ألكسي بطرس كان موسيقياً بارعاً وفناناً ممتازا، لكنه لم يكتف بأن يكون هو كذلك بل كان مغرماً بنشر الثقافة الفنية بين شباب لبنان ولذلك أنشأ معهداً سماه الألبا. والحروف الأربعة هذه مأخوذة من أول الاسم المكون من أربع كلمات بالفرنسية، ومعناها باللغة العربية المعهد اللبناني للفنون الجميلة. إلا انه فضل ألا يكتفي بأن يكون المعهد وقفاً على الفنون الجميلة، فأنشأ اضافة الى ذلك قسماً علمياً لتدريس مجموعة من الموضوعات تؤدي في النهاية الى تمكين الشباب من أن يخدموا بلدهم، سواء كانت موضوعات سياسية أو تاريخية أو اقتصادية. وكان المستوى الذي يصل اليه هو مستوى الليسانس. طلب مني ألكسي بطرس أن أعلم مرة عنده. ذهبت وعلّمت سنتين لكنني أريد أن أتحدث عن سنة واحدة1953 - 1954. كان عدد الطلاب في الصف خمسة هم: ميشال أبو جودة، عفيف المقدم، رضوان مولوي، حليم طرباي، وآنسة نسيت اسمها. اثنان كانا مسلمين واثنان كانا مسيحين مارونيين. قلت لهم لما بدأنا العمل لا أريد أن ألقي عليكم محاضرات، فلنختر موضوعاً تبحثون عنه وتقرأون عنه أنتم خلال الأسبوع ونتناقش به في الجلسة. اتفقنا على هذا وسارت المناقشات لكن في نهاية المطاف ظل الأمر كما يقال"دق المي وهي مي". رضوان المولوي وعفيف المقدم يصرّان على أن لبنان عربي غصباً عنه. وميشال أبو جودة وحليم طرباي يقولان لبنان هو لبنان، واحد من الدول العربية لكنه ليس عربياً بالمعنى المقصود. جربت أنا أن أكون حكماً على اعتبار أنه صحيح ان العرب فتحوا لبنان أيام الفتوح المبكرة وأنه انضم الى هذه الامبراطورية الواسعة لكن ظلت اللغة العربية محدودة فيه بسبب الجبال المرتفعة والعنصر العربي لم يكن فيه كثيراً. كان قبل الإسلام فيه مناطق مختلفة تسكنها جماعات عربية، لكنه لم يكن عربياً. فضلاً عن ذلك فإنه بدءاً من أيام العباسيين أصبحت الجيوش والجماعات التي تتحكم في لبنان وسورية وفلسطين كلها أي في كل بلاد الشام جماعات تركية كان ينتدبها خلفاء العباسيين لحكم سورية ومصر. وهؤلاء كانوا أتراكاً ثم جاء الأتراك فاستبدوا بالأمر وهم كانوا العنصر الأساس في المناطق السهلية في لبنان. على كل انتهينا على لا شيء، لكن علاقتي بالجماعة لم تنته. ميشال أبو جودة كان قد بدأ يكتب في جريدة"النهار"عموداً باسم"حدث النهار". كنت أ قرأه باستمرار وأؤكد أن هذا العمود الخصيص كان أبو جودة ينظر فيه الى الأمور نظرة واسعة وعميقة. وكم أفدت من قراءته لكن لم أتصل بميشال في ما بعد إلا مرة او مرتين وكانت بالمصادفة ولم يعمر طويلاً. رضوان مولوي اشتغل هنا في لبنان ثم ذهب للانضمام الى BBC في لندن، وهناك أراد أن يتابع دراسته فيحصل على الماجيستير من جامعة لندن. لكن على ما يبدو هذا المعهد الذي أنشأه ألكسي بطرس لم يكن معروفاً رسمياً هناك. أظهر لهم ما الذي درسوه وقبلوا به لكن قالوا له نريد شخصاً من خريجي جامعة لندن يشهد بهذا الأمر فذكر اسمي وانني كنت أستاذه فيه وطلب مني رضوان هذه الشهادة بعثت بها اليه باعتباري من خريجي جامعة لندن. فقُبل وقام بعمل الماجيستير. ولما عاد الى لبنان كان صديقاً لي وكم ساعدني في أمور مختلفة. ثم عيّن مديراً للأخبار في الجامعة الأميركية وكانت علاقتنا علاقة صداقة. ولما انتهى من عمله هنا ذهب الى طرابلس بلده الأصلي وهناك عمل في منصب إداري لجامعة الجنان وصار نائب الرئيس فيها. عفيف المقدم كان يزورني كثيراً وهو يعمل في الحكومة في ديوان المحاسبة. لكن لما تزوج عفيف المقدم أصبحت زياراته نادرة ثم انتهت. إلا أننا كنا نتصل تليفونياً وكنت أتابع مسيرته، وتوصل عفيف لأن يصبح رئيساً لديوان المحاسبة. في هذه الأثناء درس القانون أو تعمق في دراسة القانون ولما تقاعد أصبح يدرّس القانون في الجامعة العربية في كلية الحقوق. وقد التقيت سنة 2002 بابنته التي كانت ملحقة ثقافية في السفارة اللبنانية في القاهرة وهي التي قامت بترتيب الليالي اللبنانية التي دعيت أنا مع آخرين منهم الأستاذ طلال سلمان لإحيائها علمياً وصحافة من جهة وفناً إذ كانت هناك ليلة تمثيلية. حليم طرباي ظلت قرابتي منه كثيرة. وحليم توظف في الدولة. كان في يوم من الأيام قائمقام منطقة حاصبيا، ثم أصبح سكرتيراً لمحافظة البقاع. كان الرجل طموحاً، طموحاً جداً. كان يزورني وكنا نلتقي ونتحدث كثيراً. في يوم من الأيام قلت له أنت يا حليم رجل طموح، هذه الأعمال الادارية لا تكفيك يجب أن تصل الى الوزارة. قال لي يا دكتور زيادة أنا أطمح في شيء أكبر بكثير من الوزارة في لبنان. لكن الموت لم يسمح له بتحقيق أكثر من سكرتير محافظة البقاع فقد توفي في عز الشباب. هذه السنة التي قضيتها في معهد الألبا كانت تجربة متميزة لي بسبب هذه المناقشات التي كانت تجري بيننا والتي كانت في أحيان كثيرة تبلغ درجة كبيرة من الحماس. بهذه المناسبة كانت ثمة فتاة هي الخامسة في الصف لكنني أُنسيت اسمها. إلا انها لقيتني مرة في نقابة الصحافة في بيروت وسلمت علي وقالت لي أنت لا تذكرني أنا كنت طالبة عندك في معهد الألبا مع فلان وفلان وفلان وفلان. ووعدتني بزيارتي، وأنا لا أزال أنتظر. عندما يعلّم المرء سبعاً وستين سنة في مدارس تبدأ بالضيعة ثم في مدرسة ثانوية ثم في كلية ثم في جامعة مع زيارات لجامعات أخرى فليس من الغريب أن تكون له تجارب متنوعة هنا وهناك، لكن هذه كانت سنة لها ميزة خاصة لأنها أوضحت لي تماماً موقف فريقين في لبنان. ولا يزال هذان الفريقان على موقفهما من القضية.