ما زال يطغى اعتقاد على الوسطين الفكريين الغربي والعربي، أتى من الوسط الاستشراقي في القرن التاسع عشر، بأن الفلاسفة المسلمين هم مجرد نَقَلَة ومترجمين وشرّاح وحملة للفكر اليوناني وأنهم كانوا جسوراً لنقل تلك الحمولة الإغريقية الى الغرب الأوروبي. بُني ذلك على مسلّمة تقول إن القول الفلسفي الإسلامي لا يقصد هنا، في هذا المقال، بالمنتج الفلسفي فقط ما قدمه الفلاسفة المسلمون بالمعنى التقني لكلمة فلسفة وإنما أيضاً كل ما يلامس ويشمل الفضاء الفلسفي من الذي قدمه المناطقة وعلماء الكلام والمتصوفة وعلماء أصول الدين لم يقدم جديداً، وأن نتاج العرب والمسلمين الأساسي تركز في الفقه والأدب. جرى تطبيق تلك المسلّمة، أساساً، على ابن رشد من حيث اتجاه الاستشراق الى تقليصه لمجرد شارح لأرسطو، وقد قدم إرنست رينان نظرة الى فيلسوف قرطبة اعتبر فيها انه يمثل خروجاً على تقاليد"العرق"العربي"المحصور كبقية الشعوب السامية في الدائرة الضيقة للشاعرية والنبوة"وپ"المعادي للفلسفة وللنشاط العقلاني"، وانه بعد انفتاح العباسيين على العنصر الفارسي، ذي الأصول الهندية - الآرية، وعقب ازدهار البيئة الإسبانية - الأندلسية - نمت الفلسفة عند المسلمين، بالتضاد مع تلك التقاليد العربية، لتكون بمثابة استعادة وتخصيب للإرث اليوناني، وذلك لتمريره لأوروبا، إلا أنها لم تكن لا عربية ولا إسلامية بحسب رينان. لم تر تلك النظرة الاستشراقية جديداً عند ابن برشد، ولم تر ما قدمه من جديد في التاريخ الفلسفي من خلال قوله بالفصل ما بين الحكمة الفلسفة والشريعة الدين من اتصال، عبر تحديد مجالات الأخيرة في العبادات والمعاملات والأخلاق، وتحديد الباقي في إطار اختصاصات الفلسفة والعلوم، وأنهما ليسا في تناقض وإنما هما فضاءان مختلفان بموضوعاتهما ومجالاتهما، وهو قول فلسفي جديد دارت على أساسه، في السلب والإيجاب، معارك السكولائية الأوروبية والحركة الرشدية الغربية لقرون عدة لاحقة، وإن استفادت السكولائية عبر توما الأكويني من دمج العقلانية الأرسطية - الرشدية في الفكر الكنسي مع رفض نظرية ابن رشد في الفصل بعد أن وضعت وراءها الإرث الأفلاطوني - المانوي المجلوب الى الكاثوليكية من جانب القديس أوغسطين 354 - 435م. ما زال هناك للآن تجاهل عند الباحثين الغربيين والعرب لما قدمه المسلمون من قول فلسفي جديد، سواء عند ابن حزم أثناء نقده لاستدلال علم الكلام، المعتزلي والأشعري، بپ"الشاهد على الغائب"لإثبات موضوعاته في الإلهيات، وأنه يجعل الأول أصلاً والثاني فرعاً، في أثناء برهانه المعرفي على وجود الله والماورائيات، رافضاً إمكان تلك المعرفة التي يرى أن طريقها التصديق بالقلب لما جاء في الكتاب، وأن مجالات العقل ليست في ما وراء المحسوس بل في الإطار الحسي المحض وهو ما نجده عند كانط أثناء نقده للمقولات الميتافيزيقية في كتاب"نقد العقل المحض"، أو عند الغزالي لما قدم نظريته حول العادة ناقضاً ما لدى الفلاسفة من مقولات حول السببية معتبراً أن ربطنا بين السبب والأثر ناتج عن العادة والتكرار في الحدوث. وليس عن ترابط موضوعي خارجنا هو موجود في الأشياء وعلاقاتها نرى ذلك عند دافيد هيوم في أثناء نقده للموضوعية الأرسطية الديكارتية، وهو ما تابعه كانط، أو لما قدمه ابن تيمية عبر نقده للمنطق الأرسطي عندما اعتبره مجرد تعبير عن عمليات ذهنية مجردة وليس عن العمليات الحسية، وهو ما يشكل نقطة التفارق الكبرى بين المنطقين الصوري والديالكتيكي عند هيغل، من دون أن نتكلم عما قدمه ابن سينا من نظريات جديدة حول"ثبات كمية المادة في العالم"في"رسالة أضحوية في أمر المعاد" أو حول العلاقة بين النفس والجسد، أو لما قدمه ابن عربي من نظرية جديدة حول وحدة الوجود، تختلف عن نظرية الفيض الأفلاطونية المحدثة، من خلال اعتباره الوجود الحسي مجرد وجود عيني أبرزه الله من خلال الوجود العلمي، وأن الوجود واحد وهو مجرد مظهر للاسم والعلم الذي هو الله، ما كان استباقاً لنظرية اسبينوزا حول وحدة الوجود حيث يرى أن كل ما هو موجود يعبر عن طبيعة الله، وأن الله يعبر عن ذاته ليس فقط عبر نفسه وپ"الطبيعة الطابعة"بل أيضاً عبر"الطبيعة المطبوعة". ربما، كانت نظرة المستشرقين الى النتاج الفلسفي الإسلامي تأكيداً لمقولة أن الاستشراق يشكل"شرقه الخاص"، ليجتمع ذلك مع نظرات سادت التيارات الحديثة العربية المتأثرة بالغرب، من ليبرالية وماركسية، لم تكن خارج النظرات التبخيسية للنتاج الفلسفي الإسلامي، وقد ساهم في تكريس تلك النظرة وسيادتها وجود اتجاه قوي ضمن الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر يحمل نفحة قوية معادية للفلسفة، تمّ توريثها ابتداء من الغزالي، حيث سادت وغلبت طوال القرون العشرة الماضية. ألم تكن تلك النظرة الاستشراقية للنتاج الفلسفي الإسلامي هي الأخت التوأم لنظرة القوميين العرب التي رأت أن"شمس العرب قد أشرقت على الغرب"وأن الأخير قد نهض فقط عبر أخذه لما عند العرب؟ * كاتب سوري