كانت اسرائيل أقوى من الدول العربية منفردة ومجتمعة، إلا أنني أعتقد بأننا دخلنا مرحلة العد العكسي لنهايتها كدولة عنصرية، فقرار اكبر نقابة معلمين في بريطانيا مقاطعتها، يضعها على طريق النظام العنصري السابق في جنوب افريقيا، وأمام مصير كمصير"الابارتايد"هناك، فقد بدآ معاً سنة 1948، وسقط واحد سنة 1991، وننتظر سقوط الثاني. دولة الناجين من المحرقة النازية، تلك الدولة الصغيرة المحاصرة، لم تعد تخدع كثيرين بكذبة الشعب من دون وطن لوطن من دون شعب، فقد تحولت الى دولة توسعية عسكرية تقتل الاطفال، وتمارس ابشع انواع العنصرية، حتى في الزواج، والضحية اصبح جلاداً على الطريقة النازية من القتل الى التجويع، والفصل العنصري بينهما، حتى لم يبق سوى ان يرتدي الفلسطينيون ثياباً بلون معين مع اشارة تميزهم عن الشعب المختار. وهكذا كان ان جمعية اساتذة التعليم العالي في بريطانيا اتخذت قراراً الاثنين الماضي يحث اعضاءها الستة والسبعين ألفاً على مقاطعة الاكاديميين الاسرائيليين الذين لا ينددون"بسياسة الابارتايد"، أي الفصل العنصري على طريقة البيض في جنوب افريقيا حتى سقوط حكمهم. القرار لاحظ"استمرار سياسة الابارتايد الاسرائيلية، بما في ذلك جدار الفصل، والممارسات التعليمية التمييزية"، ودعا اعضاء الجمعية الى"درس مقاطعة مناسبة للاكاديميين الاسرائيليين الذين لا ينأون بأنفسهم عن مثل هذه السياسات". يكاد القرار يكون رمزياً، فهو غير ملزم، كما انه ليس جديداً، فالسنة الماضية اصدر اتحاد اساتذة الجامعات والكليات في بريطانيا، وأعضاؤه 40 ألفاً، قراراً بمقاطعة الاكاديميين الاسرائيليين وجامعات اسرائيلية معينة للأسباب نفسها. وكان أن تراجع الاتحاد عن قراره في وقت لاحق تحت الضغط. وبما ان الاتحاد هذا ونقابة أساتذة التعليم العالي متفقان على الاندماج، فإن الهيئة الجديدة الناجمة عن اندماجهما لن تكون ملزمة بتنفيذ المقاطعة، وانما ستتخذ القرار الذي يتوافق عليه اعضاؤها. وأتابع منذ اسبوع حملات اسرائيل وأنصارها على القرار الجديد، ما يذكرني بالحملات السابقة. والتهمة الرائجة ان القرار"لا سامي وعنصري"كما زعم زفولون اورليف، رئيس لجنة العلوم والتكنولوجيا في الكنيست، الذي كان من البذاءة ان يرى انه ليس مجرد قرار ضد الاحتلال، بل ضد حق اسرائيل في الوجود... يعني ان هذا الفاجر يريد ان يقنعنا بأن مقاطعة بعض الاكاديميين الاسرائيليين تهدد وجود اسرائيل، بدل ان تهدد بوضع العنصريين امثاله على طريق البيض في جنوب افريقيا. زفي هيفيتز، سفير اسرائيل في لندن، يرى ان القرار يؤذي جهود التعاون والتعايش، ويهدم الجسور بدل بنائها، ولم يرَ ان القرار يشكو من هدم اسرائيل الجسور، ورفضها التعاون والتعايش، وممارستها عنصرية جنوب افريقية، حتى لا نقول نازية ضد الفلسطينيين. ولم يوفق مايكل ملشيور، رئيس لجنة التعليم والثقافة في الكنيست، وهو يقول ان بدل الحكم