"طائر على سنديانة" دار الشروق، عمّان 2002 مذكرات لكمال الصليبي، تذكرنا بأبي حيان التوحيدي، وأبي العلاء المعري، وابن حزم الأندلسي في أساليبهم الاعتذارية التي دفعت بهم لكتابة الحميم من غربتهم، أو من زندقتهم، أو من مسالك حبهم، تلبية لرغبة راغب، لا لرغبة في النفس، وفي هذا يقول كمال الصليبي: "كثيرون من أصدقائي رغبوا في تدوين مذكراتي". وإذ آثر كمال الصليب ان تكون له مذكرات لا سيرة ذاتية، فلأن للمذكرات ان تتهافت، وأن تقصر، وأن تطول، دون ما تعرفه السيرة الذاتية من خط امتدادي، لا انتكاسي كالخط الذي استبد به المؤلف وجعله مفتوحاً على أحداثٍ تتقاطع كتقاطع الظلال في الذاكرة، أو كتداعيات عالم اللاوعي المنفلت من ضوابطه. ومن نصيحة سابقٍ للاحق قبل قراءة المئة وخمسين صفحة الأولى من "طائر على سنديانة" التذكير بما قاله عمر فاخوري في كتابه "الحقيقة اللبنانية": "ان الواحد منا يكاد يحتاج الى جواز سفرٍ ليعبر بين طائفة وأخرى" هذا إذا حصل على التأشيرة، لأن الكثير من العابرين بإمكانه ان يشبه "البدون" أو تكون له "هوية قيد الدرس" أو يكون "مجهول باقي الهوية". فكل من لا يتسلح بجواز سفر، عبثاً يغامر في التقاط "طائر السنديانة" أو الاصغاء الى حِكَمه. الى جواز السفر، هناك الفروقات الجسدية، والجهاز العظمي، وأقيسة الرأس، وفيها امتحان للعابرين يسميه كمال الصليبي Anthropometry، ويختص بدراسة الفروقات بين مختلف أجناس البشر وبخاصة القياسات المختلفة للجماجم، وهو علم أخذه كمال الصليبي عن وليم شانكلين William Shanklin من كلية الطب في الجامعة، وقضى صيفاً بأكمله يطلب من كل من يلتقي به ان يقيس رأسه إذا سمح. ولما ألغت الجامعات البحث في هذا الفرع من الانثروبولوجيا لاعتباره يشجع العنصرية، تبين لكمال الصليبي التأثير السلبي للاتجاهات الأخلاقية في الموضوعية في العلم ص 163. ولما كانت هذه التنبيهات من فضائل المؤرخ الموضوعي، فإن كمال الصليبي يُعذر، إذ يطل بالصفحة الثانية من كتابه على عشيرة ملكية من النصارى، تفرّع عنها الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك بعد عام 1683 هي عشيرة "بيت الصليبي" التي لا ينتمي اليها المؤلف، بل الى أخرى بروتستانتية يبدأ تاريخها في العقد الرابع من القرن التاسع عشر، عندما كانت البلاد الشامية خاضعة لحكم ابراهيم باشا المصري 1832 - 1840، وهذا هو التأريخ الذي يستوقف كمال الصليبي، وهو تاريخ المرسلين الذين أسسوا مدرسة عبيه في الشحار الغربي، والتي تخرج فيها الكثير من آل الصليبي. ومن عبيه، ينتقل الصليبي الى الكلية السورية البروتستانتية التي هي اليوم الجامعة الأميركية في بيروت ليستطرد في حكايات تقادمت، ومنها انقسام أساتذة الكلية آنذاك بين مؤيد ومعارض لنظرية شارلز داروين في النشوء والارتقاء 1809 - 1882 فيقول: "لما كانت ادارة الكلية تشجب الداروينية بشدة، وتعتبرها خطراً على الإيمان المسيحي، فقد صرفت الأساتذة المؤيدين للنظرية، وأجبرت الأميركيين على الاستقالة، وطردت الطلاب