ينتقل الكاتب عصام حمد بعد مجموعته القصصية الاولى"المُنعَطف المُضاء"، من عالم القصة الى عالم الرواية، ولكن بأسلوب خاص، فينأى بنفسه عن الرواية التقليدية ليبتكر شخوصاً جديدة لروايته، في عملية فانتازية عميقة، تحوِّل الورق الذي نكتب عليه، عالماً مؤنسناً، ُيفكّر ويتحدث، يتألم ويغضب، يفرح ويشتهي ويمتعض.... رواية عصام حمد الأولى"طموح مخطوطة"، تتغذّى من أحداثٍ يخرجها الكاتب ويخطّها الحبر ويؤديها الورق، وفق تصنيفات مختلفة، كأن يدور الحوار بين أنواع مختلفة من الأوراق، فهناك الورقة المتقطعة، والورقة المسودة، والورقة المُبيضة، والورقة البيضاء والمُحبّرة والمُشطّبة والممزقة... تتحول هذه الشخصيات بعض الاحيان كياناً عائلياً، فنجده يتحدث عن الورقة الجدّة والورقة الأم والورقة الابنة والرفيقة. فتدور بين هذه الشخصيات"الورقية"حوارات متنوعة، حول هواجسها وطموحاتها ورغباتها، وحيناً تشعر بالحسد والكراهية وأحياناً بالتعاطف وتارة بالمحبة والتسامي. وكما عودنا عصام في عمله القصصي الأول، على نموذج من القصص التي تشكل بذاتها نصوصاً ذات ُبعد فكري يستحق مضمونها النقاش، يواصل اسلوبه في عالم الرواية بالطريقة نفسها. لكنه أراد هذه المرة أن يلجأ الى استخدام عمليات الإسقاط من عالم البشر أو الكائنات الحية الناطقة والمفكرة إلى عالم الورق، أي الكائنات الجامدة التي لا روح فيها ولا حركة. بيد أنه أمدّها بالروح ليجعلها تفكر وتهجس وتتكلم وتشعر كما يشعر البشر. وكأنه أراد أن ينقل طبائع بشرية الى هذه"الجمادات"فيؤنسنها، ويخلق بذلك مشهديته الخاصة التي لا تقل أهمية عن أي مشهدية أخرى في بنيتها"العلائقية"وبعض تفاصيل الأحداث. يقتصر عالم هذه الرواية على الورق، فهناك الرفوف والكتب والمخطوطات، التي تتمنى كل ورقة أن تحاكيها. وهناك القلم والمكتب والدرج والكرسي وسلة المهملات والحبر والناشر والقارئ. لعل الكاتب أراد أن يختصر هذا العالم ابتداءً من غلاف الكتاب الذي لا يتجاوز المئة صفحة من القطع الوسط. فعلى الغلاف نجد بعض عناصر المشهد، أي الاوراق في سلة للمهملات، والى جانبها يد الكاتب تمسك بريشته وتخطُّ على إحدى الاوراق، والى يمينها المحبرة. أما الاهداء فلعله يتماهى مع حب الكاتب لعالم الورق وتقديره إياه. وجاء الإهداء على الشكل الآتي:"إلى زوجتي، الحافظة اوراقي - والى ابنتي التي تمزّقها!". فهو حريصٌ على هذه العلاقة الجدلية بينه وبين الورق حتى في الإهداء. فما بين الحفظ والتمزيق خيط رفيع، يربط بين الضرورة الملحّة للورقة كأداة لتعميم أو نشر الكلمة وبين لغة وجدانية تتصل بهذا العالم، مجبولة بخشية من تعرض الورقة للتلف أو للإهمال، وبالتالي تضيع معها الفكرة التي قد تحتاج وقتاً طويلاً عندها، كي ُتسترجَع لتلتحق برفيقاتها في السياق ذاته وفي معنى آخر أهمية حفظ الورقة بالنسبة الى الكاتب هي من أهمية حفظ الكلمة في سياقها أو وعائها. ويقول في معرض تعريفه بالرواية:"الورقة البيضاء ليست شيئاً... إلى أن يحبّرها قلم الكاتب. بالحبر تعي الورقة ذاتها وانتماءها إلى عالم الأوراق المُحبّرة. تلهو مع أخواتها الورقات على سطح المكتب، وتتجادل مع الكتب على الرفوف. ولكن هناك في أسفل سلة المهملات الرهيبة، حيث تُرمى الأوراق التي لا يرضى عنها كاتبها!". كيف تنجو الورقة من السلة؟ وبماذا تحقق طموحها لتكون لها قيمة ترقى بها حتى تحفظ بين المخطوطات الخالدة؟ هذان سؤالان يطرحهما الكاتب وتجيب عنهما"حوارية"الأوراق، التي لا تنتهي حتى يضع بصماته الأخيرة على الورقة الأخيرة، فيحمل مخطوطته"المؤنسنة"تحت إبطه ليعود الى عالمه. أليست الورقة بما تحمله في صفحتها؟ رواية "طموح مخطوطة" لعصام حمد، صادرة عن مكتبة المعارف في بيروت.