شهدت معظم الأحياء المصرية في الفترة الأخيرة تزايداً ملحوظاًَ في عدد المقاهي التي انتشرت في الأحياء والميادين والشوارع وبدأت تجتذب أعداداً كبيرة من الزوار الذين يبحثون عن المشروبات الساخنة والمثلجة والشيشة النارجيلة، بعد أن رأى فيها الكثيرون متنفساً من زحمة القاهرة وضيق شوارعها وتلاصق جدرانها. وتخطى المكان فرصة احتساء المشروبات ليكتسي ثوباً جديداً تحيكه الصفقات والاجتماعات والاتفاقات. وتشير الإحصاءات إلى أن عدد المقاهي المنتشرة حالياً في القاهرة يبلغ نحو 20 ألف مقهى تقريباً منها الأثري مثل مقهى"الفيشاوي"الشهير في منطقة الحسين وكان مقصداً لكبار الكتاب والأدباء والمفكرين، من أشهرهم نجيب محفوظ. ويبلغ عمر مقهى الفيشاوي أكثر من 155 عاماً وكان يشمل منطقة الفندق كلها في ما قبل. لكن المسؤولين في محافظة القاهرة أصدروا قراراً باستقطاع هذا الجزء لإقامة الفندق. فاقتصر المقهى على مساحة ضيقة، وإن كان لا يزال يحتفظ بشكله التراثي وأدواته النحاسية ورائحته التي تأتي من عبق الماضي البعيد. كما لا يزال يحظى بسمعة كبيرة تجذب إليه العديد من الزبائن العرب والأجانب والمصريين على حد سواء. بين الثقافة والصعيد في القاهرة انتشرت مقاهي الحرف مثل"الدوران"و"السيدة عائشة"حيث يحتشد"المبلطون"وپ"السبّاكون". عند التاسعة صباحاً يتوجه هؤلاء بصحبة معداتهم إلى المقهى ليشربوا الشاي معاً قبل أن ينصرفوا إلى أعمالهم. في المنطقة نفسها، يطل مقهى"الصعايدة"الذي اشتهر في ستينات القرن الماضي بمرتاديه الذين كانوا جميعاً من الصعايدة. وكما في الأفلام العربية القديمة التي لعب بطولتها فريد شوقي، بقي العراك ميزة ذلك المقهى: فجأة يدب الخلاف بين شخصين ليمتد إلى بقية الطاولات. وترتفع العصي الغليظة وتتطاير زجاجات المشروبات وتعم الفوضى. وعندما يرى أحدهم سيارة الشرطة قادمة، يسوي كل منهم ملابسه ويجلس مكانه مستأنفاً ما كان يفعله من قبل، وكأن شيئاً لم يحدث. وما زال أهالي المنطقة يذكرون نوادر ذلك المقهى الذي يحتفظ إلى الآن ببقايا طابعه الصعيدي من خلال بعض ذوي الجلابيب الزرق والعمامات البيض المرتفعة. في وسط القاهرة، وتحديداً في ميدان باب اللوق، هناك مقهى شهير يدعى"الندوة الثقافية". يجتمع فيه يومياً المثقفون للحديث والكلام في كل ما يدور على الساحة المحلية والعربية والدولية. في بعض الأحيان يحتدم الجدل كثيراً وتصبح المناقشات أكثر سخونة بين رواد المقهى. لكن طابع هذا المقهى تبدّل في السنوات الأخيرة فأصبح مثل غيره من المقاهي. ومن"الندوة الثقافية"إلى"المعاشات"، ذلك المقهى الذي فقد مع الوقت شكله المميز وهو أنشئ في ثلاثينات القرن الماضي. أبرز ما يميز المقهى هو تقارب أعمار مرتاديه وتشابه متاعبهم وتوحد مجال حديثهم. في حي الدقي في الجيزة ، يرتاد الصم والبكم مقهى"الجيزة"الذي يتميز بهدوئه إلا من أصوات"قرقعة"زهر لعبة الطاولة أو الدومينو. لغة الكلام الوحيدة في المقهى هي لغة الإشارات بالأصابع ولكل إشارة معنى: عندما تتجاور الإصبعين فهذا يعني كوباً من الشاي الصرف. وعندما تتكور اليد فهذا يعني"شاياً مع حليب"وعندما توضع على البطن فهذا يعني مشروب"اليانسون"الساخن. مصر الجديدة في منطقة حدائق القبة بالقرب من مصر الجديدة، يرتاد المدرسون مقهى"المدرسين". ومن مقهى المدرسين إلى مقهى"الأقزام"في ضاحية مدينة نصر. أنشأ شاب مصري هذا المقهى قبل سنوات ناقلاً تجربته في