تعيش إسرائيل مؤخّراً حالة من التغيير السياسي تتمثّل بدخول حزب «كاديما» بقيادة زعيمه الجديد شاؤول موفاز إلى حكومة نتانياهو اليمينية، وفي المقابل يعيش الفلسطينيون هذه الأيام نوعاً من هبّة شعبية لتحرير الأسرى من السجون الإسرائيلية. ثمة ما يمكن استنتاجه من هذين الحدثين، إذ جاء التغيير السياسي في إسرائيل، وتشكيل ما يسمى «حكومة وحدة وطنية»، بعيد توجّه الكنيست لإجراء انتخابات مبكّرة. المغزى أننا هنا إزاء نظام سياسي يتدبّر نفسه، ويدير أحواله، بطريقة جدّ مرنة ومتوازنة، لمواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية المطروحة عليه. وما يعنينا هنا، أيضاً، أن إسرائيل طالما استخدمت ديموقراطيتها للتلاعب بعملية التسوية، والتهرّب من استحقاقاتها، وحتى من الاتفاقات التي وقّعت عليها، وذلك عبر التوجّه نحو انتخابات مبكّرة، وهو أمر حدث ستّ مرات منذ عقد اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين (1993)، الأمر الذي حوّل المفاوضات إلى نوع من لعبة علاقات عامة لا معنى ولا نهاية زمنية لها. عموماً فإن ما حصل يفيد بأن إسرائيل، في صراعها مع الفلسطينيين، تمتلك مروحة من البدائل، على مستويي الإدارة الحكومية والخيارات السياسية، في حين لا يمتلك الفلسطينيون أياً منهما، إذ أن نظامهم السياسي يعاني من الجمود والتكلّس، في حين تبدو خياراتهم متوقّفة على استمرار الواقع الراهن، وضمنه التشبّث بخيار المفاوضات. ومثلاً، فقد شهدت إسرائيل، منذ انطلاق مفاوضات التسوية (مدريد 1991)، سبعة رؤساء حكومات، من ثلاثة أحزاب (ليكود والعمل وكاديما)، هم اسحق شامير واسحق رابين وشمعون بيريز وبنيامين نتانياهو1، وايهود باراك، وارييل شارون، وايهود اولمرت، وبنيامين نتنياهو2، مع خمسة انتخابات للكنيست، في حين ظلّت قيادة الفلسطينيين الرسمية معقودة لحركة «فتح» التي انتقلت قيادتها إلى الرئيس محمود عباس، بعد وفاة ياسر عرفات، في حين لم ينظّم الفلسطينيون سوى دورتين انتخابيتين (1996 و2006)، مع مجلس تشريعي غائب تماماً، ومع انقسام في كيانهم السياسي الناشئ بين حكومتين متنازعتين في الضفّة وفي غزة! وبينما احتفظت الطبقة السياسية المهيمنة بمكانتها في الساحة الفلسطينية، بسبب نظام المحاصصة «الكوتا»، وبواقع غياب الديموقراطية في كياناتها، وبحكم انحسار قدرتها على الاستقطاب، فإن الطبقة السياسية الإسرائيلية تغيّرت كثيراً بحيث كادت تختفي منها أسماء كبيرة من مثل: حاييم رامون وعمير بيريتس وعوزي برعام وموشي ارينز ويوسي بيلين وديفيد ليفي وبني بيغن ويوسي ساريد وتسيبي ليفني وعميرام متسناع وشلومو بن عامي واسحق مردخاي، إذ تناوب على قيادة حزب العمل أكثر من أربعة أشخاص وهذا ينسحب على حزب «كاديما»، وثمة أحزاب ظهرت ثم اختفت. هذا يعني أن تصلّب أي نظام سياسي ليس دليل عافية أو دليل ثبات، بقدر ما هو دليل على ضعف القدرة على قراءة المستجدات ومواكبتها والتعامل معها، واستمراء الطبقة السياسية الحفاظ على مكانتها وامتيازاتها حتى بعد استهلاكها لطاقتها ودورها، على حساب مصلحة شعبها. هذا ينطبق على الخيارات السياسية، أيضاً، ففي حين ما زالت القيادة الفلسطينية مرتهنة إلى خيار التسوية وفق حلّ الدولتين، وعبر المفاوضات، وهو طريق بات له أكثر من عقدين من الزمن، من دون أي محاولة لفتح المجال أمام توليد خيارات أخرى، وحتى من دون أي محاولة لترجمة «الخيارات الستة» التي تحدّث عنها منذ زمن الرئيس أبو مازن (وهو رئيس المنظمة والسلطة وحركة «فتح»)، فإن إسرائيل، في مقابل ذلك، اختطت خيارات كثيرة على الأرض وفي شكل تعاملها مع الفلسطينيين ومع عملية التسوية. ومثلاً، فقد قوّضت إسرائيل اتفاق أوسلو بعدم تنفيذها استحقاقات المرحلة الانتقالية، التي انتهت منذ أكثر من عقد (1999)، ومعاودتها فرض سيطرتها على المناطق التي تخضع للولاية القانونية للسلطة، وبتعزيزها الأنشطة الاستيطانية في الأراضي المحتلة، وفي بنائها الجدار الفاصل، وفي محاولاتها الدؤوبة لتهويد القدس، وفي الانسحاب الأحادي من غزة وفرضها الحصار عليه منذ سبعة أعوام، وضمنه شن حرب مدمرة عليه (أواخر 2008). واللافت أن القيادة الفلسطينية على رغم كل ذلك ما زالت متمسكة بالمفاوضات وبحلّ الدولة