يدور الحوار داخل فلسطينالمحتلة بين فصائل العمل الوطني، وقوى المجتمع الفاعلة. والحوار كمبدأ ديموقراطي هو سعي محمود، باعتباره الآلية والمسار الوحيد الذي يمكن من خلاله تجاوز الازمة الخطيرة داخل البيت الفلسطيني، ودونه ترك هذه الازمة تتحرك تلقائياً بما يفضي الى انزلاقات عبثية وسيناريو غير عقلاني. كما ان الحوار كخيار ديموقراطي هو مسعى الضرورة المصيرية، حين غدت الوحدة الوطنية ضرورة وجودية في المقام الاول، ليس لأن القضية الفلسطينية في مرحلة تحرر وطني، بل لأن الاخطار المحيطة بها باتت مصيرية. آن الاوان لانجاز برنامج سياسي موحد يقوم على القواسم المشتركة، بالاستناد الى اعلان القاهرة آذار / مارس 2005 وپ"وثيقة الوفاق الوطني"- وثيقة الاسرى - التي وقعها قادة الحركة الاسيرة، بمن فيهم قادة"حماس"في السجون الاسرائيلية فهم أطلقوها معاً إدراكاً منهم لضرورة توفير اساس موضوعي للحوار الفلسطيني - الفلسطيني المطلوب. الوثيقة التي ينبغي النظر اليها باعتبارها اجتهاداً يفترض المناقشة والتطوير والتحديد والاضافة. وهي تشير الى"دولة فلسطينية عاصمتها القدس"، يتطلب تعريف ماهية"القدس"العاصمة، فهي إن جاءت هنا مبتسرة وجب التشديد عليها، استناداً الى خلاصة تجربة المفاوضات الفلسطينية السابقة، كما التمييز في المضمون والجوهر لا التسمية فقط لپ"دولة فلسطينية"بين رؤية الرئيس جورج بوش، وخلاصات احادية"كاديما"- أولمرت حول الاسم من دون معنى وجوهر. ان التجربة الرسمية في المفاوضات سابقاً أفضت الى هذه المحاذير القاتلة. وجاء في السياق تلويح الرئيس محمود عباس بعرض الوثيقة على استفتاء شعبي. وأخطر قضايا التجربة ان يوحى بموقف متفق عليه، ثم يجرى التفاوض على آخر. ان استخلاصات تجربة تاريخية هي ما ينبغي التركيز عليه وان تتفهمه اطراف الحوار، باعتباره القاعدة الراهنة للنجاح وتأكيد الخطوات المستقبلية الموحدة. ويمكن القول ان الحوار الفلسطيني الآن ليس جديداً، بل هو امتداد للحوار الذي انطلق عام 1988، اثر اندلاع الانتفاضة الاولى ثم تقطع ومرّ في حال استئثار على ايدي المتنفذين في قيادة منظمة التحرير جناح ياسر عرفات، الى ان انطلق مجدداً مع الانتفاضة الثانية، بوثائق غزة آب - أغسطس 2002 الضفة آذار 2004 القاهرة آذار 2005، والآن مع الازمة الحادة 25 ايار مايو 2006. ومنذ ذلك التاريخ جسد المشهد الرسمي ما هو نقيض الخيار الديموقراطي الى ان بلغت الازمة مداها، وبرزت جسامة المسؤولية حتى جرت الاستعانة به. وفي استخلاصات التجرية الماضية، ثمة من يمارسون الديموقراطية عن باطل ورياء، وسبق لهم ان تنكروا لها وطعنوها حين كانت تحد من نفوذهم وتقوّم معاييرهم. ان من اسباب صعود"حماس"، تزاوج الاحتكار والفساد مع اخفاق ما سمي"مشروع السلام"الذي قادته منظمة التحرير عبر قيادتها المتنفذة، عندما قلصت التطلعات والحقوق الوطنية الفلسطينية الى القرار 242، تفصيلات وثوابت محددة، ومن ثم نحو مؤتمر مدريد 1991 ومنه اتفاقات اوسلو 1993 وصولاً الى"خريطة الطريق"2003 التي انتهت بالمقولة الاسرائيلية"لا يوجد شريك للسلام"، حين لم تتطابق مواصفات الرئيس أبو