ويستخلص لومبردي أن تلك هي أيضاً المواهب التي يتحلّى بها الفيلسوف وتتلخّص كالآتي: «ملكة اكتشاف الصلات، ومعرفتها، وملكة ربط التفاصيل ببعضها، والتعميم». في الخلاصة كتاب «جنوح الفلاسفة الشعري» لكريستيان دوميه، كتابٌ يفصل كيف يتمّم الشعر عمل الفلسفة، وتواصل الفلسفة عمل الشعر، ويوضح أن عالم بلا فلسفة هو عالم أهوج، وأن عالم بلا شعر هو عالم فقد روحه. كتاب قراءته مكلفة، ولكنها تغني عن عشرات الكتب.