خروج شارون من الساحة السياسية الاسرائيلية أعطى ايهود أولمرت فرصة ذهبية لم يكن يجرؤ على أن يحلم بها، وكان قد أعد العدة فعلاً لما يشبه التقاعد من الحياة السياسية لكن الأقدار وحدها دفعت الرجل الذي اعتاد الوقوف في الظل ليتبوأ دفة قيادة واحدة من أهم حكومات اسرائيل، حكومة مؤتلفة سياسياً كاديما، العمل، شاس على برنامج حزب"كاديما"وخطته لترسيخ اسرائيل بحدودها التوسعية، على حساب قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والقومية المشروعة، التي باتت مهددة بالضياع والتبديد، بفعل بروز مظاهر تفكك عناصر المشروع الوطني التحرري الفلسطيني. واستطاع أولمرت أن يملأ بسرعة قياسية الفراغ الذي أحدثه خروج شارون، لأن خطوة الانسحاب الأحادي الجانب من قطاع غزة، التي قام بها شارون على طريق ما يسمى"خطة الفصل الأحادي مع الفلسطينيين"، مهّدت لاستمرار تقدم الخطة في مراحلها اللاحقة، مع ملاحظة غاية في الأهمية، وهي أن أولمرت لا يستكمل تنفيذ الخطة من موقع البديل والوكيل، بل من موقع الأصيل فهو المهندس الحقيقي لخطة"الفصل الأحادي الجانب مع الفلسطينيين"، وشارون هو من تولى وضع ترجماتها على الأرض، وتأمين روافعها. المشروع الذي تعمل حكومة أولمرت على تنفيذه هو الأخطر منذ انشاء اسرائيل. فالهدف الأول الذي أعلنته حكومة أولمرت الائتلافية، وكما ورد نصاً في بيانها هو"تصميم فصل جديد من حياة دولة اسرائيل"، وترجمة ذلك من خلال"العمل على تصميم الحدود مع الفلسطينيين في مفاوضات واتفاق مع الفلسطينيين، تجري على أساس الاعتراف المتبادل، الاتفاقات الموقعة، مبادئ خريطة الطريق، وقف العنف ونزع أسلحة منظمات الارهاب... وإذا لم يتمكن الفلسطينيون من التصرف، فإن حكومة أولمرت ستعمل، حتى في ظل غياب المفاوضات ومن دون اتفاق معهم، على أساس إجماع وطني واسع في اسرائيل، وتفاهم عميق مع أصدقاء اسرائيل في العالم"، ليكون ترجمة لبرامج الأحزاب المؤتلفة في الحكومة، التي تتفق من حيث الجوهر على رفض العودة الى حدود 1967، والتمسك بضم الكتل الاستيطانية الرئيسية، والاحتفاظ بمنطقة غور الأردن، واستكمال بناء جدران الضم والفصل العنصرية، وشطب قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة الى ديارهم حسب ما ينص القرار 194، والحفاظ على الطابع اليهودي لدولة اسرائيل، والقبول بخطة خريطة الطريق الدولية مثقلة بالشروط الاسرائيلية عليها، وهو ما يفرغها من مضمونها وينسفها جذرياً، وفرض رسم الحدود التوسعية من جانب واحد في حال عدم موافقة الفلسطينيين على العودة الى طاولة التفاوض بناء على الشروط والمطالب الاسرائيلية المشار اليها أعلاه. يستند الاسرائيليون، في اندفاعهم الى حسم الصراع لصالح تثبيت أطماعهم التوسعية، ومن وجهة نظرهم، الى مجموعة من العوامل والمرتكزات أبرزها: 1 - الواقع الاستيطاني المستحكم في القدس وكتل الاستيطان الرئيسية، وما يخلقه من واقع ديموغرافي لا يمكن تجاوزه، بحكم ميزان القوى القائم، الذي يسمح لاسرائيل بفرض ضم هذه المناطق، عبر استكمال بناء جدران الضم العنصرية بمسارها الراهن، لاقتطاع أكبر مساحة ممكنة من أراضي الضفة الفلسطينية، مع أقل عدد ممكن من سكانها وأصحابها الفلسطينيين من 58 - 60 في المئة من أراضي الضفة، 10 في المئة من أصحابها الفلسطينيين. 