كرر توني بلير الذي يواجه متاعب في بلاده وداخل حزبه العمالي ، انه سيتم إحياء الاهتمام بالشرق الأوسط بعد إجراء الانتخابات الأميركية. قال بذلك في غمرة دفاعه المستميت عن المشاركة البريطانية في الحرب على العراق، معتبراً أنه يواجه مأزقاً لفظياً، بين إقراره بالأخطاء ورفضه الاعتذار وتحمل المسؤولية، لكنه وجد فرصة لإطلاق وعد بمعاودة الاهتمام بملف الشرق الأوسط . وفي هذه الإشارات المتكررة ، إقرار بأن حكومته انصرفت الى الإعداد للحرب والمشاركة بها خلال العامين الماضيين، ولم تضع شيئاً لسلام الشرق الأوسط. بل إن دائرة المعنى تتسع، فثمة دفاع ضمني عن حليفه الرئيس المرشح جورج بوش . فهذا الأخير سينصرف الى الاهتمام بوضع الشرق الأوسط ، إذا عاد إلى البيت الأبيض، وهناك من يعتبر أن خسارة بوش وفوز كيري، قد ترفع الحرج عن بلير، وتعيد لتحالفه مع واشنطن سياقاً أيديولوجياً أكثر تماسكاً، وحيث سيكون كيري إذا فاز، أقل سوءاً بالتأكيد من سلفه الجمهوري. وغاية المقال هنا ليست الإشارة إلى بلير تحديداً وإلى السياسة البريطانية عموماً في عهده، بل استشعار التقصير الدولي العميق حيال الوضع في الشرق الأوسط وفي الأراضي المقدسة بالذات خلال العامين الماضيين. وكانت إشارات متفرقة صدرت عن شيراك وكوفي أنان وخافيير سولانا، تدلل على تحسس هذا التقصير والإقرار به. إذ أن الأمر لم يقتصر على الانشغال بتطورات الوضع العراقي ولا على تحديات مكافحة الإرهاب وطلب تركيا الملح بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بل إن في الأمر خضوعاً غير مسبوق لابتزاز لامثيل له من طرف أرييل شارون ل"المجتمع الدولي". وفحوى هذا الابتزاز ان أحداً في العالم لا يسعه"التدخل"في ملف الشرق الأوسط، لا الاتحاد الأوروبي ولا الأممالمتحدة ولا محكمة العدل في لاهاي، ولا أي طرف آخر. وإنه إذا كان للجنة الرباعية أن تواصل وجودها واجتماعاتها بين وقت وآخر، فإن الطرف الذي يستحق الإصغاء إليه داخل اللجنة هو ممثل الولاياتالمتحدة فقط ومن الأفضل لبقية الأطراف الأعضاء، أن يأخذوا بالمنطق الأميركي، إذ رغبوا في أن يصغي لهم أحد في الحكومة الإسرائيلية. هذا هو فحوى الابتزاز الإسرائيل الليكودي. وللأسف الشديد فقد شهد العالم أن هذا الابتزاز قد أثمر. فالمندوبون الأوروبيون كالمفوض سولانا والوزير يوشكا فيشر يجري صدهم في تل أبيب و"إقناعهم"بأنه ليس من شأن الاتحاد الأوروبي"التدخل"في ما يجري. ومحمد البرادعي يجري إفهامه بأنه من المبكر الحديث عن الملف النووي الإسرائيلي، قبل أن يحل السلام في الشرق الأوسط على الطريقة الليكودية مع توجيهه للاهتمام بالملف النووي الإيراني فحسب. وكوفي أنان غير مرحب به وليس هناك ما يحمله على زيارة رفح أو جنين بعد زيارة تل أبيب. وفرنسا شيراك إن لم تكن متهمة باللاسامية، فعليها أن تثبت على الدوام عكس ذلك بدلاً من دس الأنف في ترتيبات إقامة إسرائيل كبرى. وعلى الفرنسيين والبريطانيين، إذا ما أرادوا الاهتمام بالوضع الإنساني أن يقصدوا دارفور دون سواه. وعلى بابا الفاتيكان أن يعنى بوضعه الصحي الصعب بدلاً من الانشغال بالمسيحيين