لا يتعامل الإنسان مع واقعه بشكل مادي مباشر، وإنما يتعامل معه من خلال مجموعة من الأفكار والرموز والاساطير. وأصبحت الصور المجازية والاساطير جزءاً أساسياً من الحروب الدائرة في العالم بخاصة في عصر الإعلام. إذ يبحث كل فريق مقاتل عن مجموعة من الشعارات والصور المجازية التي يبرر بها موقفه ويسبغ عليه قدراً من الشرعية. وحينما ظهر رجل أوروبا النهم أي الاستعمار الغربي وتفتحت شهيته وقرر التهام العالم وجد أن عليه أن يستخدم مجموعة من الصور المجازية والأساطير فأطلق على الدولة العثمانية اصطلاح "رجل أوروبا المريض" أي انه حولها من خلال صورته المجازية إلى رجل مريض ميئوس من حالته سيتحول إلى جيفة ميتة بعد قليل، ولا غضاضة بطبيعة الحال في اقتسام الجيفة، بل إن هذا يُعد خدمة للإنسانية المعذبة! ورث الصهاينة هذا التقليد وصعدوا منه، خصوصاً أن "اليهود" و"إسرائيل" و"فلسطين" و"صهيون" هي مفردات أساسية في الميراث الديني الغربي. فتحولت فلسطين إلى "أرض بلا شعب" وتحول وطننا العربي إلى "المنطقة" أي أنه تم إدراك كل شيء باعتباره مكاناً لا زمان له، جغرافيا بلا تاريخ، وشيئاً بلا ذاكرة، وأن العرب مفعول لا فاعل، فالفاعل الوحيد هو الصهاينة وجنودهم المقاتلون الشرسون الذين يضربون عدوهم ويؤثرون الانتحار على الاستسلام كما تقول اسطورة ماسادا الشمشونية. في هذا الإطار تأسست نظرية الأمن الإسرائيلية المبنية على المكان والتي تنكر الزمان فالزمان هو الحيز الذي يتحرك فيه العرب ويحققون هويتهم. وأصبحت المشكلة الأمنية بالنسبة للصهاينة مسألة حدود جغرافية آمنة وأراض يتم الاستيلاء عليها، وسكان يتم ضربهم بيد من حديد، وفي هذا الإطار تصور الصهاينة أنهم يمكنهم حل كل مشكلات المستوطن الصهيوني الأمنية. وحينما وصلت القوات الإسرائيلية الى بيروت أرسلت رسالة واضحة عالية إلى كل الدول العربية: أنها على أتم استعداد أن تذهب إلى أقصى حد كي تحقق أهدافها الصهيونية بما في ذلك احتلال العواصم العربية، وأن الولاياتالمتحدة على أتم استعداد لأن تؤازر إسرائيل في مطامعها وبطشها. وما بين المطامح الصهيونية والقوة العسكرية الإسرائيلية والمظلة الاميركية واللوبي الصهيوني لا يملك العرب بطبيعة الحال إلا التفاوض والاستسلام. ولعل هذا هو ما دعا أحد الزعماء العرب من "الداعين إلى السلام" إلى القول بأن "معظم أوراق اللعبة في يد اميركا"، وتعالت الأصوات أخيراً في عالمنا العربي تطالب بالتعقل والواقعية وتؤكد أن المفاوضات هي الحل الوحيد لتحقيق السلام، ومن ثم توارت قيم مثل المقاومة وإقامة العدل في الأرض والدفاع عن الحق الضائع والوطن المغتصب. بعث روح المقاومة لكن ما حدث أخيراً في جنوبلبنان يهزم كل هذه الأساطير، ويوجب علينا أن ننظر بطريقة مغايرة إن كان فينا بقية من روح ووعي وضمير، ونبدأ أولاً بوضع هذا النصر الأخير في إطاره الحقيقي. هو نصر باهر لا شك فيه، رفع رؤوسنا جميعاً، ولكنه ليس هو الوحيد. فهو ليس مجرد فلتة كما يحلو لبعض الصهاينة أن يردوا حتى يطمئنوا أنفسهم، وكما يحلو لبعض المهزومين من العرب أن يفعلوا حتى