دخلت الحرب الاسرائيلية اسبوعها الثالث بعدما حصدت آلاف الضحايا وهدمت البنية التحتية السكانية والاقتصادية للبنان. وبات واضحاً ان اسرائيل التي استهدفت آلاف المواقع في مختلف ارجاء البلاد وفشلت في ضرب البنية العسكرية او السياسية لحزب الله، لن تستطيع ان تنجز أهداف حملتها في الايام المقبلة وقبل ان يضعها"المجتمع الدولي"امام مسؤولياتها القانونية. فهل تعترف اسرائيل ضمناً بمحدودية قوتها وتقبل بمفاوضات غير مباشرة لتحرير أسيريها وادارة حدودها مع الجيش اللبناني، ام تستدرج الولاياتالمتحدة لتمديد مهلة الحرب حتى تجتاح الاراضي اللبنانية وتدمر حالة الدعم المجتمعي لحزب الله أملاً بتحقيق بعض من اهدافها المتوخاة؟ وهل ستنجح في ذلك؟ حاولت اسرائيل في الاسبوعين السابقين تلقين اللبنانيين درساً بسبب احتضانهم المقاومة اللبنانية وشرعنتها، والتصويت لها، ثم اشراكها في حكومتهم الديموقراطية، ومحاورتها سلمياً وبصبر وحكمة في سبيل تطبيق قرار مجلس الامن . هدف ذلك الدرس ان يستنتج اللبنانيون ان حزب الله لا يشكل رصيداً للبنان، بل عبئاً لا بد من إستئصاله. وحاولت اسرائيل استنزاف بنية ولبنة الديموقراطية اللبنانية وهي النموذج الديموقراطي متعدد الثقافات والاثنيات الذي تعدّى نموذج"واحة الديموقراطية"الجمهورية الاثنية اليهودية في صحراء التوتاليتارية العربية، عن طريق زج شركائها وفرقائها في متاهات"المحاسبة"واللوم والانقسام. وإذ إختلف اللبنانيون بين من اعتبر ان حزب الله أخطأ في إعطاء التبرير العسكري للجنون الاسرائيلي وبين اولئك الذين إعتبروا ان الانتقام الاسرائيلي مدروس ومحسوب، ففي الحالين اجمع اللبنانيون والعرب على إدانة عدوان اسرائيل رافضين محاولاتها التدخل في شؤونهم الداخلية بما في ذلك كيفية تطبيق القرار . بل اعتبروا محاولات اسرائيل لتطبيق القرار نهاية للقرار نفسه. وجاء الثمن الذي دفعه لبنان حتى الآن باهظاً ولا يبرر أو يتناسب مع الاهداف المعلنة للحكومة والجيش الاسرائيليين مما دفع المجتمع الدولي والامين العام للامم المتحدة كوفي انان لأن يتهم اسرائيل بإنتهاك القانون الدولي في ما يخص ادارة الحرب، وأن تحذر مفوضة الاممالمتحدة لحقوق الانسان لويز آربر المسؤولين الاسرائيليين من مغبة ارتكاب جرائم حرب، إلا ان هذا لم يردع حكومة اولمرت عن اطلاق العنان لجيشها ليقصف لبنان بأسلوب انتقامي وليستفيد من الضوء الاخضر الاميركي والغربي في ذات الوقت. اليوم وبعد ان إستنفذت استعراض عضلاتها في لبنان وعلى الجيران، تقف الحكومة الاسرائيلية امام مفترق طرق: فإما استمرارها في منطق العدوان"لإنهاء المهمة"عن طريق إجتياح بري واسع يتعدى بنت جبيل بإعتبار ان القصف الجوي لا يكفي للإنتصار على عدو غير متكافئ بقدرات حزب الله كما سبق وأكدت الدراسات الاستراتيجية الاسرائيلية والاميركية والتي ادت في نهاية المطاف الى اجتياح لافغانستان والعراقوغزة، واليوم لبنان. وإما استثمار التفوق العسكري الاسرائيلي ديبلوماسياً وجيوبوليتياً برعاية وإدارة الادارة الاميركية وتهميش الاممالمتحدة لتثبيت العدوان الاسرئيلي سياسياً وجغرافياً فيتجلى من