لم يكن اسم بوعلام صنصال معروفا في الوسط الأدبي الجزائري والفرنسي على السواء قبل نحو خمس سنوات. حملته الصدف إلى الواجهة فجأة بعد أن كان"إطاراً"سامياً في الدولة الجزائرية ولكن مغموراً وغير مرئي. وفجأة صدرت روايته الأولى"قسم البرابرة"عن واحدة من أهم وأعرق دور النشر الفرنسية"غاليمار"، رواية أثارت منذ البداية انقساماً في صفوف الإعلاميين والكتّاب الجزائريين، وحملت معها أسئلة مختلفة. كانت فترة نهاية التسعينات من القرن الماضي مرحلة مثيرة وتميزت بصخب وفوضى وفيضان روائي كبير. روايات كتبها جزائريون وغير جزائريين، بما أن الجزائر ظلت البلد الأكثر تجذراً في مخيلة الكثير من الكتّاب الفرنسيين يسمها سؤال العنف، ويوحدها منظور مشترك للأزمة، ومقاربة واحدة لها، فهي جميعها تقريباً تحاول أن تقرأ الملف الأمني، وتهاجم من يشكلون خطراً على"الجمهورية". وهذا مفهوم عزيز على الفرنسيين، ووظف في سياق تلك الحرب الأهلية العبثية التي لم يوجد لها اسم حتى الآن. بقيت فقط حرباً بلا صورة بحسب تعبير المؤرخ الفرنسي بنيامين ستورا أو صورة ملغزة لحرب لم تفصح عن هويتها. ولهذا اعتبرت الرواية الجنس المؤهل أكثر للتحقيق في مجريات الحوادث الأليمة، وفي تشعبات الأزمة، وفي تاريخيتها كذلك. وهكذا شقت رواية"قسم البرابرة"طريقها نحو مجد خاص لصاحبها الكاتب بوعلام صنصال، هذا الذي أصبح فجأة الرقم واحد في الأسماء المعوّل عليها أدبياً في فرنسا ليمثل الكتّاب الجزائريين الذين يكتبون بلغة فولتير. ومع أن البعض أعجب ببناء الرواية، وبطريقة السرد وتقنيات الرواية الحديثة في هذا العمل، وحتى في الحديث عن منطقة مهملة من مدن الجزائر، مدينة"رويبة الصناعية"، التي أصبحت رمزاً لفشل الاشتراكية الجزائرية، وغض البعض الآخر الطرف على المواقف التي بدت غريبة وشاذة من الجزائر وتاريخها وثورتها، وتمجيد الرواية لفترة الاستعمار الفرنسي، انطلاقاً من فكرة أننا يجب ألا نقرأ الأدب من زاويته السياسية أو مواقف الشخصيات المتخيلة. وفر صنصال على الجميع مشقة الاستفهامات والتساؤلات التي أثيرت حول هذا العمل بالذات، حينما بدأ يصرح في المجلات الأدبية الفرنسية التي حاورته عن مواقفه المتطرفة من الوضع الجزائري. ومن التاريخ الجزائري، وبدا الأمر كما لو أن صنصال وجد فرصة للتملق خصوصاً أن اسمه بدأ يُدرج في قائمة المرشحين لجائزة غونكور الفرنسية. كان موقف بوعلام صريحاً جداً، إنه ضد المتطرفين الإسلاميين، وضد السلطة، ومنذ خروج فرنسا من الجزائر لم يعرف الجزائريون طريقهم الحقيقي للتقدم والحضارة. وهذا"الخطاب"الذي تبناه صنصال كان وراء النجاح المتميز لكتبه في سوق الكتب الفرنسية. وقال مخاصموه، إنه لعب على وتر يعجب الكثير من"الأقدام السود"الذين لا يزالون يحنون الى الجزائر الفرنسية. لكن المؤكد أن الكاتب صنصال كان يقول ما يؤمن به صراحة، وما يعتقد بحق أنه حقيقة الأزمة. وأذكر أنني التقيت هذا الكاتب قبل ثلاث سنوات تقريباً عندما دعا"المركز الوطني للكتاب في فرنسا"مجموعة من الكتاب الجزائريين، وكنت من بينهم، ووجدت صعوبة في التواصل معه، وشعرت بأنه لا يعتقد أصلاً في قدرة الجزائريين المعرّبين على كتابة الرواية. ولكن استغربت أنه كلمني بعد ذاك بلطافة فقط، لأنه عرف أنني مترجم الى الفرنسية في إحدى دور النشر الفرنسية. لم أناقشه في تصريحاته التي كانت تثير دائماً نقاشات في الصحافة الجزائرية، أردت أن اسمع منه إن كان ذلك حقيقة أم لا. ولاحظت أنه صادق في أقواله، فهو يعتقد بأن زوال الاستعمار لم يكن شيئاً حسناً للجزائريين، وأننا ضيعنا فرصة للتحضر مع فرنسا. هذه الأقوال بقيت تصاحبه، وربما تساعده على البقاء في مقدم الروائيين الجزائريين في فرنسا، على رغم ضعف روايته الأخيرة"حراقة"، مع ياسمينة خضرا ونينا بوراوي، وغيرهم من الأصوات الصاعدة اليوم. لم يتغير موقف بوعلام صنصال على الإطلاق منذ تلك الفترة مع أنه بقي يمكث في الجزائر على رغم الترحيب الكبير به في فرنسا. وهذا ما كان يمنحه بعض الشرعية، ولكن إلى أي حد؟ وبالنسبة لمن؟ طبعاً إن الكتّاب الذين يكتبون بالفرنسية لا يراهنون على السوق الجزائرية للعيش من إبداعاتهم، وهم يدركون أن الحل يكمن حتماً في ما وراء البحر، وأن ذلك يتطلب بعض المرونة، وحتى التنازلات. وهذه لعبة يتقنها جيداً صنصال، أو على الأقل يظهر لنا أنه لا يقوم بتقديم تصريحات نارية من دون حسابات حقيقية حينما أحرج حتى مناضلاً فرنسياً شهيراً اسمه هنري علاق صاحب كتاب"المساءلة"، وكان خصصه لفضح التعذيب في الفترة الكولونيالية. ورد صنصال عليه بأن الجزائر فشلت منذ الاستقلال في إدارة شؤون البلاد والعباد. ولم يجد الروائي الآخر ياسمينة خضرا الذي كان قبل ذلك ضابطاً في الجيش الجزائري إلا أن يرد عليه بالكثير من الحذر والحياء بپ"أننا لا نستطيع أن نتكلم عن بلدنا بمثل هذا السوء"، بل زاد من تعبيره عن تطرفه حتى بالانضمام الى ما كان يردده فيلكينكروت الفيلسوف المحسوب على تيار الصهيونية في فرنسا حول أصولية حركة حماس وغيرها، من أن الوضع في فلسطين يتشابه مع الوضع في الجزائر، ولم يستطع أن يفرق بين سياق وسياق. وكان من المحتم بعد ذلك أن يصدر حديثاً كتابه السياسي المثير"البريد المتبقي"الذي منع من الدخول الى الجزائر حتى تتضح الصورة أكثر، أو حتى يفهم كل من يريد أن يفهم مواقف صنصال الجريئة على رغم ذلك، وهي تطرح أسئلة محرجة عن هوية الجزائر وتاريخها. وهذا الكتاب الذي صدر أخيراً عن منشورات"غاليمار"أثار انتباه الكثير لطرحه النقدي المباشر، خصوصاً في سياق سياسي متكهرب بين الجزائروفرنسا من خلال ما عرف بقانون 23 شباط فبراير الممجد هو الآخر لفترة الاستعمار والذي يؤكد ايجابياته كذلك. فصنصال في شكل أو آخر ينحاز الى موقف فرنسا، أو يقف من القضية من خلال تحليلاته التي شاء لها أن تكون عبارة عن رسائل صريحة لمواطنيه الجزائريين الأعزاء، وأن يفضح فيها ما تعتبره السلطة الجزائرية ثوابت رئيسة لا يمكن المساس بها، وهي العربية والإسلام والثورة، مضيفاً إليها قدسية الرئيس. وهكذا يعري صنصال من زاويته الخاصة ما يصفه بالكذب الكبير على الجزائريين، ويحاول أن يؤكد عبر نسب مئوية أن العرب الموجودين في الجزائر هم اقل نسبة نظراً الى البربر والقبائل والسود. ويخلص إلى القول:"نحن جزائريون وكفى، أي كائنات ذات ألوان ولغات متعددة، وجذورنا ضاربة في كل مكان من العالم، والبحر الأبيض المتوسط كله يسري في عروقنا". وبالنسبة الى الإسلام فهو ينتقد بشدة ما جاء في الدستور الجزائري"أن الإسلام هو دين الدولة"وهو يعني بذلك ان"تثبيت هذا الثابت جعل من الدولة الضامن لإبادة معلن عنها، وأنجز جزءاً منها". ويطرح"اللائكية"أو العلمانية كحل للخروج من هذا الثابت المغالط للحقيقة. وبالنسبة الى اللغة العربية فهو يقول بصراحة:"اللغة العربية هي اللغة الرسمية، هذا صحيح، ولكنها ليست باللغة الأم لأحد، في البيت والأسرة والقبيلة والعرش والدوار والحي،"مؤكداً أن الجزائريين يتحدثون في الشارع بلغات متعددة منها القبائلية والشاوية والتماشاق والعربية الدارجة أو بالفرنسية. يحاول صنصال إذاً أن ينزع عن أعين مواطنيه غشاوة التضليل من خلال فتح الثابت على المساءلة والتشريح، وهو يخلص إلى نتيجة مفادها"إن هذه الثوابت ليست في المحصلة سوى ابتكارات سمجة خبيثة مسيئة للجمهورية وخطيرة على الشعب". وقد نتفق مع الروح النقدية والحق في النقد والمساءلة لكننا سنختلف حتماً معه حول مسائل كاللغة العربية، التي هي بالنسبة إلينا، ولو لم تكن اللغة الأم، لغة بيئتنا الحضارية والثقافية. وبدل العمل على تحديث العربية وتطوير ملفوظها ومحتواها والإسراع في عملية فتحها على الرهانات الكبرى يسعى البعض الى حبسها في خطابات مغلقة، وتجذيرها كسلطة قمعية، ورسمية، فقط لإحقاق فكرة التقسيم بين الجزائريين، هذه الفكرة التي باتت تخدم مصالح دول معينة تراهن على إيجاد تصدعات في كل بلد عربي على حدة. ولعل النقد ضروري ما دامت الأهداف المعلن عنها واضحة ولا تخدم سياق مرحلة وجهة دون أخرى.