يحتفظوا بتوازنهم ويستمروا في ما هم فيه من غيبوبة واستسلام. إن انتصار المقاومة في لبنان هو جزء من نمط متكرر، فنحن في حربنا مع العدو ننتصر وننكسر، وننكسر وننتصر، لكننا والحمد لله لا نستسلم. ومما لا شك فيه أن هناك الكثير من الانكسارات التي نعرفها جميعاً لكن هناك أيضاً انتصارات قبل وبعد 1948 يجب ألا ننساها. يجب أن نتذكر أن أطول حركة عصيان مدني في التاريخ وقعت في فلسطين في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، وغير ذلك من البطولات الفردية والجماعية. أما بعد 1948، فلم تهدأ المقاومة قط، لكنها أخذت شكلاً أكثر تبلوراً في أعمال المقاومة ابتداء من عام 1965، ثم معركة الكرامة، فحرب الاستنزاف فانتصار العام 1973، فالانتفاضة المجيدة التي قد تكون خفت حدتها، لكنها في واقع الأمر لم تتوقف، وهذا ما يبينه التلفزيون الإسرائيلي وما يحرص كثير من التلفزيونات العربية على إخفائه. إن تكرار النمط هو تأكيد لإمكان الانتصار الأخير بإذن الله، ويجب ألا ندع آلة الإعلام الصهيونية والعربية المنهزمة أن ترسخ في وجداننا غير ذلك. وانتصار حزب الله يؤكد هذا النمط ويبعث فكرة المقاومة مرة أخرى، فيرى الناس إمكان الجهاد وإمكان هزيمة الآلة العسكرية الاستخبارية الإسرائيلية التي تساندها الآلة الاميركية والغربية بأسرها. ولعلهم في إسرائيل يدركون خطورة بعث روح المقاومة، خصوصاً أن الشباب الإسرائيلي فقد هذه الروح منذ مدة طويلة، وهذا يعود لأسباب عدة من بينها ما يلي: 1- كانت القيادة العسكرية الإسرائيلية تبث دعاية مفادها أن الشباب الصهيوني يذهب إلى حرب لا خيار له فيها، فرضها عليهم العرب فرضاً بسبب عنادهم ورفضهم لإسرائيل، وكذا كان الشباب يذهب ويموت مضطراً، دفاعاً عن وطنه والجيش الإسرائيلي هو "جيش الدفاع الإسرائيلي" وليس "جيش الغزو الصهيوني". وصدق كثير من الشباب الإسرائيلي هذه الاكذوبة. ولكنهم في جنوبلبنان اكتشفوا طبيعة الوجود الصهيوني هناك وربما في وطننا العربي ولذا سُميت حرب لبنان "حرب اختيار"، أي أن إسرائيل هي التي اختارت أن توجد في جنوبلبنان، وأنه أمر ليس مفروضاً عليها. فبدأ معدل الفرار من الخدمة العسكرية في الارتفاع بشكل لم تعرفه إسرائيل من قبل. 2- إلى جانب هذا توجد حركيات المجتمع الإسرائيلي الداخلي بتوجهه الحاد نحو اللذة والاستهلاكية وبإنحسار الايديولوجية الصهيونية، وتصاعد معدلات الأمركة، وأدى كل هذا إلى أن هذا المجتمع لم يعد قادراً على تحمل شظف العيش أو على تقديم الضحايا أو الشهداء. وتزايدت موجات الاحتجاج ضد البقاء في لبنان حتى بلغ عدد المعارضين له ما يزيد على 75 في المئة. وظهر الفرح الواضح على الجنود الإسرائيليين أثناء انسحابهم. وكانوا يتعانقون ويلوحون بأيديهم. وظهرت إحدى الجرائد الإسرائيلية تحت عنوان "الانسحاب المذل" ولكن ظهرت جريدة أخرى بعنوان "ماما، لقد عدنا إلى المنزل"، وأثار هذا الفرح الواضح غيظ أحد الجنرالات وقال: "إن هؤلاء الجنود الذين ظهروا في التلفزيون وقد أبدوا فرحة بالغة، لا بد من محاكمتهم". ولكن من الذي سيقوم بمحاكمتهم في مجتمع