المستقلة، كخيار وحيد، فيما العالم كله بات يتحدّث عن استحالة قيام دولة مستقلة للفلسطينيين في ظل هذه الأحوال، وهو أمر لا يغيب حتى عن بال القيادة الفلسطينية ذاتها، إلا أنها لا تبدي ردّ الفعل المطلوب والمناسب لمواجهة هذا الوضع، أو لتغيير معطياته، ولو حتى على مستوى وقف التنسيق الأمني على الأقل. هذا يعني أن الفلسطينيين يفتقدون البنية المناسبة، والإدارة الملائمة، والإرادة اللازمة، لإدارة صراعهم مع إسرائيل بالشكل الأنجع والأقوم، بغضّ النظر حتى عن الخيارات السياسية التي يجري انتهاجها (على رغم اقتناعي بتمايز خيار عن آخر). هذا حصل في التضحية بكيانية المنظمة لمصلحة السلطة، وفي تغييب مشروع التحرّر الوطني لمصلحة مشروع المفاوضة، وفي تغوّل الأجهزة الأمنية على كيان السلطة والمجتمع، وفي تصارع «فتح» و «حماس»، الفصيلين المهيمنين والحاكمين، على سلطة تحت الاحتلال، وفي تكريس حال الانقسام السياسي بين الضفّة وغزة، وفي الفجوة الحاصلة بين الفلسطينيين وكياناتهم السياسية، وفي غياب الجهد لإعادة بناء البيت الفلسطيني (المنظمة والسلطة والفصائل) على أسس وطنية وديموقراطية ومؤسّساتية. أما بالنسبة إلى الحدث الآخر المتمثّل في الهبّة الشعبية للتضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام، وبعضهم بات له أكثر من شهرين على هذه الحالة، فإن هذا بدوره يفيد بملاحظة عمليتين متفارقتين، أولاهما تتعلّق بأفول دور السلطة، والكيانات السياسية الفصائلية بمجملها، في قيادة الكفاح الوطني ضد إسرائيل وسياساتها، كنتاج لارتهانها لمكانتها في السلطة (وهو واقع حركتي «فتح» و «حماس») أو كنتاج لعجزها أو تراجع مكانتها ودورها، وهو ما ينطبق على باقي الفصائل. أما العملية الثانية، فتتمثل بتزايد دور المجتمع المدني في العملية النضالية، من خارج الإطارات الفصائلية، وفي اجتراح خيارات مغايرة لمواجهة السياسات التي تنتهجها إسرائيل لفرض هيمنتها في الأراضي المحتلة. هذا حصل في تنظيم الحملات الشعبية ضد بناء المستوطنات والجدار الفاصل ومحاولات تهويد القدس، ومن أجل رفع الحصار عن قطاع غزة، كما من أجل إنهاء حال الانقسام في النظام الفلسطيني، ومن أجل مقاطعة إسرائيل وفرض عقوبات عليها، في المحافل الدولية والإقليمية، وها هو يحصل الآن في قضية التضامن مع الأسرى المضربين عن الطعام في السجون الإسرائيلية. وربما يجدر لفت الانتباه إلى أن هذه التحرّكات تنسجم مع «الربيع العربي»، ومع روح العالم الصاعدة، والمتمثلة ببروز دور المجتمع المدني، وزيادة إدراكات الناس لذواتهم الحرّة ولفاعلياتهم الفردية والجمعية، لا سيما مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، الناجمة عن الثورات في مجال تكنولوجيا الإعلام والمعلوماتية، وهي شبكات زادت من تعاضد الناس ومن قدرتهم على تنظيم أنفسهم وإدارة أوضاعهم بطرق مرنة وديموقراطية، ووفق خيارات عدة. المشكلة أن القيادات والكيانات المتحكمة بالحقل السياسي الفلسطيني لا تستثمر في التحرّكات الشعبية ولا تبني عليها في تعاملاتها السياسية، بل إنها تتعامل معها بنوع من اللامبالاة أو بنوع من الحذر والريبة، وقد يصل الأمر حدّ وضع المعوقات والقيود عليها، في حين أن إسرائيل تستغل تحرّكات لوبيات المستوطنين والمتدينين المتطرفين للتملص من الاتفاقات التي وقعتها مع الفلسطينيين، وحتى لمواجهة الإملاءات الأميركية. ولعلّ ما يشجّع القيادات والكيانات السائدة على الاستمرار في ما هي عليه، بغض النظر عن انحسار مكانتها في المجتمع، وعن تراجع دورها في الصراع مع عدوّها، غياب المراجعة والمساءلة والمحاسبة في التجربة الوطنية الفلسطينية، وميل الفلسطينيين إلى المبالغة في تغليب العواطف والشعارات في كفاحهم الوطني على حسابات الجدوى، وهو ما يعني بذل التضحيات مهما كانت من دون السؤال عن الإنجازات! هذا بعض ما يفسّر تراجع دور العامل الفلسطيني في تعريف إسرائيل لسلّم التهديدات والمخاطر التي تواجهها، في العقد السابع من عمرها، والذي باتت تقصره على ما تسميه «القنبلة الديموغرافية»، وهو، أيضاً، معنى تعريفها للاحتلال المريح والمربح. فما الذي تفعله القيادات والكيانات الفلسطينية حقاً؟ وإلى أين ستذهب من هنا؟ * كاتب فلسطيني