من على منبر الأممالمتحدة، حرص الرئيس الأميركي على الظهور كأنه الملاكم الذي يحطم فك خصمه لكنه أيضاً طبيب الأسنان الذي يسعى الى ترميمه. لو لم يفعل ذلك لبدا منظره أفضل، ولما كانت كلمته على هذا القدر من الهزال والبهاتة. لذا كان من الطبيعي أن تقابل دعوته للمشاركة في إعادة إعمار العراق بالسؤال عمن زاد العراق خراباً على خراب؟ لم يسبق ان حصل مثل هذا الاجماع الدولي على أن مداخلة الرئيس الأميركي أمام الجمعية العامة، وهي حدث سنوي يترقبه الجميع، كانت غير موفقة وغير مقنعة، لا في دفاعها عن الحرب ولا في تصوراتها لما بعد الحرب، لا في احاطتها بمشاكل العالم ولا في رؤيويتها لحل هذه المشاكل. وما لم يقله جورج بوش تكفلت به لهجته المتغطرسة. كان متوقعاً أن يدافع عن الحرب و"أخلاقيتها"، لكنه جاء خصوصاً ليطلب مساعدة الأممالمتحدة والمجتمع الدولي في تحمل اعباء ما بعد الحرب. وكان متوقعاً أيضاً أن يسمع الأميركيون انتقادات للحرب التى أقدموا عليها في اطار نظرية "الحرب الاستباقية" من دون تأييد الأسرة الدولية ومساندتها، ومن دون أي اعتبار للأمم المتحدة التي تستنجد بها أميركا الآن. كان مفهوماً أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك، فضلاً عن كوفي انان، أراد أن يقول بوضوح انه مع كثيرين في العالم، دولاً وشعوباً، يناوئون هذا المفهوم للحرب ويطالبون بعدم تكراره لأنه يخرّب النظام الدولي وقوانينه ويعني ان دولة واحدة تعطي نفسها حق خوض الحروب وفقاً لمصالحها الخاصة. مع ذلك لن تعارض فرنسا قراراً جديداً لمجلس الأمن يعطي الأممالمتحدة ما يسمى باللغة الأميركية الجوفاء "دوراً حيوياً"، لكنها قد لا تساهم مع ألمانيا وروسيا والصين إلا بشكل رمزي في انتظار أن تعود السيادة والحكم الى العراقيين. وهذه العودة مؤجلة، من دون مواعيد أو التزامات، بحجة ان العراقيين ليسوا جاهزين بعد لإدارة شؤونهم. ولكن في انتظار تلك الجهوزية لا يضيع الأميركيون الوقت، ولا يكلون من فتح الأبواب للاسرائيليين كي يدخلوا الى حرم البيت العراقي، ولم يجدوا ما يمنع من عرض قطاعات العراق ومؤسساته باستثناء النفط المؤمم أميركياً للبيع على الساحة الدولية. كيف يمكن والحال هذه أن تعمل الأممالمتحدة، كيف تقوم بدورها "الحيوي" ومن أجل ماذا؟ في أسوأ الأحوال وفي أحسنها تبدو المنظمة الدولية مدعوة الى خدمة سلطة الاحتلال، وسيتمثل دورها في مساعدة الشعب العراقي بالخبرات التي يمكن أن توفرها في مجالات مختلفة، وهذا عمل مطلوب بإلحاح، لكن نتيجته المؤكدة تصب في تجميل وجه الاحتلال الذي سيستمر بأشكال مختلفة بعد قيام حكم عراقي منتخب. وهذا مع افتراض ان عمل فرق الأممالمتحدة سيتم بيسر وسهولة، لكن مفاهيم العمل مختلفة لدى الأميركيين عنها لدى الأمم متحديين. فهؤلاء سيرشدون العراقيين الى أفضل السبل لممارسة سيادتهم، وأولئك سيحرصون على أن يمارس العراقيون سيادتهم تحت السيادة الأميركية. فالمصالح الكثيرة والمتشعبة للأميركيين في العراق تستلزم وقتاً طويلاً لضمان بقائها في أيديهم من دون أن يكونوا موجودين على الأرض. الأهم، في الجدل الدولي المتجدد، هو أن الولاياتالمتحدة لا تنفك تعطي اشارات الى أنها في صدد حروب مفتوحة، ولعل أبلغ دليل الى ذلك اداؤها السلبي الموتور حيال التطورات الفلسطينية الاسرائيلية. فهي فقدت كل بوصلة في كيفية التعامل مع القضايا الاقليمية، ولم تعد تستوحي سوى ردود فعلها الغريزية التي أثارتها هجمات 11 سبتمبر. لذلك فإن مكافأة هذه الحرب بمقدار من الشرعية الدولية تترجم لدى "صقور" واشنطن بأن "الحرب الاستباقية" شقت طريقها ولم يعد هناك ما يقف في طريقها. هذا هو جوهر المعارضة الدولية للحرب على العراق. تمرير هذا المفهوم الحربي هو الهم الرئيسي للإدارة الأميركية وصقورها، خصوصاً أنه يبقي الحرب على الارهاب والمصالح المرتبطة بها على جدول الأعمال الدولي ويجعل من هذه الحرب وسيلة لتعزيز مشروع الهيمنة الامبراطورية. عدا ذلك فإن كل ما تحدث عنه بوش في خطابه، وبالأخص عن الشعب الفلسطيني وقيادته، لا يثير سوى الاشمئزاز لأنه اعلان صريح بأن الولاياتالمتحدة لا تزال تعتمد على مشاريع شارون والارهاب الاسرائيلي. وكما استندت حرب العراق الى أكاذيب، فإن "الدور الحيوي" للأمم المتحدة ليس سوى تدشين لمرحلة طويلة من التكاذب الدولي.