تسيطر عليه عقلية "قطان" الرأس الصغيرة والمعدة الكبيرة والثلاثة في V ال÷يلا وال÷يديو وال÷ول÷و، على حد قول أحد المعلقين الإسرائيليين. القوة والانكماشية الصهيونية ومن الاساطير الأساسية الأولى التي صدقها الإسرائيليون والتي ورثوها من ترسانة الأفكار الإمبريالية الغربية، هي الإيمان بأن القوة قادرة على تحقيق أي شيء، فالعالم، في نهاية الأمر، يشبه الغابة. وترجم هذا نفسه إلى ما سماه موشيه ديان "خلق الحقائق"، أي أن تغتصب الأرض بالقوة وبمضي الوقت يصبح الاغتصاب حقيقة قائمة على الجميع الاعتراف بها والتعامل معها. هكذا فعلوا في فلسطين بأسرها، وفي مناطق أخرى من العالم العربي. والتوسعية الصهيونية هي إحدى تبديات مفهوم العالم كغابة هذا، والقوة كآلية وحيدة لحسم الصراع. ولذا مع وجود الآلة العسكرية الصهيونية لم لا يمتد الوطن "القومي" من النيل إلى الفرات كما صرح الحاخام فيشمان عضو الوكالة اليهودية في أربعينات القرن الماضي؟ وكما بيّن أوري أنيري أن ما يحرك الصهاينة ليس الدافع العقائدي وإنما موازين القوى وحسب، لذا فالتوسع الصهيوني لن يتوقف ما دام هناك فراغ بسبب الغياب العربي. وتمدد الصهاينة وتوسعوا ليملأوا الفراغ في جنوبلبنان وليخلقوا حقائق صلبة جديدة فيه، أو هكذا ظنوا، فحزب الله بيّن أنه لا يوجد فراغ في جنوبلبنان، وإنما يوجد جسد وروح، وتوجد إرادة وعزيمة ورغبة في الاستشهاد في سبيل الله والوطن، ولذا بدلاً من التوسعية الصهيونية، ها نحن نرى الانكماشية الصهيونية، والانسحاب المذل. وبدلاً من اميركا الممسكة بكل أوراق اللعبة، قالت إحدى الصحف الإسرائيلية مستخدمة الصورة المجازية نفسها "لقد كسب حزب الله كل الأوراق". وتحاول الصحافة الغربية التقليل من قيمة النصر العربي - اللبناني وتغطية خيبة الإسرائيليين الثقيلة فتشير إلى قوة الجيش الإسرائيلي والى سرعة وذكاء وشجاعة باراك اسمه يعني "البرق" بل الى خفة دمه. فحينما سأله أحد الصحافيين عن النقد الذي يوجه له، قال الجنرال السابق، ورئيس الوزراء الحالي: "إنه يحب النقد فهو يبقي معدل الأدرنالين عالياً" مما يزيد الذكاء والسرعة والشجاعة عند الجنرال برق!. وفي محاولة لتبرير موقف جنرال الأدرنالين تقول مجلة "تايم": "إن الانسحاب وضع نهاية لاحتلال لا معنى له استمر لمدة ثمانية عشر عاماً، وأودى بحياة مئات الجنود الإسرائيليين. فلقد استمرت إسرائيل في احتلال لبنان حتى تحارب حزب الله، وحزب الله حارب ضد إسرائيل لأنه بقي في لبنان". وهذه أكذوبة، فدخول إسرائيل لبنان لم يكن للحرب ضد حزب الله وإنما لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الغربية، وهي تفتيت العالم العربي ابتداءً من لبنان، وحزب الله بدوره لا يحارب ضد إسرائيل لأنها في جنوبلبنان وحسب، فالمسألة أعمق من ذلك بكثير. فن تجفيف المستنقعات وتأمل الإسرائيليون كثيراً في أسباب انتصار المقاومة اللبنانية. وكعادتهم فسروا المسألة بطريقة مكانية حتى لا يدركوا البُعد التاريخي لهذا النصر، ولنترك باراك يتحدث. يقول هذا العنصري القديم، الذي تنكر في زي أمرأة واغتال