خلال موافقة إسرائيلية مشروطة على هدنة موقتة او على وقف إطلاق النار مقابل موافقة لبنانية وسورية على انتشار قوات حفظ سلام وأمن من الحلف الاطلسي في الجنوباللبناني تمهيداً لنزع سلاح حزب الله وتحرير الاسيرين الاسرائيليين. لا يبدو الآن ان أياً من هذين السيناريوين - الأكثر تداولاً على الصعيد الاسرائيلي والدولي - سيؤدي الى اية نتيجة حاسمة، بل ستقوم اسرائيل بمساعدة اميركا بمزاوجة السيناريوين في لبنان أملاً بإحراز بعض النجاح. على الصعيد العسكري، يستهدف جنرالات اسرائيل استرجاع قوة ردع الجيش الاسرائيلي من خلال ضرب البنية التحتية لحزب الله وإضعاف سورية والمقاومة الفلسطينية والقوى المعارضة للتدخلات العسكرية الاميركية والاسرائيلية عموماً في المنطقة. وكذلك تقوية الدور الاقليمي لاسرائيل في"الشرق الاوسط الجديد جداً"وتثبيت ريادتها كحليف استراتيجي في الحرب على الارهاب، خصوصاً بعد تراجع دورها في فترة تدخل القوات الاميركية بشكل مباشر في المنطقة من اواسط آسيا وافغانستان مروراً في العراق وحتى القرن الافريقي بعد 11 سبتمبر. وتقوم المؤسسة العسكرية الاسرائيلية بتحويل لبنان الى مختبر عسكري جديد للحروب غير المتكافئة وتطوير"ثورة الشؤون العسكرية"التي اعلنتها واشنطن تماشياً مع تطورات العولمة وضد أعتى وأقوى تنظيم شهدناه حتى اليوم في العالمين العربي والاسلامي. وكما هي الحال في المختبرات فإن عوامل الفشل والنجاح تصب جميعاً في زيادة المعرفة والخبرة بحيث تستطيع اسرائيل ان تفيد البنتاغون في"ثورته التقنية"خبرة وتكتيكاً وأن ترفع من مستوى تصنيع الاسلحة في اسرائيل وزيادة صادراتها العسكرية وإستشاراتها الامنية عالمياً والتي زادت على خمس بلايين دولار لأمثال الهند التي تستورد سنوياً نحو بليون دولار اسلحة وتقنيات، حتى اصبحت ثالث اكبر مصدر لوسائل القتل في العالم. وتعتبر اسرائيل ان ضرب"حليف طهران"في لبنان هدف استراتيجي بحد ذاته تحسباًً لعملية اميركية أو اسرائيلية كما حذر نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني ضد المنشآت النووية الايرانية. وبذلك لا تكون الحرب على لبنان"حرب ردع"ضد حزب الله فحسب بل"حرباً وقائية"ضد إيران في حال استهدافها لاحقاً وهي التي تنافس الولاياتالمتحدة على النفوذ في العراق والمنطقة، مما يفسر الدعم غير المشروط لواشنطن. وكانت وزيرة الخارجية رايس حذرت إسرائيل في اليوم الاول من تدمير لبنان"الذي ساعدت واشنطن في بنائه"على مدى السنوات الماضية، لكنها ما لبثت ان غيرت لهجتها لتوجه اصابع الاتهام الى ايران وسورية بإعتبار ان الهدف الجيوبوليتي - تدمير البنية التحتية للبنان - يبرر الوسيلة. لكن إذا ذهبت إسرائيل بعيداً في عملية الاجتياح، فسيكون ذلك مؤلماً ومكلفاً ليس فقط للبنان وإنما للقوات الاسرائيلية كذلك والتي يحذر بعض من جنرالاتها من"رمال متحركة"و"مستنقع"ينتظرها هناك. فبعد"لبننة"العراق يُتوقع"عرقنة"لبنان، وهو ما يتأكد شيئاً فشيئاً عبر مشاهد تفجير مركبات عسكرية على الطرق، وكمائن على خطوط الامدادات وعمليات إختطاف واستشهاد. هذا التخوف عبر عنه وزراء أمثال بينس