اعتقد اللبنانيون، عند دعوة رئيس مجلس النواب نبيه بري الى مؤتمر الحوار الوطني، أن هناك حلولاً جاهزة للقضايا الوطنية الخلافية، وأن جلوس المتحاورين الى الطاولة المستديرة، هو لوضع اللمسات الأخيرة عليها، بحيث يترسخ بعد ذلك الوفاق الوطني، ويعمّ السلام والازدهار الربوع اللبنانية. واكب اللبنانيون بشغف جلسات المؤتمر، وكانوا يتابعون ما يدور فيها من نقاش وحوار، وما يصدر عن مدير الحوار وبقية المتحاورين من بيانات وتصريحات، وكلها كانت تصب في اتجاه إيجابي، تعبّر عن إخلاص المتحاورين ومدى وعيهم الصعوبات التي يعانيها الوطن. وبينما هم في انتظار الجلسة المقبلة، على أمل تنفيذ ما توافق عليه المتحاورون في الجلسة السابقة، إذ بهم يتفاجأون بالتصريحات السلبية للبعض منهم، وبعضها يناقض ما صدر عن أصحابها من تصريحات إيجابية سابقة، مما جعلهم يعيشون في دوامة من اليأس والضياع. اكتشف اللبنانيون بمرور الوقت، أن جلسات الحوار كانت لتقطيع الوقت وتهدئة الأوضاع، ريثما يتم الوصول الى حلول جذرية، بين القوى الدولية والإقليمية، للملفات الساخنة في المنطقة، من الوضع في العراق وما يتخلله من إرهاب وحروب أهلية ومذهبية، نتيجة الاحتلال الأميركي والتدخل الإيراني، والوضع في فلسطين وما نتج من تسلّم "حركة حماس" للسلطة التنفيذية فيها، والملف النووي الإيراني، ووقوف الغرب ضد تخصيب ايران لليورانيوم، لمنعها من حيازة السلاح النووي، وتعريض منطقة الخليج حيث توجد فيها منابع النفط للخطر، وخوف العرب وخصوصاً دول الخليج من حيازة ايران هذا السلاح، الذي يشكل عامل تهديد رئيسياً لها، ويؤدي الى زعزعة استقرارها. تفاءل اللبنانيون عندما أقر المتحاورون بالإجماع مسائل عدة مهمة، مثل إنشاء محكمة ذات طابع دولي، لمحاكمة المتورطين في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وإقامة علاقات ديبلوماسية مع سوريا، وترسيم الحدود معها، ولبنانية مزارع شبعا وتحديد حدودها، وسحب السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وتنظيمه داخلها. واعتقدوا أن موافقة الفريق المتحالف مع سوريا على هذه القرارات، كانت بتغطية من القيادة السورية، لكنهم فوجئوا بمعارضة سورية تلك القرارات، ورفضها التعاون مع الحكومة اللبنانية، وتراجع بعض المتحاورين عنها، ما جعل الحكومة عاجزة عن تنفيذها. وترمي أسباب المعارضة السورية الى إفشال الحكومة اللبنانية المنبثقة عن الأكثرية النيابية، في اقامة علاقات متوازنة وديبلوماسية معها، ورفض تحديد مزارع شبعا وإثبات لبنانيتها بوثيقة رسمية صادرة عنها، حتى تبقى ورقة في يدها، وساحة مفتوحة للصراع الإقليمي، وحجة لإبقاء السلاح في حوزة "حزب الله" والمنظمات الفلسطينية التابعة لها. فشل المتحاورون في التوافق حول التغيير الرئاسي، وتعود مساندة "حزب الله" للرئيس لحود، الى دعمه المطلق لسلاح الحزب واستراتيجيته، ورفض انخراطه في الجيش. ولا يمانع العماد عون في التغيير الرئاسي، شرط أن يكون هو البديل عن الرئيس لحود، لكنه وبسبب اعتراض البعض على وصوله الى سدة الرئاسة، يدافع عن الرئيس الحالي ويدعم بقاءه في الرئاسة، خوفاً من أن تذهب الى غيره. ويريد تحالف 14 آذار الرئاسة لأحد أعضائه من السياسيين الموارنة، حتى يستطيع إكمال مسيرة التغيير، وبناء الدولة الحديثة التي ينشدها. وبقي من المواضيع المهمة على جدول الأعمال، مناقشة البند المتعلق بمصير سلاح "حزب الله"، لأن قسماً كبيراً من اللبنانيين يتوجسون من التحالفات الإقليمية للحزب، ويعتبرون سلاحه جزءاً من الاستراتيجية الإيرانية - السورية، ويخافون من أن يستثمر في التأثير في القرارات الوطنية. وكرست التصريحات المتكررة التي صدرت عن قيادات الحزب، بقدسية السلاح ورفض إلقائه، تلك الهواجس والمخاوف. ومن أجل أن يحافظ الحزب على سلاحه، اقترح على مؤتمر الحوار تبني استراتيجية دفاعية وطنية، يكون سلاحه العنصر الرئيس فيها، ويبقى قرار الحرب والسلم في يده، كي تبتعد الدولة عن ردود فعل العدو. واقترح الأفرقاء الآخرون من قوى 14 آذار، استراتيجية دفاعية اخرى، يكون عمادها الجيش، وتلحظ فيها موقعاً للمقاومة، بحيث تكون وطنية وليست تابعة لطائفة واحدة، وأن تكون في إطار الدولة، وتأخذ في الاعتبار الأوضاع الاقتصادية ومستلزماتها ومتطلباتها، بحيث يستند الدفاع الى عناصر القوة والمنعة في الاقتصاد. وبينما