المناصرين لهؤلاء الأساتذة". أما عن أبويه فيقول كمال الصليبي: "أبي هو سليمان بن خليل بن يوسف بن نهرا الصليبي. تزوج في العام 1919 على يد القس بشارة البارودي من سوق الغرب، بسلوى ابنة ابراهيم بن شبلي الصليبي خريجة مدرسة الأميركان للبنات في بيروت". وقد عمل سليمان كضابط طبيب في الجيش المصري، ثم أرسل الى السودان الذي كان مستعمراً من بريطانيا بالاشتراك مع مصر. وفي السودان ولدت سلوى ابنها البكر سامي ثم بهيج، أما كمال فولد في بيروت، بعد أن ولد خليل في بحمدون، ولحق به منير وأخيراً سنيّة. وتطل بحمدون بمآثرها، وكأنها "يتيمة دهرها" بدود القز، وقطف ورق التوت، ومَشقِهِ، وثراء بعض أهلها، أو فخامة بعض دورها، وصولاً الى نزول المرسلين الأميركيين فيها للتبشير، وقد حملوا معهم الكتاب المقدس، ومن وصاياه بعد مجازر 1860 الطائفية "لا تقتل". ومن محطات بحمدون/ التاريخ مرور امبراطور المانيا غليوم الثاني بها، حين قدومه الى بلاد الشام تلبية لدعوة السلطان عبدالحميد الثاني، لا لأهالي بحمدون. وقد اغتنم نصارى المتن توقف الامبراطور في بحمدون لأنها "محطة"، ورفعوا اليه عريضة تطالبه بمزيد من الاهتمام بشأنهم. ولما استجوبهم غليوم وعرف انهم أقلية في محيطهم أجابهم: "إذا كان وضعكم لا يعجبكم، فما عليكم إلا ان تتحولوا الى الإسلام". المغايرة والاختلاف ومن طقوس المغايرة والاختلاف عن بقية الطقوس "خلو كنيسة بحمدون من الصليب" عملاً بالوصية الثانية من الوصايا العشر: "لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما". فالبروتستانتية التي تقوم على تحكيم العقل، وضرورة "الولادة من فوق" أي بالروح، هي التي تحول اليها الكثيرون من أبناء بحمدون الأرثوذكسيين ليولدوا "من فوق" كما يتمنى لهم المؤلف الولادة، ولينالوا نِعَمَ المبشر المصري برنابا نوس، الذي قدم الى بحمدون صيف 1939، لتقع على يديه "معجزة" شفاء صبية، أقعدتها آلام الظهر، وعجز الأطباء عن شفائها، حتى صاح بها برنابا نوس: "باسم يسوع الناصري، قومي وامشي" ففعلت وصارت من أتباعه، من دون ان ندري ما كانت تتبع سابقاً!! وبعد بحمدون العابقة بالطقوس والمعجزات، يسمع كمال الصليبي الآذان في بيروت للمرة الأولى، ويتعرف من ثمَّ الى المسحّر، وطقوس شهر رمضان. ففي رأس بيروت، لا ضواحيها، كانت توجد جالية كبيرة من البروتستانت ترفد الجامعة الأميركية بأساتذتها وأطبائها، المتفوقين على غيرهم في شتى حقول المعارف. وصار الى جانب همّ "الوطن القومي" همٌّ آخر لعائلة الصليبي، وهو هم جنسيتهم المصرية، وتخوفهم من احتلال المانيا أو ايطالياللبنان" كون مصر كانت تابعة لانكلترا. غير ان سليمان سرعان ما تدارك الأمر، وجاء برزمة من أوراق الهوية وقال لزوجته: هذه هي هويتك اللبنانية وهويات الأولاد. وقد قال كمال الصليبي عن تلك الرزمة الورقية: "وهكذا صارت العائلة المصرية، عائلة لبنانية بين يوم وغده"، واحتفظ لنفسه بسر تلك الصيرورة، التي ناءَ لبنان بأسرار كثيرة حفظها لأبنائه، الذين لم يحفظوا له