على الانجاز الاكاديمي على اساس الامتياز، فهو اصبح يقاس على اساس سياسي. وهذا هو فعلاً ما حدث، وما مارست اسرائيل، وما قام الاساتذة البريطانيون ليعارضوه. وكان بين أغرب ما قرأت تعليق في صحيفة"معاريف"فاض بأحقاد كاتبه وعقده، وبن ? درور يميني يهاجم الاستعمار البريطاني الذي أوصله وأهله الى فلسطين، بل انه يربط بريطانيا بمجزرة حديثة من طريق تحالفها مع الولاياتالمتحدة في العراق. هل اسأل أين كانت اسرائيل لولا بريطانياوالولاياتالمتحدة؟ ربما كان دعاتها انتظروا ثلاثة آلاف سنة اخرى. أتوقف هنا لأحذر القارئ العربي من الانسياق في طريق العنصرية، كالحكومة الاسرائيلية المستهدفة بقرار الاساتذة، فهناك اعضاء يهود كثيرون في النقابتين البريطانيتين صوتوا الى جانب القرارين السنة الماضية والاسبوع هذا، بل ان فكرة المقاطعة نفسها اطلقها البروفسور ستيفن روز، وهو استاذ يهودي في الجامعة المفتوحة، بدأ سنة 2002 مع زوجته حملة لجمع تواقيع اساتذة يقاطعون اسرائيل بسبب سياستها العنصرية. وكان داعية السلام الاسرائيلي جيف هالبر سبق الاساتذة البريطانيين بأيام فكتب مقالاً عنوانه"العد العكسي للأبارتايد". بكلام آخر، ليس كل يهودي او اسرائيلي آرييل شارون او ايهود اولمرت، بل هناك غالبية تريد السلام والتعايش. وكما قاطع اكاديميون ونشطون يهود واسرائيليون جنوب افريقيا البيض في حينه، فإنهم جزء من الحملة الحالية لإنهاء نظام الفصل العنصري على طريقة"الابارتايد"في اسرائيل. قبل ايام كتب المؤرخ توني جوت مقالاً في ذكرى قيام اسرائيل قال فيه انها لم ترشد بعد، وان هذا يهدّد وجودها نفسه. وشخصياً، لا اعتقد بأن وجود اسرائيل كدولة مهدد، وانما وجودها كدولة عنصرية، فهناك اوجه شبه كثيرة بين النظام العنصري الاسرائيلي الحالي ونظام"ابارتايد"في جنوب افريقيا، وردود الفعل الاولى والمعارضة والانتقاد لممارسات اسرائيل هي تكرار لبدء الحملة على نظام البيض في جنوب افريقيا التي انتهت بسقوطهم. ربما كان الامر ابعد من مجرد الرشد، فاسرائيل تذكرني بشيء قاله السياسي الفرنسي جورج كليمنصو عن الولاياتالمتحدة عندما شكا من انها انتقلت من مرحلة الهمجية الى الانحلال من دون ان تمر بمرحلة الحضارة الوسيطة. ولعل اسرائيل، بسبب عوامل قيامها، دخلت مرحلة الانحلال فور قيامها. ارجح ان تكون فترة احتضار النظام العنصري في اسرائيل اطول منها في جنوب افريقيا، مع وجود الولاياتالمتحدة التي لا تستطيع اسرائيل الاستمرار من دونها، وحتماً فهي لا تستطيع الاستمرار بشكلها العنصري الحالي، من دون دعم الكونغرس الاميركي والعصابة الاسرائيلية في الادارة وحولها، ما نرى نتيجته كل يوم، وحتى وقف المساعدات للفلسطينيين وتجويعهم وإنهاء البرامج المدنية في غزة. غير ان النتيجة واحدة، والاميركيون هم الذين قالوا لنا انك لا تستطيع ان تخدع كل الناس كل الوقت. واسرائيل لم تخدع كل الناس اصلاً.