عمار مع جوهر"الشراكة الاسرائيلية". وحين انتخب الرئيس"ابو مازن"بپ"الصفات المتطابقة"، واصلت اسرائيل ارهابها وجدارها العنصري وابتلاع الأرض والقدس، وخطتها الاحادية. قبل وصول"حماس"الى حكومة السلطة، كانت اسرائيل أنهت أي معنى عملي للمفاوضات والتسوية، والضغوط اشتدت على مؤسسات السلطة الفلسطينية، من البيئتين الاقليمية والدولية، كي تقبل الانخراط في عملية التسوية وفق مخططها"الاولمرتي"، أي فرض الامر الواقع باعتباره تسوية من طرف واحد، والاذعان لها. فالحصار الظالم على الشعب الفلسطيني بدأ مع حرب"السور الواقي"الشارونية في آذار 2002 وإعادة احتلال مدن الضفة بالكامل ومحاصرة الرئيس عرفات في مبنى المقاطعة، الى ان رحل مسموماً. فالحصار لم يبدأ مع حكومة"حماس"، وفكه الآن ينبغي ان يتحقق عبر كل المصادر المستقلة عن الولاياتالمتحدة. يعني هذا ايضاً، ان تقدم"حماس"معادلتها وتأكيداً بتمسكها بالعملية الديموقراطية كخيار أوحد وبكامل استحقاقاتها، وبالوحدة الوطنية كخيار استراتيجي برنامج سياسي موحد، حكومة ائتلاف وطني، من دون ان تنصاع حكومة"حماس"للشروط المملاة: خيار الاعتراف باسرائيل اولاً من دون مقابل، ومن دون مفاوضات لها سقف واضح. كما ان تفويضاً لمؤسسة الرئاسة في موضوع المفاوضات، باعتبارها الطرف الرئيس المفاوض من دون حدود ومعايير، هو هروب الى امام من شروط اعتراف الحركة بالاتفاقات الموقعة. كان ذلك، ممكناً لو عرضت اتفاقات أوسلو على الاستفتاء الشعبي. حينها اغلق صناعها آذانهم، ووضعوها في مصاف"المسلمة البديهية"التي جلبت للفلسطينيين ايجابيات مع"نبضات إعادة الانتشار"كما كان يحلو لهم تسميتها... علماً ان اسرائيل ذاتها ومنذ حكومة نتانياهو الليكودية عام 1996 كانت أعلنت ان اوسلو وما تلاها توقفت عند اتفاق واي بلانتيشن الذي رعاه كلينتون. إن منهج فرض تسوية من طرف واحد هي تسوية"الأمر الواقع"والذي تتبناه اسرائيل، ناجم اساساً عن خلل فادح في ميزان القوى بين اسرائيل وحركة التحرر الفلسطينية. وهذا الخلل لا تمكن معادلته بمجرد القبول بالانخراط في الاملاءات، بل ما يصلحه هو استمرار المقاومة للاحتلال بكل اشكالها الوطنية الموحدة، وفق برنامج محدد يشرعه القانون الدولي. لذلك، على"حماس"بلورة موقف داخلي ينسجم مع التوجهات الفلسطينية الموحدة، لا سيما وثيقة"الوفاق الوطني"التي تحمل تواقيع قادة الحركة الأسيرة فتح، الديموقراطية، الشعبية، الجهاد، حماس، في سياق استراتيجية فلسطينية وطنية جامعة. ثمة أسئلة كبيرة مطروحة على جدول أعمال التحرر الوطني، تتطلب جهود الجميع، لا عقلاً ايديولوجياً فقط. فهي تفترض نهوضاً جماعياً بها، وبضمير وطني مستقيم، وحكمة سديدة وعقل رشيد، ضمن مهمات مترابطة، على كل الاصعدة بدءاً من تحرير البيت الفلسطيني من الفساد والمفسدين. فهزيمة"فتح"في الانتخابات هي من صنع يدها أولاً ومن صنع واشنطن وتل أبيب ثانياً، حين لم تحقق شيئاً مقابل تنازلاتها وانفرادها. فجاءت الانتخابات عقاباً شعبياً لنمط قيادتها للمهمات الوطنية منذ أوسلو، خصوصاً نهج العشوائية والتفرد الاداري وتماهيها بالسلطة، ومن حولها بيئة عربية