أبوةً، ولا انتماءً، ولا تاريخاً. وتأتي ذكريات مدرسة برمانا العالية، فيتوقف كمال الصليبي عند أستاذ التاريخ و"التقدم البشري"، منير سعادة، وهو على ما فَهِمَ المؤلف بروتستانتي من دمشق يحمل شهادة بكالوريوس في اللاهوت، ومن نبوءاته "ان هذه البلاد لا نوى منها، ولا مستقبل لها، وشعبها لن يتقدم، ولذلك فالأفضل للإنسان ان يرحل عنها قبل فوات الأوان". وهذا ما فعله أستاذ التاريخ الذي غادر الى أميركا ولم يعد. ولما لم يكن كمال الصليبي ناشطاً سياسياً، فقد كان يفاخر بأخيه بهيج وحلمه البريء بقيام أمة عربية. وقد كان بهيج - على ما يقول المؤلف - يتبادل تحقيق حلمه مع شاب يهودي اسمه اسحق الياس كان تعرف اليه في بغداد سنة 1941 - 1942. ثم تبين لاحقاً لكمال الصليبي ان اسحق الياس اضطر خلال الخمسينات الى مغادرة العراق. فهاجر الى اسرائيل حيث أصبح المساعد لوزير الخارجية موشي شاريت لاحقاً: ص129. ومن مفارقات الصفحة 129 انتقال كمال الصليبي المأخوذ بالكلمات المتقاطعة، والفقرات المتقاطعة، والمذكرات المتقاطعة، تقاطع أخبار اسحق الياس، مع أخبار الD.D.T كمبيد للحشرات وترافقه مع ثورة في عالم الإغراء وهي ظهور جرابات النايلون النسائية، والى جانبها حقن البنسلين. وفي اكتظاظ الصفحة 129 يسرد لنا كمال الصليبي مخاوف فضلو شحاده من "التغرير" بكمال سياسياً: فيبدأ بالشيوعية التي تتنافى مع الحريات والديموقراطية، ثم ينتقل الى الكتائب التي تسعى لعزل لبنان عن بيئته العربية، وأخيراً الى القوميين العرب الذين توقف عندهم فضلو شحاده، وتركه كمال الصليبي معهم، لينتقل الى المغنية البريطانية، ومعبودة الجماهير Carmen Paddy التي كانت تغني في الملاهي الكبرى في بيروت والجبل، باللهجة العربية البدوية: "يام العباية حلوة عباتك" و"حوّل يا غنام حوّل بات الليلة هِين". وإذ يعود فضلو شحاده الى تحذير كمال من التعرّض لتيارات سياسية تتناقض فتحيره، كان الصليبي منشغلاً عن السياسة، بغربته بين بروتستانت رأس بيروت، وكأنه المنبوذ، لأنه ليس منهم. ويضيف الصليبي فيقول: "وقد نبذني معظم اللبنانيين المسيحيين بسبب الاختلاف في الذوق والتصرف، ما جعل أصدقائي من المسلمين والدروز ومن غير اللبنانيين من العرب". وقد كان على كمال الصليبي الAnthropometre والمؤرخ الشغف بقراءة فرويد ان يعالج مرضاه من اللبنانيين المسيحيين بتحسين أذواقهم وتصرفاتهم حتى ولو أدى به الأمر الى تغيير جماجمهم فلربما في "التشبه به" يكون شفاؤهم، أو شفاؤه. ازاء هذه الغربة القاتلة، كان من الطبيعي ان يميل كمال الصليبي الى التيار القومي العربي مع "الإبقاء على قدر من التحفظ تجاهه". وذلك بعد أن رأى الصليبي أن الغلاة من اللبنانيين المسيحيين كانوا يتحفظون تجاه عروبة لبنان، ويشددون على انتمائه الى حضارة البحر المتوسط، كونهم يشاركون اليونانيين والايطاليين والفرنسيين والاسبان "الاستحمام" بمياه المتوسط" وكأن كمال الصليبي إذ استوقفه "الاستحمام" نسي ضرورات كثيرة يتقاسمها المتوسطيون، وكلها تمت الى "الاستحمام" وأفخاذه، وبطونه لا بصلة وانما بصلات، أكثر إلحاحاً، وأعظم أهمية. ومن البحر المتوسط "ومستحميه"، الى مرتفعات القرى المارونية لجبل لبنان، سؤال كمال الصليبي لصديقه الدمشقي يحيى الحمصي: "ماذا لو تمَّ اجتياح هذه الجبال لتفرض عليها العروبة؟"