بمقتل الجندي الاسرائيلي ليلة 4/5/2000 في شمال اسرائيل، نتيجة قذائف الكاتيوشا التي أطلقتها المقاومة اللبنانية، ارتفع اجمالي قتلى الجيش الاسرائيلي في لبنان - وفقاً للمصادر العسكرية الاسرائيلية - الى 1580 قتيلاً ونحو 6485 جريحاً، وذلك على مدى 22 عاماً من تواجده هناك، أي منذ بدء انشاء ما سمي ب"الحزام الأمني" بعد "عملية الليطاني"، التي تمت في الفترة 14 - 21 آذار مارس 1978 التي صدر نتيجة لها قرار مجلس الأمن رقم 425 يوم 19/3/1978. وكان ايهود باراك، رئيس الوزراء الاسرائيلي، صرح في 27/3/2000: "فقدنا حتى الآن 1500 رجل في لبنان ولا نريد أن ندفع ثمناً اضافياً للبقاء في هذا البلد". هذه الخسائر البشرية تعد كبيرة فعلاً إذا قورنت بخسائر الجيش الاسرائيلي المعلنة رسمياً في حرب 1967، التي بلغت 777 قتيلاً و2811 جريحاً على مختلف الجبهات، وكذلك مقارنة بخسائره في حرب الاستنزاف مع مصر وسورية في ما بين حربي 1967 و1973، التي اعلنت اسرائيل انها أسفرت عن 650 قتيلاً. ولذلك اشتد الجدل السياسي والعسكري والإعلامي في اسرائيل طوال الأعوام الثلاثة الماضية بشأن المأزق الذي تورط فيه الجيش الاسرائيلي في جنوبلبنان، وتعددت الاقتراحات لكيفية الخروج من المأزق المذكور. واتجهت آراء العديد من السياسيين والعسكريين والصحافيين، فضلاً عن قطاعات متزايدة من الرأي العام داخل اسرائيل، الى طرح فكرة الانسحاب من جانب واحد من منطقة "الحزام الأمني" كحل جذري لمشكلة تزايد خسائر الجيش الاسرائيلي هناك بعد أن ثبت، بصورة نهائية، فشل "جيش لبنانالجنوبي" تماماً في حماية المنطقة المذكورة بدعم عسكري اسرائيلي. وكان أبرز المنادين بهذا الحل النائب العمالي يوسي بيلين الذي صرح، يوم 29/1/1997، أن على اسرائيل سحب قواتها من جانب واحد في جنوبلبنان، نظراً الى أن لا مجال للتوصل الى اتفاق في هذا الشأن، معتبراً أن سورية ستحبط أي محاولات للتفاوض من أجل سحب القوات الاسرائيلية من جنوبلبنان كونها معنية ببقاء الاسرائيليين في تلك المنطقة لتبرير استمرار الوجود العسكري السوري في لبنان. كما اقترح أن يتولى وسيط دولي، كفرنسا أو الولاياتالمتحدة، ترتيب الانسحاب المنظم مع الحكومة اللبنانية، وأن يطلب منها احترام الوعد بتجريد حزب الله من سلاحه. وقال ان على الوسيط المذكور إبلاغ السوريين أنه إذا شجعوا حزب الله على شن هجمات على اسرائيل بعد الانسحاب، سيدعم الرأي العام العالمي الرد الاسرائيلي. وانضم العديد من الكتاب الى رأي بيلين. فمثلاً، قال شالوم يروشليمي في مقال بعنوان "الشجاعة الحقيقية" نشرته صحيفة "معاريف" يوم 10/2/1997: "ان خروجاً من طرف واحد من لبنان ليس مراهنة، انه ضرورة واجبة لأسباب منطقية". وتابع "لقد سألت رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، في 12/11/1996، لماذا لا نخرج من لبنان؟ فتساءل بدهشة: من طرف واحد؟". وقال: "ان هذا غير مطروح"، موضحاً أن "خروجاً من هذا النوع سيفسر في العالم العربي على الفور وكأنه ضعف اسرائيلي وانتصار باهر لحزب الله". وأضاف "تحدث باراك بنفسه عن اقتراح مختلف قدمناه منذ حين للسوريين، وهو أن يقوموا بتحييد حزب الله وعندئذ نخرج من لبنان. ولكن الرئيس حافظ الأسد لم يقم بدوره. ولماذا يقوم بهذا الدور، ولماذا لا يستنزف دماءنا يومياً فيما تبقى يداه نظيفة؟". كما نشرت صحيفة "معاريف" في 21/5/1997 مقالاً للكاتب عاموس جلبوع بعنوان "لبنان بعد 15 عاماً" أي بعد اجتياح 1982، قال فيه انه كان أحد أهداف اسرائيل استخدام لبنان "ورقة مساومة أمام السوريين في المفاوضات السياسية حول هضبة الجولان. والفكرة الرئيسية كانت: نتنازل للسوريين في لبنان وفي مقابل ذلك تقدم لنا سورية تنازلات في هضبة الجولان. فماذا يحدث اليوم؟ انعكست الأحوال. فالسوريون هم الذين يستخدمون لبنان في المساومة من أجل ابتزاز تنازلاتنا في هضبة الجولان. وهم الذين يسفكون دماءنا في جنوبلبنان من أجل إضعاف موقفنا في الصراع السياسي معهم حول التسوية في هضبة الجولان. والواقع اننا استسلمنا للابتزاز السوري كما لو كان أمراً من السماء". ونتيجة لذلك تعهد باراك، أثناء الحملة الانتخابية عام 1999، بالانسحاب من لبنان بحلول شهر تموز يوليو 2000. ولما تأخر في تنفيذ وعده جددت وسائل الإعلام الاسرائيلية الحديث عن الموضوع، فكتب يوئيل ماركوس مقالاً بعنوان "حسناً، هذه حرب خسرناها"، نشرتها "هآرتس" في 11/2/2000، قال فيه "من اللحظة التي تعهد باراك فيها بالانسحاب انتهت لدينا كل الأوراق هناك وضاع المبرر والمنطق في إحصاء الأيام. لقد خسرنا هذه الحرب. إذا كنا قد قررنا الانسحاب فعلاً، فيجب أن نخرج الآن". ونتيجة لكل هذه الضغوط اتخذت حكومة باراك، في 5/3/2000، قراراً بالإجماع بالانسحاب من جنوبلبنان بحلول تموز يوليو 2000، سواء باتفاق مع سورية ولبنان أو من دونه. ورأى ديفيد ليفي وزير الخارجية الاسرائيلي، في تصريح له يوم 6/3/2000، أن هذا القرار "سيترك سورية من دون ورقة مقايضة قوية في محادثات السلام، في شأن مرتفعات الجولان"، وفي اليوم نفسه قال الجنرال دورون روبن، أحد ضباط الأركان الذين خاضوا الحرب في لبنان: "من المثير للشفقة أننا لم نعلن الانسحاب من لبنان قبل سنتين، لكنا تجنبنا خسارة أرواح كثيرة، اليوم نحن نغادر في الدقيقة الأخيرة، فيما نحن غير مبادرين، بل منقادون". وبدأت اسرائيل أول اجراءات تنفيذ قرار الانسحاب الاحادي الجانب المذكور بإبلاغ الأمين العام للأمم المتحدة، في 17/4/2000، قرارها هذا مؤكدة انها تعتزم تحقيق ذلك "كاملاً طبقاً للقرارين 425 و426". وبدأت الأممالمتحدة إثر ذلك اتصالاتها مع كل الأطراف المعنية تمهيداً لتنفيذ القرار وانسحاب اسرائيل الى الحدود الدولية. وصرح ديفيد ليفي ان اسرائيل لا تلعب أي لعبة وأنها مستعدة "للتعاون مع الجميع لتحديد الخط الذي يوافق عليه الجميع". وأصدر مجلس الأمن الدولي، بعد التشاور مع سورية، بياناً رسمياً بذلك في 20/4/2000 مؤيداً قرار الأمين العام للامم المتحدة في هذا الخصوص، ورحب بقرار ايفاده مبعوثه الخاص الى المنطقة للبحث في تطبيق القرار، وبدأ البحث في زيادة قوات الطوارئ الدولية التي ستشكل حاجزاً بين لبنان واسرائيل... الخ. وتوالت بعد ذلك اجراءات اسرائيل الأولى لتنفيذ قرار الانسحاب التي شملت البدء في اقامة تحصينات جديدة وشبكات فولاذ لصد القذائف والصواريخ وكوابل للاتصالات على طول الحدود الشمالية مع لبنان، واخلاء بعض المواقع العسكرية. كما بدأ البحث في مصير "جيش لبنانالجنوبي" وعائلاتهم. وفي الوقت نفسه تزايدت حدة ووتيرة الردود النارية البرية والجوية الاسرائيلية على عمليات المقاومة اللبنانية المستمرة، فبلغت 598 اعتداء جوياً وبرياً نتج عنها مقتل مدني و16 جريحاً، خلال شهر نيسان ابريل 2000 وحده، وذلك بهدف الحفاظ على معنويات القوات الاسرائيلية الموجودة في "الحزام الأمني"، ومحاولة اثبات مقولة ان الانسحاب الأحادي لا يتم نتيجة هزيمة عسكرية، مع التأكيد في الوقت نفسه على نية الرد بقوة على العمليات المحتملة للمقاومة مستقبلاً ضد مستوطنات شمال اسرائيل. وشكل اطلاق المقاومة نحو 40 صاروخ كاتيوشا ليلة 4/5/2000 على مستوطنات شمال اسرائيل مناسبة ملائمة لاسرائيل للتأكيد على نيتها في الردع، فكان أن قصفت الطائرات الاسرائيلية، فجر 5/5/2000، محطتي تحويل كهرباء وأهدافاً مدنية أخرى في لبنان. وتمشياً مع الهدف نفسه صرح باراك في 12/5/2000، انه يتوقع ان يقوم حزب الله بمحاولات لممارسة المزيد من الضغوط على اسرائيل ليعطي انطباعاً بأن هذه الهجمات أجبرت اسرائيل على الانسحاب من لبنان. وأشار الى ان الانسحاب في الواقع، قرار مستقل اتخذته بلاده لإنهاء ما وصفه بالمأساة! وبطبيعة الحال ستعمل اسرائيل على الاستفادة من قرار انسحابها الاحادي، اذا اكتمل تنفيذه على هذا النحو، كوسيلة ضغط سياسية غير مباشرة على سورية في مفاوضات التسوية والانسحاب من لبنان، ولكن كل ذلك لن يغير حقيقة ان قرار الانسحاب المذكور يعتبر اقراراً بهزيمة عسكرية اسرائيلية في مواجهة المقاومة الوطنية اللبنانية، وفشلاً في تنفيذ الهدف السياسي والعسكري من وراء اقامة "الحزام الأمني" منذ 22 عاماً. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الحروب العربية - الاسرائيلية التي تنسحب فيها اسرائيل من اراض عربية تحتلها نتيجة هزيمتها العسكرية. ومن هنا فهي خبرة قتالية عربية يجب الاهتمام بدراستها جيداً. * خبير استراتيجي مصري ورئيس تحرير فصلية "الفكر الاستراتيجي العربي" سابقاً