عندما دعا رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الى مؤتمر الحوار الوطني، كانت الساحة الداخلية تغلي بتجاذبات وخلافات حادة بين القيادات اللبنانية، ووصلت الحال بينهم الى درجة متقدمة من التباعد في المواقف ووجهات النظر حول كافة القضايا المطروحة. واستعمل الرئيس بري حنكته لتسمية القيادات الرئيسة التي دعاها الى المشاركة في الحوار، وتحديد المواضيع الخلافية التي تهدد السلم الاهلي ووحدة الوطن، وهي: التحقيق في جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري وانشاء محكمة دولية، سلاح"حزب الله"والسلاح الفلسطيني داخل المخيمات وخارجها، والعلاقة مع سورية. وقبل البدء في الحوار طلب فريق 14 آذار اضافة بند تنحية رئيس الجمهورية عن منصبه على جدول الاعمال، واتفق على بحثه من ضمن القرار الدولي الرقم 1559 الذي ينص البند الاول منه على اجراء انتخابات رئاسية حرة ونزيهة من دون أي تدخل او تأثير أجنبي. كان الهدف من الحوار تلاقي الفاعليات السياسية حول طاولة مستديرة لبحث التغيير السياسي على المستوى الوطني خصوصاً حول القضايا الخلافية الكبيرة، والنهوض بالوضعين الاقتصادي والاجتماعي من الجمود المهيمن على البلاد. ويؤدي الحوار الى نوع من الثقة ويفتح نافذة ضوء في نفق الازمة ويبدد الهواجس ويضع حلولاً للأزمات المتشنجة والضاغطة، وهو أرقى اشكال الديموقراطية للوصول الى نتائج ملموسة بعد ان يتخلى كل فريق عن وجهة نظره ليؤسس مساحة مشتركة مع الآخرين. ومن أجل نجاحه لا بد ان يتنازل كل فريق عن شيء من افكاره ومواقفه وان تبقى المداولات ضمن"اتفاق الطائف"والثوابت الوطنية المتمثلة في السيادة والحرية والاستقلال ووحدة الارض والشعب والعيش المشترك واحترام الدستور اللبناني. وكان لانعقاد المؤتمر في حضور جميع القيادات السياسية الرئيسة تأثير ايجابي في جميع اللبنانيين الذين وصلوا الى درجة كبيرة من اليأس والخوف على مصيرهم. سارت الامور بهدوء في الايام الاولى من المؤتمر وطرحت كل المواضيع الخلافية ونوقشت بوضوح وشفافية، بهدف الوصول الى حلول توافقية تؤمن الحد الادنى من الاستقرارين الأمني والسياسي في البلاد، علماً ان كل المواضيع المطروحة للبحث شائكة ومعقدة، وكثير منها له امتدادات اقليمية ودولية. اتفق المتحاورون في اليوم الاول على دعم التحقيق الدولي في اغتيال الرئيس الحريري وانشاء محكمة دولية لمحاكمة المتورطين في هذه الجريمة، وان تساعد لجنة التحقيق الدولية السلطات اللبنانية في كشف جرائم الاغتيال التي استهدفت سياسيين وصحافيين منذ نهاية عام 2004. ومع ان مؤتمر الحوار"صنع في لبنان"كما روّج له، الا انه واكبته رعاية عربية ودولية، وعمل سفراء عرب وأجانب على حض القادة المتحاورين على تهدئة الاوضاع واعادة الامور الى نصابها في كل مرة تعرض فيها الحوار لهزة. وأثمرت هذه التدخلات، مصحوبة بالوعي الوطني للمتحاورين، عن توافق على سحب السلاح الفلسطيني خارج المخيمات وتنظيمه داخلها، وان يكون أمن المخيمات من مسؤولية السلطات الامنية اللبنانية، والعمل على تحسين اوضاع الفلسطينيين الاجتماعية والانسانية، وحددوا مهلة ستة شهور لتنفيذ هذه المقررات، على أن تعمل الحكومة اللبنانية مع الفلسطينيين على ايجاد آلية تنفيذ للتوصل الى النتائج المرتجاة. كما توافق المتحاورون على اقامة علاقات