كان مؤتمر الحوار يتهيأ لعقد جلسته المقررة في 25 تموز يوليو، لمتابعة البحث في السياسة الدفاعية الوطنية، إذ بپ"حزب الله" يجتاز الخط الأزرق في 12 تموز ويأسر جنديين إسرائيليين، في سبيل مبادلتهما بالأسرى اللبنانيين وبعض الأسرى العرب الموجودين في السجون الإسرائيلية. وأدت هذه العملية الى ردود فعل غاضبة وخطيرة من المجتمع الدولي، وانقسام سياسي وشعبي حادين في الساحة اللبنانية، وإعطاء العدو الإسرائيلي الذريعة التي كان ينتظرها للانقضاض على لبنان، وشن حرب واسعة عليه. ولا ندري تماماً ان كانت تلك العملية متعمدة لتخفيف الضغوط عن ايران وسورية، ام انها كانت ارتجالية وظرفية، ولم تتوقع قيادة الحزب من العدو ردود فعله العنيفة؟ وهنا تكون القيادة وقعت في خطأ التقدير، بعدم وضع ما حصل في غزة بعد أسر جندي هناك في حساباتها. القراءة الأولية لما جرى حتى الآن تشير الى الحقائق الآتية: 1- الحرب القائمة على أرض لبنان، هي حرب إقليمية - دولية، بين المحور الإيراني - السوري المتحالف مع "حزب الله" من جهة، والمحور الأميركي - الإسرائيلي المدعوم من المجتمع الدولي وبعض الأطراف العربية، ولكل محور أهدافه ومصالحه الخاصة. 2- أثبت "حزب الله" عن تنظيم قوي وقدرة قتالية عالية وعزيمة جبارة عنوانها النصر أو الاستشهاد في سبيل الله، وعن امتلاكه للصواريخ المتعددة الأحجام والمدى التي وصلت الى العمق الإسرائيلي. وأثبت عن تفوقه على الجنود الإسرائيليين في المواجهات البرية، وكبدهم الخسائر الفادحة في الأرواح والدبابات. 3- استطاعت ايران تحويل الأنظار عن ملفها النووي، وإثبات وجودها كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة، تتمتع بنفوذ واسع يمتد من الخليج الى البحر المتوسط، وتعمل لتكون شريكاً رئيساً مع الولاياتالمتحدة في القرارات الكبيرة المتعلقة في المنطقة. 4- تحاول سورية الإفادة من هذه الحرب، لإلغاء تشكيل المحكمة الدولية، لمحاكمة المتورطين في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، واستعادة نفوذها في لبنان والمنطقة، وربط أي تسوية متوقعة بتسوية شاملة تشمل الجولان المحتل. 5- تعمل الولاياتالمتحدة الأميركية على كسر السلسلة الإيرانية - السورية من خلال إضعاف "حزب الله" وإبعاده عن الحدود ونزع سلاحه، استعداداً للتعامل لاحقاً مع ايران بخصوص ملفها النووي. 6- أظهرت الوقائع بأن إسرائيل كانت تنتظر المناسبة للانقضاض على "حزب الله" وتدمير لبنان. 7- ويبقى لبنان الخاسر الأكبر من هذه الحرب، التي أدت الى استشهاد اكثر من ألف مواطن وجرح اكثر من ثلاثة آلاف وتهجير مليون مواطن من قراهم وبلداتهم، وتدمير البنى التحتية من المطارات والمرافئ والطرقات ومئات الجسور وآلاف الوحدات السكنية، ونسف موسم الاصطياف الذي كان واعداً وتدمير الاقتصاد الوطني. ويجب ان نمتلك الشجاعة لنعلن ان غالبية الشعب اللبناني، كانت ضد عملية "حزب الله" التي أعطت إسرائيل الذريعة لتدمير لبنان، ولكن بما ان الوطن يتعرض لأبشع عدوان من الدولة العدوة المجرمة، فإنه يتوجب علينا التضامن والتكاتف لصد العدوان وترسيخ الوحدة الوطنية ومساعدة النازحين والوقوف خلف الحكومة اللبنانية. ان اللبنانيين يرفضون بأن تبقى ارض الجنوب ساحة مستباحة للصراعات الإقليمية والدولية، ويطالبون بأن يكون الحل المنشود نهائياً وجذرياً، بحيث تستعيد الدولة اللبنانية سلطتها ونفوذها على جميع أراضيها، ويكون السلاح محصوراً بالجيش اللبناني وحده، ويأملون من المجتمع الدولي بأن يتعامل مع مشروع الرئيس السنيورة المدعوم لبنانياً وعربياً بإيجابية، وأن يعمل على حماية لبنان من الأطماع الخارجية، وتقوية حكومته، ودعم جيشه بالسلاح والعتاد، والمساعدة في إعمار الوطن الذي دمرته الآلة العسكرية الإسرائيلية. نناشد القيادات السياسية اللبنانية، بأن تتخلى عن عصبياتها وأنانيتها وتحالفاتها الخارجية، وتبدأ العمل فور انتهاء الحرب، على مؤازرة الحكومة ومساعدتها في اعادة بناء الوطن والثقة به، وترسيخ الوحدة الوطنية، وإرساء اسس لوطن عصري قائم على القانون والإصلاح والديموقراطية الفعلية، يوفّر المستلزمات الأساسية والأمان والاستقرار لأبنائه، لا محسوبية فيه ولا فساد ولا اختزال للشعب في زعامات او أحزاب. فهل تنتهي مأساة اللبنانيين بانتهاء الحرب، وتمسك الدولة بزمام جميع امور الوطن؟ * كاتب لبناني.