، فأجاب يحيى الحمصي: "أنا أقدِّس هذه الجبال، فلولا أهلها الأشاوس، لما كان في العالم العربي من أقصاه الى أقصاه، موئل للحرية". واستشار كمال الصليبي يوسف ايبش في هذا الشأن فأجابه: في قول يحيى الحمصي الصواب عينه ص 138. عذابات الانتماء وما ان تمَّ قبول كمال الصليبي في مجتمع شبيبة رأس بيروت "بشفاعة" من ندا بارودي - كما يقول - لكونها من بيئة بروتستانت رأس بيروت، حتى عادت أخبار العائلات تزحم ذكرياته، وتغنيها بدورٍ، وأسماء، وعشائر، وجد فيها انتماءً، وحظوةً. ومن عذابات الانتماء، يعود الصليبي الى عذابات البحث عن قصة الموارنة في جبل لبنان في القرون الأولى من الإسلام، وهو عذاب بدأه مع أستاذه المشرف نبيه أمين فارس في الجامعة الأميركية ببيروت، ليعود ويرده اليه ثانية أستاذه المشرف برنارد لويس في لندن. وكأنه كان من قدر كمال الصليبي التأريخ لهؤلاء الموارنة انطلاقاً من زجلية جبرائيل ابن القلاعي الراهب الماروني في "مديحة على جبل لبنان" وفي لبنان أساطير كثيرة لحيرة المؤرخ!! ومن الأساطير التي سمعها "طائر السنديانة" حيث بدأ "يتكلم أقلّ ويسمع أكثر" أسطورة الرهبان الموارنة في البطريركية المارونية في بكركي، "انهم اقحاح العرب لأن دماءهم لم تختلط بدماء الأتراك، والأكراد، والألبان، والبوسنيين". ولما فتح كمال الصليبي دفاتر السياسة لا التاريخ، عاد من لبنان بما هو مكرور مُعاد، من عهود كميل شمعون، وفؤاد شهاب دون سواهما، أما في دفاتر التاريخ فكان من أسئلته: "هل ان لبنان الحديث هو امتداد تاريخي لفينيقيا؟ أو انه الجبل الأشمّ الذي لم تتمكن الفتوحات العربية والإسلامية من اخضاعه؟ أو ان تاريخ لبنان ما هو إلا تصور لا أساس له من الصحة؟" ص 290. وإذ تبين لكمال الصليبي ان هذا الصراع بين المقولات المختلفة حول تاريخ لبنان هو في أساس الحرب الأهلية، كان لنا من مواعظه: ان يتصالح اللبنانيون مع تاريخهم، من دون أن يشير الى ان هذه المصالحة لا بدّ من ان تتم "مع تصور لا أساس له من الصحة"!! وأخيراً ولما حار كمال الصليبي بهذه الأسطورة التي ليست من التاريخ سأل ميشال أبو جودة السياسي العتيق في ما يحدث على أرض لبنان فكان جواب ميشال: ان لبنان كالساعة السويسرية الدقيقة التركيب، والمعرضة دائماً للتقديم أو التأخير أو عدم الانضباط. وتابعت رشا سلام وأضافت: "نحن اللبنانيين نختلف ونتشاجر، لكن إذا حاول أحدٌ استغلال خلافاتنا للتنكيل بنا، نعود الى الاتفاق في ما بيننا في ليلة "ما فيها ضو قمر" فيكون ذلك درساً له". ولربما كانت هذه موعظة "طائر السنديانة" وقد حملتها رشا التي كانت على يقين ان الولادة كما الموت كما الصلاة، تبتهل لأرض تضمها وتحنو عليها، لأن من لا أرض له، لا دين له.