بعض القيادات الفلسطينية في لبنان وترأس فريق المستعرفيم المستعربين الذي كان يتنكر في زي عربي ويذهب إلى الأسواق الفلسطينية ليغتال بعض ناشطي الانتفاضة: "إن الحرب ضد الإرهاب مثل الحرب ضد البعوض، يمكن أن تطارد البعوضة تلو الأخرى، ولكنها حرب ليست مجدية من ناحية الكلفة". ولنلاحظ أن الصورة المجازية هنا تحاول أن تحقق أموراً عدة: التقليل من شأن المقاومة، وتحويلها إلى شيء لا قيمة له، بل ضار، يجب التخلص منه وإبادته وإعطاء مبرر للصهاينة للانسحاب، فالمسألة بالنسبة إليه مسألة كلفة لا أكثر ولا أقل. ولكن الزمان يتسلل إلى خطابه، رغم أنفه، فحينما سأله مندوب مجلة "تايم": لِمَ لَمْ تطالب بالانسحاب من لبنان حينما كنت رئيساً للأركان؟ اضطر باراك أن ينطق بالحقيقة، فالمسألة قد تكون، مسألة كلفة ولكنها مسألة كلفة متصاعدة، تبين أن عدوك يتعلم ويستفيد ويطور نفسه. يقول باراك إنه لم ينسحب "لأن الأمر لم يكن ناضجاً حينذاك". و"حينذاك" هذه تفتح الباب على مصراعيه للزمان، إذ أن باراك يعترف أن حزب الله نضج بمرور الزمن، وكيف كان ذلك؟ "لقد قطع حزب الله مسافة طويلة منذ ذلك الوقت، مما اضطرنا لأن نستمر بشكل أكبر وانتهى بنا الأمر بأن أصبح عندنا عربات مصفحة ضد متفجرات من عيار 50 ك.ج، وهذا وحش كاسر. حينما بدأنا كنا ندافع عن سياراتنا ضد الألغام، واللغم عبارة عن 5،4 كلغ من المتفجرات. فوضعوا لغمين، الواحد مع الآخر، مما اضطرنا إلى أن نجعل سياراتنا أكثر تحصيناً، فاستخدموا أسلحة أكثر تطوراً من بينها صواريخ TOW وهي تصيب أهدافها بدقة. فتجد نفسك متورطاً في حرب متقدمة للغاية تتطلب كلفة كبيرة. فبكل بساطة على رغم أن يدنا كانت هي الطولى، إلا أن الموقف كان يتدهور بشكل حلزوني إلى أسفل ويؤدي إلى سحبنا بشكل أعمق وأعمق في الوحل". على رغم أن باراك لا يستطيع أن يتخلى عن عنصريته وخيلائه فهو لو فعل لظهر عارياً أمام نفسه وأمام العالم: القائد المهزوم ولذا نجده يطعم خطابه بعبارات مثل "اليد الطولى" و"الوحل" ولكن الرسالة التاريخية الزمنية وصلته، واعترف بها على رغم كل محاولاته أن يخبئها ويتملص منها. ذكر باراك أن حزب الله استخدم اساليب قتالية متطورة وتكتيكات عدة، لكنه لم يذكر جوانب أخرى، تُذكر الدارس بالانتفاضة، وأهمها أن المواجهة لم تتم بين الجيش الغازي ومجموعة صغيرة من المقاتلين تم تدريبهم بكفاءة، وإنما تمت بين الجيش الإسرائيلي الغازي والكتلة البشرية اللبنانية بأسرها ومن ضمنها النخبة المقاتلة وأن هذا مكنّها من تحقيق قدر عال من التماسك جعل من الاختراق مسألة مستحيلة، وزاد من ثقة المقاومة بنفسها فاستطاعت هي اختراق العدو واستخدام أحدث وسائل الدعاية والاستخبارات. وهذا ما حدث تماماً إبان الانتفاضة، وهذا ما حقق لها قدراً كبيراً من الاستمرار والنجاح، فأمام مثل هذا الحائط البشري التاريخي ماذا يمكن للعدو أن يفعل؟ لقد تحولت "الحدود الآمنة" و"الحزام الأمني" إلى "مستنقع" و"كابوس" و"مأساة" هذه كلها صور مجازية إسرائيلية، وحتى يُسكت معارضيه استشهد باراك بمناحيم بيغن الذي قال: "إن لبنان مأساة، لا يمكن تحملها"، ثم أضاف أن بيغن بعد اكتشافه هذا ضرب على نفسه العزلة إلى أن مات كمداً حينما ذكرت وقتها ذلك في إحدى مقالاتي تهكم أحد الواقعيين العرب، وأخبرني أن الرجل مات حزناً على زوجته، واتهمني بمرض التفاؤل الثوري وعدم تقبل واقع الاحتلال... السرطاني. إن "المستنقع اللبناني" أصبح صورة مجازية أساسية في الوجدان الإسرائيلي، لكن باراك، مثل معظم الكذابين، يفقد أحياناً سيطرته على الصور المجازية التي يستخدمها كسحابة دخان لتغطية رؤيته الحقيقية فتفضحه بدلاً من أن تستره. فيقول: "إن منهجنا هو تجفيف المستنقع" من طريق الانسحاب، ولكن، إذا كان الانسحاب هو تجفيف المستنقع، فالماء الراكد إذاً هو جيش الغزو الصهيوني، وجنوده هم البعوض، أليس كذلك؟ ثم ينطق باراك بالحق: "لم أر قوة عسكرية أصبحت أكثر قوة، أو أي أمة أكثر ثقة بنفسها بأن حاربت ضد رجال العصابات المقاتلة في بلد آخر". ويقر باراك: "إن القيادة لا بد أن تنظر للواقع بعيون مفتوحة، حتى لو كان هناك شيء من القسوة في ذلك"، فيقرر الانسحاب، ولكن ما هي القسوة في أن ينسحب صاحب اليد الطولى الذي يطارد البعوض؟ القسوة تكمن في أن البعوض ليس بعوضاً، وإنما مقاومة حاولت ونجحت في تحرير الأراضي المحتلة، وأنها تمثل أنبل القيم الإنسانية، وأن صاحب اليد الطولى هو جيش مستعمر قطعت يده أو حرقت أصابعه، فولى الأدبار، وبدأ يدرك أنه جيش استعماري ظالم يمثل أخس ما في الإنسان. إن إفرايم سنيه كان أكثر دقة وأمانة فى وصفه للواقع الإسرائيلي حينما قال: "نحن نفضل كوليرا الانسحاب على سرطان طاعون بقاء الاحتلال". فصورة المرض المجازي تُستخدم هنا لوصف كل من الاحتلال والانسحاب، فبقاء القوات الإسرائيلية مرض وانسحابها مرض، والاختيار هنا بين الأمرّين أو المرضين". ولكن علينا نحن العرب أن نتذكر أن ما حوّل الاحتلال من نزعة خلوية إلى كوليرا هو مقاتلو حزب الله. توظيف الانسحاب ويفترض الإسرائيليون - كما أسلفنا - أن العرب مفعول به، يمكن تحريكهم كما يشاء المستعمر الصهيوني، ويمكن القول بأن المشروع الصهيوني ككل يستند إلى هذا التصور، أليست نقطة الانطلاق هي الغياب العربي؟ فلو أن العرب موجودون فعلاً، فهل هناك مجال للوجود الصهيوني؟ أليست فلسطين أرضاً بلا شعب؟ وأليس وطننا العربي مجرد "منطقة"، مكان بلا زمان، وجغرافيا بلا تاريخ. ومساحة يتحرك عليها بشر لا يمكن أن يُحسب لهم حساب؟ ولذا تصور الإسرائيليون أنهم بانسحابهم سيحققون أشياء عدة من بينها أنهم سيعطون العالم صورة إيجابية عن أنفسهم، فهم يمتثلون لقرار هيئة الأمم 425 باعتبارهم جماعة متحضرة، ولكن من يمكن أن يصدق مثل هذه الأكذوبة / النكتة، تنفيذ القرار بعد مرور 22 عاماً، هكذا ومن دون مقدمات؟ هل استيقظ الضمير الإسرائيلي فجأة، وبث الله النور في صورهم؟ لكن العالم كله يعرف أن هناك أجندة خفية، فالتصور الإسرائيلي للمنطقة هي أن تُقسم إلى دويلات إثنية وعرقية ودينية متنافرة متناحرة دولة كردية - دولة شيعية - دولة سنية - دولة مارونية، وهكذا، ومن ثم يمكن لإسرائيل أن تكون الدولة القائدة. وكان التصور الإسرائيلي أن لبنان أكثر دولة مرشحة للتقسيم وتجربة الحزام الأمني كانت في تصورهم هي البداية. وعلى رغم فشلهم في ذلك فالمقاومة الإسلامية في لبنان كانت تضم مسلمين ومسيحيين، إيمانيين وعلمانيين، تماماً مثل جيش لحد العميل، فهو لم يكن "مسيحياً" كما يحلو للبعض أن يروج، وإنما كان لفيفاً من نفاية المجتمع اللبناني ككل. نقول على رغم فشلهم إلا أن الصهاينة لا يتعلمون من التاريخ وكيف يتعلمون منه وهم ينكرونه، ولذا فهم لا يزالون يتصورون أنهم بانسحابهم يمكنهم زرع الفرقة في لبنان وأن يجعلوه يسقط صريع الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين وبين الشيعة والسنة. وأنهم يمكنهم أن يصعدوا الخلافات بين الجيش اللبناني والمقاومة بأن يصروا على ضرورة نزع سلاح المقاومة وأن يقوم الجيش اللبناني بحماية المنطقة الشمالية لإسرائيل، وهم أخيراً يتصورون أنهم بإنسحابهم سيتمكنون من تحقيق ما يريدونه من فصل المسار السوري عن المسار اللبناني تتلخص الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع كل دولة عربية على حدة، حتى يمكن التهامها كاللقمة السائغة. وكل هذا بطبيعة الحال ممكن، ولكن قيادة حزب الله أظهرت وعياً بحيل العدو، إن كان في تعاملها مع سكان المناطق المحررة أو حتى مع العملاء الذين سلموا أنفسهم، فلم يتم اضطهادهم أو رجمهم كما فعل الفرنسيون مع المتعاونين مع النازيين. كما أن لبنان وسورية بيّنا للعدو أن انسحابه ليس هو نهاية المطاف، فهناك قضية مزارع شبعا، وقضية تعويض لبنان عن الأضرار التي حاقت بها نتيجة الاحتلال، وهناك قضية المعتقلين اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، وأخيراً هناك القضية التي لم يطرح الصهاينة أي حل لها منذ تأسيس المنظمة الصهيونية وهي قضية اللاجئين الفلسطينيين الذين يزيد عددهم في لبنان بحسب بعض الإحصاءات عن 350 ألف لاجئ. تساقط الأساطير ولننه هذا المقال عن الأساطير والصور المجازية بالحديث عن هذا الموضوع. من أهم الاساطير الصهيونية أسطورة ماسادا، و"ماسادا" كلمة آرامية تعني "القلعة"، وكانت توجد بها حماية رومانية هاجمها بعض المتمردين اليهود عام 66 ميلادية إبَّان التمرد اليهودي ضد الامبراطورية الرومانية واستولوا عليها وذبحوا كل أعضائها. وأخمد الرومان التمرد وقاموا بحصار القلعة. وتقول الأسطورة إنه بدلاً من الاستسلام آثر اليهود ممارسة انتحار جماعي حتى لا يقعوا أسرى في أيدي الرومان. ثبت كذب هذه "القصة"، ومع هذا تقوم أجهزة الإعلام الإسرائيلي بمحاصرة العقلية الإسرائيلية واليهودية بأسطورة "ماسادا"، ففي كل عام تقيم بعض أسلحة الجيش الإسرائيلي احتفالات ترديد يمين الولاء على قمة القلعة ويقسمون في نهايته بأن "ماسادا" لن تسقط ثانية. وأثناء الانتفاضة لم يتحدث أحد عن "ماسادا" وإنما تحدثوا عن الطائرة المروحية، وما هي حكاية الطائرة المروحية هذه؟ يقول شارون إنه إن لم يصمد الإسرائيليون فستأتي الطائرات المروحية وسيستقلها الإسرائيليون من على سطح السفارة الاميركية كما فعلت في فيتنام عند انسحاب قواتها. وكتب أحد الشعراء الإسرائيليين حاييم حيفر آنذاك قصيدة بعنوان "نرحل جميعاً إلى أميركا"، والتي تصف خروج الإسرائيليين بعد أن لملموا حقائبهم وأمانيهم، وبعد أن حزمت الحكومة حقائب الرحيل إلى أميركا، إن الصورة السائدة لا تذكرنا بأبطال "ماسادا" المنتحرين إنما بالجنود الإسرائيليين المنسحبين من الجنوباللبناني: وبسرعة أخذت الطائرة... تطير أما الدولة فقد هجرت وحيدة... تركت إسرائيل". راغبة في الرحيل بعيداً عن "ماسادا" المتهالكة، بعيداً عن صهيون التي اشتعلت فيها النيران، الى الولاياتالمتحدة الوطن القومي الآمن وربما الحقيقي. انتحر عدد من الجنود الاسرائيليين في جنوبلبنان ولم يكن انتحارهم تعبيراً عن الاصرار في الدفاع عن "اماكنهم" وانما كان احتجاجاً على حرب لا معنى لها من وجهة نظرهم، كما لوحظ تصاعد ظاهرة الفرار من الخدمة العسكرية. ولا شك في ان الانسحاب، وهو الفرار الكامل الشامل، سيقوض اسطورة "ماسادا" تماماً بحيث تتحول الى أشلاء تشبه من بعض الوجوه الخرائب والاسلحة وفلول جيش لبنانالجنوبي التي تركها الصهاينة المهزومون وراءهم. ويعبر نشيد الهاتيكفاه الامل نشيد الحركة الصهيونية، والنشيد القومي الاسرائيلي، عن واحدة من اهم الاساطير الصهيونية، اسطورة الشعب الواحد الذي يتوق للعودة لوطن اجداده: "ما دامت روح اليهودي في اعماق القلب تتوق ونحو الشرق تتطلع العيون لصهيون املنا لن يفقد أبداً". ماذا فعل الجنود الصهاينة بنشيدهم الصهيوني هذا؟ بدلاً من التفاخر بالحلم الصهيوني القديم غنوا نشيدهم في جنح الظلام وبسرعة ثم فروا من المستنقع والمأساة والجحيم، ولعلهم في خروجهم اكتشفوا ان كلمات النشيد اكتسبت معاني ساخرة، فعيونهم تنطلق الى صهيون فعلاً، ولكن صهيون لا تمتد من النيل الى الفرات وإنما انكمشت لتصبح اسرائيل داخل حدود 1948، بل ان شمال صهيون، المجاور لجنوبلبنان، اصبح يعيش في حال رعب وانهيار اكثر من ذلك الانهيار الذي حدث لجيش لبنانالجنوبي، فقد ساد الفزع المستوطنين وغادرت اعداد كبيرة منهم الى وسط اسرائيل عند ذويهم، وعرضت اعداد منهم المنازل للبيع، أي انهم خرجوا من شمال اسرائيل مثلما خرجت القوات الاسرائيلية من جنوبلبنان، والبقية تأتي بإذن الله. و"الخروج" في الوجدان اليهودي عادة مرتبط بالخروج EXODUS من مصر أيام موسى التوراتي، لكن المصطلح ارتبط في الوجدان الاسرائيلي الحديث بواقعهم، ولذا سميت هجرة الاسرائيليين الى الولاياتالمتحدة الخروج الثاني، او الخروج من صهيون، فهل سيسمى الانسحاب من بيروت "الخروج الثالث"؟ وماذا عن الخروج الرابع والاخير بإذن الله والذي أشار إليه الشاعر الاسرائيلي في قصيدته؟. باب الجهاد والاجتهاد مفتوح، وهذا ما اكده الجنرال الاسرائيلي شاؤول موفاز، فحينما أخبره احد الصحافيين الاميركيين ان الامر انتهى بعد انسحاب القوات الاسرائيلية من جنوبلبنان، قال مستنكراً: "عمّ تتحدث؟ "إنتهى" هذا وضع جديد ولنر ماذا سيحدث؟" ومن يجتهد ويجاهد هو الذي سيقرر طبيعة النهاية، أما الواقعية والاستكانة فنتائجها مضمونة تمامآً... الهزيمة النكراء والله أعلم. * كاتب مصري