ديبلوماسية بين لبنان وسورية وتحديد ترسيم الحدود بينهما. وحظيت"مزارع شبعا"بحيز واسع من النقاش، فأكد المتحاورون لبنانيتها وطلبوا من الحكومة العمل على اثبات ذلك لدى المحافل الدولية. وبقي من المواضيع الخلافية موضوعان مهمان تركا الى الجولة الثالثة من الحوار هما المقاومة وسلاحها، وأزمة الحكم ومن ضمنها رئاسة الجمهورية. وكانت المقاومة تحظى بدعم اللبنانيين جميعاً ومساندتهم حتى 25 أيار مايو 2000 عندما أنهت القوات الاسرائيلية انسحابها من لبنان، وعندما بدأ الحديث عن تحرير مزارع شبعا وقف اللبنانيون مع المقاومة داعمين لخطواتها شرط تثبيت السيادة اللبنانية عليها. ولما تجاهلت سورية تلبية المطلب اللبناني في الاعتراف بلبنانية المزارع انتاب قسماً من اللبنانيين خوف من سلاح المقاومة، واعتبروه مرتبطاً باستراتيجيات دول أخرى بما يتجاوز السيادة الوطنية أجلها. ويحاول الأمين العام ل"حزب الله"السيد حسن نصر الله الموازنة بين فكره الاسلامي الاستراتيجي الذي يعتبر اسرائيل دولة مغتصبة للارض والحقوق العربية والاسلامية، والواجب الشرعي يفرض عليه العمل على استعادة تلك الحقوق، وانتمائه اللبناني الذي يفرض عليه حماية الوطن من الاعتداءات الاسرائيلية والمحافظة على العيش المشترك ووحدة الشعب والارض. وهو يؤكد دائماً ان سلاح المقاومة لن يكون الا وطنياً ولن يستعمل في الداخل اللبناني ولن يكون جزءاً من استراتيجية اقليمية، وبهذا يحاول تغليب"اللبننة"على مواقف"حزب الله"واعادة الاجماع الوطني حول المقاومة، والابتعاد عن دهاليز السياسات الداخلية. ويترتب على اعلان لبنانية مزارع شبعا بقاء السلاح في يد المقاومة للفترة التي تقتضي تحريرها من العدو الاسرائيلي، ويتوجب على الحكومة اللبنانية العمل على تثبيت سيادتها على المزارع من خلال ترسيم الحدود واعتراف الدولة السورية بمستند رسمي بعدم سورية المزارع، وعلى الاممالمتحدة ان تلحقها بعد ذلك بالقرار 425 وتعيدها الى لبنان، وفي حال فشل الاسترجاع بالجهود الديبلوماسية، عندئذ تتولى المقاومة هذه المهمة. وبهذا يكون"حزب الله"أمّن الشرعية الوطنية للمقاومة وحافظ على سلاحها، ويكون الفريق الآخر من المتحاورين والخائف من استعمال السلاح لاهداف غير لبنانية نجح في ايجاد ضوابط لاستعمال هذا السلاح، بحيث يتم من ضمن استراتيجية دفاعية لبنانية، تضعها الحكومة بالتوافق مع القيادات الرئيسة، ويصبح عندها قرار الحرب والسلم مقيداً بهذه الاستراتيجية التي تشرف عليها الحكومة بصفة رسمية وقادة الحوار بصفة فعلية، وتتحمل الحكومة نتيجة هذا القرار، المسؤولية تجاه شعبها والمجتمع الدولي. وبعد اتفاق الجميع على كل القضايا الخلافية، يصبح تغيير رئيس الجمهورية متلازماً مع تنفيذ السياسة التي رسمها المتحاورون، وأصبحت اليوم الارضية الداخلية جاهزة لانطلاق المبادرة العربية بقيادة مصر والسعودية، في اتجاه العواصم المعنية والقيادات والمرجعيات الداخلية وفي مقدمها البطريرك الماروني، لاختيار رئيس جديد للجمهورية، بحيث يحظى شخصه بموافقة جميع الاطراف الفاعلة. المطلوب ان يبقى الحوار مفتوحاً لمواكبة تنفيذ القرارات التي يتخذها مؤتمر الحوار الوطني، بحيث يعقد المتحاورون جلسات دورية لمعالجة القضايا المطروحة والمستجدة ومواكبة التطورات الجارية محلياً واقليمياً ودولياً. * كاتب لبناني