بدأت العاصمة المصرية تشهد في السنوات القليلة الماضية تغيرات اجتماعية أدت الى ظهور مقاهٍ ذات خمس نجوم، في المناطق الراقية وخصوصاً المهندسين و"مدينة نصر" و"مصر الجديدة"... أما المقاهي الشعبية الرخيصة الثمن فتبدو كأنها تندثر شيئاً فشيئاً... وهي كانت خلال سنوات طويلة المتنفس الوحيد في العاصمة الذي يلتقي فيه البسطاء والأغنياء. وفي حين يصل عدد المقاهي الشعبية الى نحو 10 آلاف، يصل عدد المقاهي الحديثة أو "المودرن" والكافتيريات والمطاعم السياحية الى نحو 5 آلاف، وتم تشييد وترخيص معظمها في التسعينات. ومن المنتظر ان تندثر المقاهي الشعبية خلال السنوات المقبلة لتحل محلها المقاهي الجديدة التي تقدم المشروبات والمأكولات بأسعار مرتفعة، وتشهد إقبالاً كبيراً. مع هذا التوسع الكبير في المقاهي "المودرن"، أصدر محافظ القاهرة عبدالرحيم شحاتة قراراً بوقف إصدار تراخيص المقاهي هذه، لأن أصحابها يقيمون على حساب التخطيط العمراني، في القاهرة، ويستغلون الطوابق الأرضية في العمارات لإقامتها. لكن السؤال: هل سيأتي يوم تختفي فيه المقاهي الشعبية التاريخية مثل "الفيشاوي" وغيرها؟ إنه لسؤال صعب وأليم حقاً! من المعروف أن المقاهي الشعبية كانت بمثابة "البرلمانات" الصغيرة التي يلتقي فيها المثقفون والأميون على حد سواء، وظلت طوال السنوات الماضية، تعبر عن حركة الشارع المصري وايقاعه، وكم اهتمت بها الأعمال السينمائية والتلفزيونية ومعظم الروايات الأدية ولا سيما روايات نجيب محفوظ التي دارت أحداث بعضها في المقاهي. والغاية أن تعبّر تلك الروايات عن ايقاع الشارع وعن رأي الناس في الأوضاع السياسية في البلاد. ولعل هذا ما برز في أعمال الروائي اسامة أنور عكاشة وخصوصاً روايته "ليالي الحلمية" التي تحولت الى مسلسل تلفزيوني من خمسة أجزاء. ولعبت المقاهي القديمة دوراً بارزاً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وكان المرشحون يتخذون من بعضها مقرات انتخابية لهم لمقابلة أبناء الدائرة والتحدث معهم عن مشكلاتهم. إلا أن الوضع تبدل حالياً وأصبحت المقاهي "المودرن" هي التي تغزو الأحياء الشعبية ويرتادها الجميع من الشباب والكبار حتى النساء وذلك لتقديمها مأكولات وخدمات حديثة، اضافة الى أفلام الفيديو المختلفة. يقول محمد جمال اسماعيل صاحب مقهى "الازدهار" في الأزبكية وسط القاهرة ان المقهى الشعبي هو الأصل والأساس، ولا يمكن أن يندثر أبداً مهما حصل من تطور. وقال ان تلك المقاهي تقدم مشروبات رخيصة الثمن للزبائن، ولذلك يطلق عليها صفة "الشعبية"، ويمكن أي مواطن أن يرتادها ويتناول مشروبه المفضل ويشرب الشيشة بجنيه واحد. أما المقاهي "المودرن" فأسعارها غالية جداً ولا يمكن الزبون بأي حال أن يدفع أقل من خمسة جنيهات. علي فتوح أحمد صاحب مقهى "السلا" في ضاحية امبابة، يؤكد أن المقهى الشعبي هو المرجع على رغم ظهور المقاهي الجديدة. فلكل مقهى زبائنه. والأثرياء من سكان المناطق الراقية لهم مقاهيهم في المهندسين والدقي والعجوزة ومدينة نصر ومصر الجديدة وغيرها من المناطق الأنيقة التي يدفع الزبون فيها أي مبلغ. أما سكان امبابة وبولاق الدكرور في الجيزة، والمطرية وشبرا الاحياء الشعبية فلا يستغنون عن المقاهي البسيطة التي تعبر عنهم وتعتبر متنفساً لهم وحلاً لمشكلاتهم الكثيرة. وعلى النقيض من ذلك، يقول ياسر جمال الدين صاحب مقهى "الفردوس" في مدينة نصر، ان المقهى الحديث في طريقه الى الانتشار ليقضي على المقهى الشعبي، ومع مرور الوقت ستصبح مقاهي المناطق الشعبية "مودرن" ايضاً. وأضاف ان ليس المقصود ب"المودرن" ألا تقوم المقاهي الشعبية بواجبها، لكنه التطور وحاجات الزبون التي تتغير من وقت الى آخر. فبعدما كان الزبون يشرب الشاي والقهوة فقط، أصبح يطلب المياه الغازية و"العصير" إضافة الى المأكولات السريعة مثل الهمبرغر والبيتزا. ولذلك فالتطوير آتٍ الى هذه المناطق الشعبية أيضاً لتحل المقاهي الحديثة محل الشعبية. الاستاذة في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عزة كرم تقول ان التغيير الذي حدث في المجتمع المصري انعكس على كل شيء حتى على شكل المقهى الذي يرتاده المواطنون. فالمقاهي "المودرن" تعتمد في رأيها أساليب حديثة لجذب الزبائن ومنها النظافة الشديدة والكراسي البراقة المريحة والمشروبات اللذيذة والسندويتشات السريعة، وكذلك عرض الأفلام في مختلف اشكالها... وهذا ما أدى في النهاية الى ظهور مقاهي "الانترنت" ذات الديكورات البراقة. وتشير الى أن المقاهي المودرن لها أسلوبها ومكانتها وزبائنها في الأحياء الراقية وهم يدفعون أي "مبالغ"، وكذلك المقاهي الشعبية لها زبائنها الذين يدفعون بحسب قدراتهم... إذاً لكل منطقة مقهاها الذي يلائم مستوى السكان في التعليم والمعيشة... ولذلك فإن كل منطقة ستحتفظ بأسلوب حياتها الاجتماعية. إذا كانت راقية سيكون فيها المقهى "المودرن"، وإذا كانت شعبية ستكون المقاهي شعبية. ومع ذلك فمن الممكن أن تصبح مقاهي المناطق الشعبية "مودرن" ولكن لا بد من أن يحدث تغيير اجتماعي في هذه المناطق ولا بد من أن ينعكس على المقاهي الموجودة فيها.