2 - الدعم الأميركي غير المحدود للسياسات الاستيطانية التوسعية الاسرائيلية، واتفاق واشنطن مع تل أبيب على الاثقال الاسرائيلي لخريطة الطريق، كما ورد في رسالة التعهدات التي قدمها بوش لشارون 14 نيسان/ ابريل 2004، وبها نقلت واشنطن رسمياً دورها من وسيط مفترض الى طرف في الصراع، ومجاراة إدارة بوش للحكومة الاسرائيلية في تسويق أكذوبة"عدم وجود شريك فلسطيني". 3 - غياب أي دور دولي أو اسلامي أو عربي فاعل في مواجهة السياسات الاسرائيلية المدعومة بموقف أميركي منحاز لصالحها. 4 - واقع حال الفلسطينيين الذين يعيشون في دوامة صراع داخلي، إذ تسير أمورهم نحو الأسوأ بعد النتائج الانقسامية التناحرية التي تمخضت عنها الانتخابات التشريعية الفلسطينية، مهددة بتحول التناقضات البرنامجية الموضوعية بين القوى والفصائل الفلسطينية الى تعارضات فئوية أنانية، إذا لم يتم معالجتها ستفتح على اقتتال دموي، وهذه ليست سابقة في التاريخ الفلسطيني، فلقد وقع ذلك في العام 1983. والعامل الأخير والسيناريوات التي قد تترتب على استمراره هو الأخطر لأنه يحمل خطر تفكيك عرى المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، وعناصر القضية الوطنية الفلسطينية، وانقلاب فصائل العمل الوطني الفلسطيني على ذاتها، وهذا بالضبط ما تعمل من أجله اسرائيل. وهنا يجب أن يبرز الخلاف بين الفصائل والقوى الفلسطينية على مفهوم وأسس إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية - بما هي الاطار القيادي والتمثيلي الموحد للفلسطينيين في الوطن والشتات - ليس بكونه خلافاً على تحاصص للهيئات والمسؤوليات، بل على حقيقته من زاوية الاختلاف الجوهري على برنامج المنظمة الذي يجسد بشعاراته الثلاث عودة، تقرير المصير، دولة مستقلة عناصر وأهداف المشروع الوطني التحرري الفلسطيني الموحد في آن، وهذا ما يجعل من إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية أزمة قائمة بذاتها، بدل أن تكون مدخلاً كما هو ضروري ومفترض لإعادة تصويب الأوضاع الفلسطينية، وتوحيدها في مواجهة الخطط والمشاريع الاسرائيلية. وإذا كانت السياسات التي انتهجتها القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية، التي هي ذاتها قيادة السلطة الفلسطينية، خلال السنوات العشر الماضية أدت بالفعل الى إلحاق ضرر كبير بالمشروع الوطني التحرري الفلسطيني، بنزولها عن الحد الأدنى من برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني، وقبولها بمفاوضات ثنائية غير محكومة بقرارات الشرعية الدولية، والتزامها بالحلول الجزئية التي تمخضت عنها اتفاقات أوسلو، وفك ارتباط مسار المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية عن مسار المفاوضات العربية - الاسرائيلية، وتحويلها قضية اللاجئين الى مجرد ورقة تفاوضية، وتهميش دورهم وقضيتهم، وإبداء استعداد ضمني للتعاطي مع الأطماع التوسعية الاسرائيلية تحت مسمى تبادل الأراضي، وتحويل دور فلسطينيي مناطق 1948 الى مجرد وسيط ينقل الرسائل بين قيادة السلطة الفلسطينية والقيادة الاسرائيلية، فإن نهج المزايدة الذي تمارسه"حماس"وان اختلفت الأهداف والمنطلقات سيؤدي واقعياً الى ذات النتيجة التي تمخضت عن ممارسات القيادة الفلسطينية المتنفذة في سنوات أوسلو العجاف، لأنه يمنع عملياً العودة مرة أخرى الى بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية على أساس برنامج الإجماع الوطني الفلسطيني، الذي يمنع تفكك المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، والذي يمر الحفاظ عليه بالضرورة من مدخل تصويب أخطاء المرحلة الأوسلوية. لعل قراءة متأنية لمواقف وسياسات"حماس"ستبين ان قيادة الحركة لا تتلمس أهمية المحافظة على مركزية دور منظمة التحرير الفلسطينية القيادي والتمثيلي الواحد الموحد، وبرنامجها ومكتسباتها التي تحققت بأنهار من الدماء، وجبال من الشهداء، بذلها أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات والمناطق الفلسطينية المحتلة في العام 1948، ومواقف"حماس"تخلط بين برنامج المنظمة على حقيقته، وبين التشوّهات التي ألحقتها به ممارسات القيادة المتنفذة الخارجة عنه. تضاف الى ذلك جملة من الملاحظات لا يزال يلفها الغموض في برنامج"حماس"، خصوصاً في ما يتعلق برفضها فك الارتباط بين الضفة الفلسطينية والأردن، وهو موقف تنفرد به"حماس"دون باقي الفصائل والقوى الفلسطينية، علماً بأن ضم اسرائيل لأكثر من 58 في المئة من أراضي الضفة الفلسطينية يدفع مرة أخرى نحو عودة الخيار الأردني بالضد من صيانة الكيانية الوطنية الفلسطينية والكيانية الوطنية الأردنية، لأن ما سيتبقى من الأراضي بيد الفلسطينيين لا يمكن أن تقام عليها دولة فلسطينية قابلة للحياة، وكاملة السيادة والاستقلال. وبرنامج"حماس"يسكت عن دور فلسطينيي المناطق الفلسطينية المحتلة في العام 1948 الجليل والمثلث والنقب في العملية النضالية، والمشروع الوطني التحرري الفلسطيني، وغني عن القول ان مؤشرات خطر مواقف"حماس"المعلنة، أو المسكوت عنها على حد سواء زادت بفعل الواقع الذي باتت تتبوأه حركة"حماس"في هرمية قيادة السلطة الفلسطينية. ويزيد من تعقيد الحالة الفلسطينية أن غالبية القوى الديموقراطية واليسارية الفلسطينية حجمت دورها المبادر تاريخياً، تأثراً بالنتائج الضعيفة التي حققتها في الانتخابات التشريعية الأخيرة، علماً بأن أداءها السيئ وتشتتها وعدم تمايز مواقفها بالقدر الكافي عن القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية، وتقصيرها في مجال المقاومة المسلحة، وطريقة تعاطيها مع القضايا الحياتية والخدمية، هي الأسباب الرئيسية وراء نتائجها الضعيفة في الانتخابات، وليس برامجها السياسية، وهي اليوم مدعوة لحمل مسؤوليتها التاريخية في حماية البرنامج الوطني الفلسطيني، وتحقيق الإجماع الوطني الفلسطيني عليه مرة أخرى، حتى يكون بمقدور الفلسطينيين مواجهة مخططات حكومة أولمرت الهادفة الى فرض الحدود التوسعية لاسرائيل، وتوجيه ضربة قاصمة للمشروع الوطني التحرري الفلسطيني، الذي بدأ يترنح بفعل افتقاده لوحدة البرنامج والأدوات والأطر النضالية الواحدة والموحدة. وقبل كل هذا وذاك على الفصائل الفلسطينية، خصوصاً"مؤسسة الرئاسة - مؤسسة حكومة السلطة"وقف مقامرة اللعب على عامل الوقت، لأن الوقت لن يسير في صالحهم، إذا ما استمرت فرقتهم، فالمشروع الاسرائيلي داهم ويدب حثيثاً على الأرض. وأخيراً ملاحظة لا بد من تظهيرها في السياق، وهي أن الفشل الذريع الذي لحق بقيادة السلطة الأوسلوية في الانتخابات التشريعية الفلسطينية كان عادلاً ضرورياً من أجل تصويب الأمر، قبل أن يفعل المخطط الاسرائيلي فعله. * كاتب فلسطيني، دمشق.