رغم الاعتراف المتأخر للأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان وهو لم يزل على"قمة الجبل"، باختلال النظام العالمي، باقتصاد عولمة ظالم وفوضى في القارات الخمس وما بينها، وبترنح حقوق الإنسان التي رُفِعت شعاراً لحروب واستغِلت ستاراً لتغيير حكومات… على رغم ذاك الاعتراف في الخطاب الوداعي لأنان من على أعلى منبر في العالم، من الإنصاف عدم تحميله وزر وهن المنظمة الدولية، منذ أصابها مرض التفرد الأميركي بتفصيل المعايير الجاهزة لكل شيء على الأرض، شعوباً ودولاً، سياسة وأخلاقاً. خطاب وجداني، ربما، عقلاني في عمومياته، لرجل يغادر"قمة الجبل"من دون أمل بالعودة إليها، شخّص المرض من دون وصفة للعلاج. والأمل ضعيف حتماً في افتراض قدرة الخطيب الأكبر امام الجمعية العامة للأمم المتحدة، الرئيس جورج بوش على الإصغاء للطبيب، وطلب الوصفة، بدلاً من التصفيق والثناء على"طيبة"الأمين العام الذي"تمرد"على واشنطن في العراق ولم يمنحها شرعية للغزو لكنه لم يحل دون الحرب… اراد حياة للجنة الرباعية في الشرق الأوسط، لكنه عجز عن منع أميركا من"مصادرتها"، وإحكام أبواب السجن الإسرائيلي الكبير حول الفلسطينيين. ولم يكن في يد الأمين العام سوى التحسر على مصير العراق، والخوف من تفتيته… سوى الرضوخ للعبة الأمم في الحرب على لبنان، والتدويل الأميركي لقضية دارفور، والشراكة الأميركية - الإسرائيلية في محاولات تصفية قضية فلسطين وتحويلها مسألة أمنية - مالية! بداهة، من العبث افتراض"تعقّل"بوش، وتأجيله خطابه في افتتاح الجمعية العامة، لينصت الى شجون الأمم والزعماء والأمين العام، فيصوغ نهجاً أو خريطة اخرى لعلاقات أميركا مع العالم، ويعرض بلا إملاءات شراكة أميركية - عالمية من نوع ينبذ الاستعلاء، و"مبادئ"من نوع"أنا وحدي على حق"، والولايات العظمى المتحدة أولاً، و"مَن ليس معي عدوي"، و"كل من يرفع بندقية إرهابي"… و"كل من يقول لا، أصولي متطرف"، وكل من يرفض الرضوخ لثقافة أميركا متخلف وكل من يعادي هيمنة الاحتكارات في الأسواق، فقير جاحد! قمة العبث افتراض تراجع من يدير شؤون العالم بقبضة"الحرب على الإرهاب"الى فضيلة الإصغاء والحوار، ونقد الذات، إذ تصبح العادة أمّ السياسات. نسمع أنان يشكو من فوضى العالم، نسمع بوش مبتهجاً بزحف الديموقراطيات، يتحدث الأمين العام عن معضلة إذلال إسرائيل الفلسطينيين كشعب، فلا يرى الرئيس الأميركي افضل من تقديم وعد بمساعدتهم في"إصلاح أجهزة الأمن"في غزة. ينصح الرئيس الفرنسي جاك شيراك بمؤتمر دولي للسلام في المنطقة، فيحجّم بوش مأساة ذلك الشعب الى"خلافات"مع الإسرائيلي، كأن مصير الفلسطيني التائه بين لاواقعية"حماس"وبين بطش العدو، مجرد خلاف على رسوم جمركية بين ايهود أولمرت واسماعيل هنية. نسمع بوش يحجّم معضلات لبنان، بما فيها تداعيات حرب شريكه الإسرائيلي، يبسّط الطموحات النووية لإيران ويختصرها بمشكلة حريات ! وفي النهاية يثني على أنان"المجتهد"، من دون ان يعد بقراءة متأنية لخطاب الأمين العام الذي لا يمكنه تصنيفه في خانة"المتشددين"أو"المارقين"، او المنحازين الى طهران وبيونغيانغ. ولن يعد الرئيس الأميركي حتماً بالتمعن في أسباب تروي شيراك، وانحيازه مجدداً الى فكرة المؤتمر الدولي للشرق الأوسط بدلاً من الشرق الأوسط الكبير أو المصغّر، حيث الطريق الوحيد الى التعقل بعد موت"خريطة الطريق"، تكبيل فلتان القوة الإسرائيلية بشاهد دولي على تسوية معززة بضمانات. الفارق الكبير بين أنان وبوش، ان الأول يودّع والثاني لا يريد عشية انتخابات ان يودع الجمهوريون الإدارة الأميركية. إذاً، مزيد من الوعود بدولة للفلسطينيين فيما تتولى إسرائيل تحويل سلطتهم وحكومتهم الى حرس بلدية مفلسة… وعود بأحلام للإيرانيين اذا تخلّوا عن حكامهم، وأخرى للبنانيين اذا نجحوا في تقزيم معضلاتهم الى مواجهة مع"المتشدّدين". كل ما قدمه انان، أسىً من الظلم والفوضى اللذين يقودان العالم الى المجهول، كل ما يقدمه بوش شيك بلا رصيد.