وشطريت كذلك وزير الحربية عمير بيريتس الذي حذر من الانجرار وراء حزب الله وقبوله قوات دولية كأحد اسس الحل. إلا ان بيريتس الساذج الذي يتلاعب به الجنرالات الاسرائيليون على طريقتهم لن يستطيع ان يوقف عملية التورط الاسرائيلية في جنوبلبنان وأفضل ما يمكن ان تفعله حكومة اولمرت - بيريتس هو توفير المظلة الدولية الجيوبوليتية الضرورية بمساعدة إدارة بوش الى ان يتمم الجنرالات مهماتهم في لبنان. الامر الذي يصب مباشرة في سيناريو الديبلوماسية والتي بدأ تنفيذه هذا الاسبوع مع الاعلان عن مؤتمر دولي في روما وحضور الوزيرة رايس للمنطقة. وجاء رفض واشنطن العمل على وقف لإطلاق النار وترك العنان لاسرائيل كي تنهي ما بدأت به ليؤكد على الموازاة بل والمعاضدة بين المسارين الديبلوماسي والعسكري الذي يستهدف إضعاف حزب الله وضربه على الارض من ناحية وتزويد اسرائيل بالغطاء الاقليمي والدولي من الناحية الموازية وهذا ما أكده ايهود اولمرت حين قال ان الهجوم الاسرائيلي ضد لبنان سيطول وإن"العملية الديبلوماسية لن تمنعنا من مواصلة الجهود من أجل تدمير البنى التحتية الارهابية، وستأخذ العملية وقتاً طويلاً جداً". في افضل تجلياته سيؤدي السيناريو العسكري الى ضرب وإضعاف القوة الصاروخية لحزب الله، لكنه لن يستطيع ان ينهيه كقوة مقاومة قادرة على اعادة انتاج ذاتها وبدعم من حلفائها. وستضطر واشنطن عاجلاً ام آجلاً عند الحديث عن نزع سلاح حزب الله لأن تفسر كيف سيتم ذلك عملياً بعد وقف العمليات الاسرائيلية وما هي مهمة قوات حفظ سلام دولية كانت ام اطلسية، حماية إسرائيل؟ حماية لبنان من قصف اسرائيل؟ مثلاً في حال قام حزب الله بعملية اخرى عبر الحدود او في مزارع شبعا؟ وماذا لو رفضها حزب الله وطالب بإنتشارها داخل الحدود الاسرائيلية وليس اللبنانية؟ والى متى وكيف ستنتشر هذه القوات وهل ستتواجد على الحدود مع سورية كما يطالب الاسرائيليون لوقف الامدادات العسكرية للحزب؟ هذه وأسئلة اخرى كثيرة تعقَد تنفيذها وربما تعرقله، وقد أدّت الى معارضة الفرنسيين والالمان وغيرهم لها، كما سبق وعارضوا عملية الانتشار في العراق. دخلت اسرائيل مغامرة لبنان كما دخلت واشنطن مغامرة العراق، بتفضيل الحرب على الديبلوماسية، بالكثير من القوة والثقة بالنفس والقليل من الحكمة والتروي وبمبررات لا تستقيم على المدى البعيد. وحين يرتفع ثمن المغامرة وتصعب عملية الانسحاب بدون إكمال المهمة، مما يعني، للأسف الشديد، دمار البلدين العربيين بدون انتصار لأي من الطرفين... هذه هي مأساة الحروب الجديدة، دمار من دون حسم، وأعلام وطنية لا تقابلها رايات بيضاء. إنها الحروب التي تنهك القوي وتدمر الضعيف. تبحث اسرائيل في لبنان، كما في غزة، عن سراب الأمن المبني على الهيمنة، تجرب كل شيء إلا المفاوضات الحقيقية، معتبرة انها إذا فشلت في تأمين هيمنتها بالقوة فإن المزيد من القوة سينجز المهمة، والردع كما هو بديهي يكتمل مع أقل استعمالات القوة لا أكثرها، وهكذا تكون إسرائيل دخلت لبنان لإستعادة قوة ردعها لتخسرها مع خروجها من لبنان. * باحث ومحاضر في عمل الاجتماع والعلاقات الدولية، باريس.