في القدس وبيت لحم. وعلى روسيا أن تنصرف لمعالجة ملف الإرهاب في الشيشان، وأن تفيد من الخبرات الإسرائيلية في هذا المجال، بدلاً من انشغال لا معنى له ب"خريطة الطريق". وعلى الصين التي سبق لها أن عينت مبعوثاً لها في الشرق الأوسط ، أن تباعد بين زيارات هذا المبعوث كيما تتسنى مقابلته مرة كل عامين مثلاً. اما موظفو الأممالمتحدة وخاصة ممن يتبعون وكالة الغوث الأونروا، فإن منزلتهم لا تزيد عن ناشطي سلام أو صحافين أجانب، وخاصة إذا ما واصلوا رؤية وملاحظة نشاطات جيش الدفاع في مخيمات غزة. هناك بطيعة الحال حالات"تمرد"على الابتزاز الإسرائيلي، من قبيل المواقف القوية للحكومة التركية، التي وصفت سلوك جيش الاحتلال بأنه سلوك إرهابي، وقامت بالحد من تبادل الزيارات المتبادلة مع تل أبيب. وهناك الممانعة الفرنسية الباقية والممتدة، التي يعبر عنها الرئيس شيراك ووزير خارجيته بارنييه ، وثمة مواقف ثابتة لرموز في الاتحاد الأوروبي. غير أن هذه الممانعات تبدو ضئيلة، قياساً بالسلبية شبه التامة التي تطبع المواقف الدولية والتي يميل أصحابها إلى الابتعاد عن"صداع الرأس"وترك الشرق لأهله... أو لمن يتبقى من أهله. وقد تضافر مع الابتزاز الإسرائيلي، النشاط المستمر ولو المتقطع لمنظمة القاعدة، وتحذيراته مثلاً من غزوات لأوروبا القارة وليس أقل من ذلك. فمع حصر مخاطر الوضع في الشرق الأوسط داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، من دون امتدادات أو انعكاسات خارجها، فقد نجحت القاعدة أو ما تبقى منها في تصوير"نفسها"منتدبة لنشاط عابر للحدود والقارات، وقد أسهم هذا"النجاح"في خلط صورة العربي بالمسلم بالشرق أوسطي بالفلسطيني، وساهمت"النظرية"الأميركية ، التي تفيد بأن الحرب على الإرهاب ، تتطلب ملاحقة الإرهابيين داخل التجمعات السكنية وداخل مدن بأسرها في اعتناق شارون لها، إذ وجد في ذلك ضالته للقيام بحملة تطهير عرقي كان يمني النفس بها، بعد أن سدت في وجهه أبواب تهجير الفلسطينيين عبر الحدود. والأسوأ من ذلك هو فقدان قوة دفع للسلام والتعاون عبر العالم، وتغليب النزعة الحربية التي استشعر بلير كما يبدو - ومتأخراً - خواءها، اذ وعد بالنيابة عن حليفه الأميركي وبالأصالة عن نفسه، باهتمام لاحق بسلام الشرق الأوسط. وفي حصيلة الأمر ، فإن الاندفاعة الأميركية لتعظيم وحماية مصالحها، عبر أكبر استعراض للقوة خارج الحدود والمماشاة البريطانية لهذه السياسة، هي أدت إلى الغطرسة الإسرائيلية غير المتناهية وإلى التنكيل بشعب بأسره واستباحة أراضيه وتدمير كيانه السياسي والقانوني المعترف به، وسط صمت العالم وسلبيته وسعي مكوناته دوله إلى الحد من أية أضرار قد تلحق بها، جراء الجموح الأميركي والابتزاز الإسرائيلي. ذلك ان العالم قد وصل في مطالع الألفية الثالثة إلى تعددية قطيبة ، طالما نادى بها كثيرون ببروز القطب الإسرائيلي إلى جانب الأميركي. وبدلاً من حرب باردة بين القطبين السابقين ، هناك الآن حروب ساخنة تتم بالتعاون بين هذا الثنائي الجديد. فيما بقية العام يتقافز محاذراً ان تناله ألسنة النيران أو سُحب الدخان . * كاتب من الاردن.