يخطئ الذين ينفون الانتصار عن"حزب الله"لمجرّد أن لبنان دُمّر. فهناك بلدان قد تُدمّر وتنتصر في الوقت نفسه. لكن نفي الانتصار عن الحزب، من دون نفي الخسارة عن اسرائيل، يرتكز الى أسباب أبعد قليلاً. ففي الحرب العالميّة الثانية مثلاً، حلّ قدر هائل من التدمير ببلدان كروسيا وبريطانيا، ومع هذا انتصر البلدان المذكوران لأن التدمير الذي نزل بالخصم الألمانيّ كان أكبر. وفي النهاية، دخل الجيشان الروسيّ والبريطانيّ وغيرهما من جيوش الحلفاء الى برلين فيما كان أدولف هتلر يطلق رصاصة على صدغه وينتحر. وهذا، والحق يقال، ليس حال"حزب الله"مع اسرائيل التي مُنيت بتدمير أقلّ بلا قياس مما مُني به لبنان، ولم تستسلم كبلد ولا استسلمت كقيادة سياسيّة، بل تتوعّدنا بزحف بريّ موسّع. أما أن ينتحر أولمرت وبيريتس وحالوتس فغير وارد حتى إشعار آخر. وهناك الطريقة التي تُحتسب بها مواجهات حركة التحرّر الوطنيّ مع الاستعمار وهي، رغم قابليّتها لنقاش طويل، لا تصحّ أيضاً في لبنان واسرائيل. ففيتنام وكمبوديا تعرّضتا أيضاً للتدمير فيما أميركا، بطبيعة الحال، لم تتعرّض. وبدوره، بلغ عدد القتلى الفيتناميّين والكمبوديّين أضعاف أضعاف ما بلغه عدد القتلى الأميركان. والشيء نفسه يمكن قوله عن فرنساوالجزائر"بلد المليون شهيد". بيد ان الولاياتالمتحدة انسحبت من فيتنام وسائر الهند الصينيّة كما انسحبت فرنسا من الجزائر. والأمر هذا لا ينطبق على"حزب الله"والاسرائيليّين حيث عاد الأخيرون ليحتلّوا رقعة من أراضي الدولة الأخرى، مما جلوا عنه قبل سنوات ستّ. وهذا جميعاً لا يلغي خسارة اسرائيل، لا سيما بقياس انتصاراتها السابقة العزيزة على وعيها الامبراطوري والمتعالي. فهي لم تستطع منع تساقط الصواريخ عليها، ولا استطاعت الرسو على استراتيجيّة عسكريّة واضحة المعالم. وإذ تبدو قياداتها السياسيّة في حال تتراوح بين عدم التجانس والتناحر، تبدو نظريّتها القديمة للردع التركيز على تهديد الجيوش الكلاسيكيّة بحاجة الى إعادة نظر جذريّة. وهي نتائج تتّصل بدورها بالصعود الايرانيّ بما فيه التسلّح الروسيّ والصينيّ المعدّل، كما قد تفضي الى تعديلات تطاول الدور والوظيفة الاسرائيليين في مجمل الاستراتيجيّة الغربيّة، لا بمعنى الإلغاء طبعاً بل بمعنى التكييف. لكننا نخدع أنفسنا إذ نروح نتحدّث عن"بداية نهاية إسرائيل"، أو حين نصوّر الخسارة بوصفها هزيمة، أو حين نساوي خسارتها ب"نصرنا"فيما لبنان على الحال التي آل اليها. ذاك ان الحروب مواجهات تمتحن صحّة المجتمعات، ويذكر اللبنانيّون الذين هلّلوا ل"بداية انهيار الامبراطوريّة الاميركيّة"بعد انسحاب المارينز الأميركيّ من لبنان، ان تلك الامبراطوريّة نجحت، بعد سبع سنوات فحسب، في إلحاق هزيمة بالاتحاد السوفياتيّ من دون إطلاق رصاصة واحدة. كيف إذاً، وبأيّ معنى، يقال ان"حزب الله"انتصر؟ الجواب الوحيد المتوافر أن التجرّؤ العربيّ على إسرائيل بات وارداً أكثر من ذي قبل، فيما الشعور بالكرامة والعزّة صار حاضراً أكثر من ذي قبل. وهذا تأويل يستدعي تأويلاً: فأوّلاً، عادلت كلفة التجرّؤ العربي على اسرائيل انهيار وطن ودولة ومجتمع. وثانياً، لم يتحول التجرّؤ هذا في البلدان المحيطة باسرائيل الى ممارسة فعليّة منظورة علماً بأن الحرب فاقت الحروب العربيّة - الاسرائيليّة السابقة طولاً. وثالثاً، هي حجة تفترض أن اللبنانيين وحدهم، ما دام عرب الحدود الآخرون لم ولن يتجرأوا، هم الذين سيتجرّأون مرة أخرى. معاذ الله! ورابعاً، وفي ما خصّ"الكرامة والشعب العنيد"ولا بأس بقلب زياد الرحباني واستخدامه مرّةً على نحو صالح لن تلبث ان تتحول ذلاً ومهانة معلنين حينما يبدأ التسوّل للحصول على مساعدات ومعونات تردّ المهجرين الى بيوتهم وتعوّض بعض الخسائر التي نزلت باللبنانيين فيما تعاود بناء ما تهدم. وطبعاً سنكتشف، إذا ما قُيّض للبنانيّين أن يفعلوا ذلك، ان بيئة"المقاومة"نفسها هي التي ستستنفر تحفظاتها عن البناء والتعمير و"شروط صندوق النقد الدوليّ".