مؤاتية للاملاءات الاميركية. ونشهد الآن بداية دعوات عربية"تشاورية"مع رئيس الحكومة الاسرائيلية في معادلات يغيب فيها ان الاحتلال هو جوهر المعضلة. وتأتي هذه الدعوات، بعد خطاب"النصر"الذي ألقاه اولمرت في الكونغرس معلناً فيه:"في البداية سنحاول ايجاد كل امكان للتفاوض مع الفلسطينيين، من أجل"السلام"وعندما لا يتوافر ذلك، لن نتوقف سننطلق وحدنا". أما واشنطن فتريد من الفلسطينيين قبول الاملاءات، ولهذا اقتنص اولمرت الفرصة، واختصر أجندة مشروعه بترسيم حدود اسرائيل بحلول نهاية ولاية بوش. رفضت اسرائيل المبادرة العربية للسلام التي تبنتها قمة بيروت عام 2002 لحظة اعلانها المبادرة تضمنت مبدأ الاعتراف العربي الشامل باسرائيل، أما الرفض الاسرائيلي فبسبب تبني المبادرة قيام دولة فلسطينية بحدود عام 1967، بما فيها القدسالشرقية. فالمبادرة تحتوي تعارضاً مع الاستراتيجية الاميركية التي تفترض اعترافاً عربياً شاملاً باسرائيل، مدخلاً لأي مفاوضات أو البدء بعملية"السلام"، بالتنازل العربي عن متطلبات القرارات الدولية المتعلقة بالصراع، وابقاء الصراع خارج اشراف الاممالمتحدة، واخضاعه لرؤى الوصي الكولونيالي الاميركي، أي تحت اشراف واشنطن فقط فضلاً عن الاعتراف العربي بأولوية الأمن الاسرائيلي والتفوق على العرب مجتمعين، بما في ذلك امتلاك الدولة العبرية وحدها الاسلحة النووية في المنطقة. دولة يهودية لليهود فقط، ألحق بها بوش"الوقائع الديموغرافية على الارض"أي الاستيطان في الضفة الفلسطينية. إن احادية أولمرت هي نتاج آحادية السياسات الاميركية في ادارة المحافظين الجدد، والتي لقيت رفضاً واسعاً لها في أوروبا والعالمين العربي والاسلامي، وفي اميركا الشمالية وفي هذا الخضم المتلاطم بزغت ثورات في أميركا اللاتينية عبر التحولات الديموقراطية، وكان الاجدى فلسطينياً أخذ العبرة من فنزويلا التي احتكمت في صراعها مع الولاياتالمتحدة الى شعبها عبر الديموقراطية، فانتصر تشافيز. هذه الديموقراطية هي برسم من يريد ان يستخلص العبر والمرحلة الحالية فلسطينياً لا تخص فصيلاً أو آخر، ولا تنفع فيها أي محاولة تنطلق من فرضية تكرار الاوضاع التاريخية السابقة، تبعاً للاحساس بامكان سيادة اللون الواحد. فاللون الواحد هو أزمة لها وصف وملامح، أشبه بمسرحية ابطالها يهيمون بها ولكن بشعور من"التسطيح"والاغتراب عن الواقع خصوصاً حين يجرى تفسير ذلك الحنين - الانصياع"اعتدالاً"للشروط والاملاءات الاسرائيلية. إن الخروج من المأزق يتطلب الاتفاق على خطة انقاذ وطنية، لتوفير صيغة للشراكة الشاملة، في اطار منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في آن، تستند الى برنامج مشترك وخطط عمل ملموسة، تضمن تناسق الاداء النضالي والسياسي، وتجمع بين التمسك بالثوابت الوطنية وحمايتها، في مواجهة محاولات فرض"الامر الواقع". فالنظام الوطني الفلسطيني الموحد مميز بالتوازنات وعناصر التكامل وكل ملامح الاستقرار، والاحساس بقوة وحدة الصف عند تحقيقها. وكما معنى الوطن والاشياء والطقوس والاشارات... تلك وغيرها هي التي يطلق عليها الوعي الفلسطيني. * كاتب فلسطيني.