دبي بمشاركة أحد الإماراتيين حيث استعان بمجموعة من الأقزام وقصار القامة الذين تم انتقاؤهم بعناية شديدة لخدمة زبائن المقهى وتقديم المشروبات لهم. ونجحت الفكرة في شكل كبير ولعب هؤلاء الأقزام دور البطولة في هذا النجاح إذ أصبح الكثيرون يزورون المقهى ليتعرفوا الى الأقزام ويتبادلوا النكات معهم، خصوصاً أن الأقزام يتمتعون بخفة ظل غير عادية تضفي على الجلسة أجواء من المرح والسعادة. أما أحدث تقليعة في دنيا المقاهي في مصر فهو اتجاه بعضهم إلى إطلاق أسماء بعض المشاهير والأفلام السينمائية خصوصاً الكوميدية منها. ومن أبرز هذه المقاهي"كوكب الشرق أم كلثوم"في وسط القاهرة الذي يداوم عدد كبير من الكبار والصغار من الجنسين على ارتياده والجلوس فيه لشرب القهوة والشاي والشيشة وغيرها من المشروبات. وعندما تدخل هذا المقهى تجد جلسات شرقية مريحة مع إطارات ضخمة على الحوائط لصور أم كلثوم وهي تغني أو تقابل سفراء وشعراء ورؤساء دول أو تقف وسط معجبيها وغيرها من الصور التاريخية التي تؤرخ جانباً من مشوارها الفني الطويل. وعندما تجلس تداعبك أغاني"الست"الرومانسية العذبة بإيقاعها وصوتها الشجي. ويجتذب المقهى زبائن من كل فئات المجتمع كالفنانين والإعلاميين والمحامين والصحافيين وغيرهم. ومن الأشياء اللافتة في هذا المقهى أن صاحبه حرص على وضع صورة المطربة الشابة آمال ماهر باعتبارها أبدعت وتألقت في أداء أغاني أم كلثوم وكتب أسفل صورتها"وخليفتها آمال ماهر". ومن مقهى كوكب الشرق إلى مقهى"صعيدي رايح جاي"، وهو اسم الفيلم الذي لعب بطولته الفنان الكوميدي هاني رمزي وأدى فيه دور صعيدي يقع في العديد من المطبات والمواقف الكوميدية الساخرة. واستهوى هذا الاسم صاحب المقهى وأطلقه على مشروعه الصغير. الطريف أن معظم رواد المقهى لا ينتمون إلى الصعيد بل هم من سكان القاهرة أو من السياح العرب والأجانب. هناك أيضاً مقهى"قصر الشوق"المستوحى من عنوان رائعة نجيب محفوظ. في النهاية، يبدو أن عالم المقاهي تداخل مع عالم التجارة المربحة. وأصبح من المشاريع الناجحة خصوصاً إذا حالف الحظ صاحبه في اختيار الموقع المناسب لإقامة المشروع كما أن أسماء المقاهي تلعب دوراً كبيراً في هذا المجال. بداية القصة في القرن الثالث عشر الميلادي وقع في مصر حدث كبير أثار جدلاً فكرياً وفقهياً واسعاً: وصول أول شحنة من البن اليمني إلى البلاد. وانقسمت الآراء حول شرعية تناول هذا المشروب القهوة، بعد أن كان الناس يتناولونه في السرّ خوفاً من المفتي ومن عيون البصاصين، إذ كان يقبض على كل من يشرب القهوة ويقدم إلى المحاكمة. وفي بداية الأمر كانت القهوة تشرب"مغلية"بحسب الطريقة العربية، ولكن في ما بعد وتحت التأثير التركي تخلصت مصر من أسلوب"غلي"القهوة وأصبحت تشرب على الطريقة التركية كما نشربها الآن. والقهوة كانت تشرب في العصور السالفة في مكان واحد أطلق عليه مجازاً اسم"مقهى"نسبة إلى ذلك المشروب. وكان المقهى في الماضي عبارة عن مبنى بسيط توضع فيه منصات خشبية لإعداد المشروب وتفرش عادة بالحصر والأبسطة الصوفية. وفي عهد الحملة الفرنسية على مصر أواخر القرن السابع عشر لفتت المقاهي في شكلها الجديد أنظار الفرنسيين فكتبوا عنها في كتاب"وصف مصر"الشهير وعبروا عن دهشتهم من تلك المقاهي التي كانت تجلب الرواة والمنشدين الذين يقصون روايات مألوفة من التراث الشعبي وأيضاً الأغاني والمواويل من أجل إمتاع رواد المقاهي.