يثير النجاح الذي حققته الهند في تكنولوجيا المعلوماتية وتحولها الى قوة كبرى في صناعة"الهاي تيك"العالمية، اهتماماً عربياً وعالمياً. ومن المثير أيضاً ملاحظة ان النجاح الهندي في المعلوماتية، ترافق مع صعود الهند في الاقتصاد والسياسة والتسلح والفضاء والتجارة والزراعة والصناعة وغيرها، ما يشير الى نجاحها في ربط التقدم العلمي بالتنمية. ولم تتردد مجموعة كبيرة من التقارير الاستراتيجية، التي صدرت عن مؤسسات دولية، مثل"صندوق النقد الدولي"و"البنك الدولي"و"منظمة التعاون والتنمية"و"ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية"وغيرها في الاشارة الى الهند باعتبارها دولة صاعدة الى مستوى القوة الكبرى. وثمة ناحية أخرى شديدة الأهمية، إذ ترافقت التجربة الهندية مع صعود مماثل، وربما أشد قوة، للصين، التي تحث الخطى للوصول الى وضع القوة الكبرى. ويتضافر الجوار الاقليمي مع انفتاح السوق العالمي، في زيادة حدّة التنافس وشراسته، بين هذين العملاقين الآسيويين. ويرتكز الاسلوب الهندي في الدخول الى صناعة المعلوماتية، على تقنية"الحصول على المصدر من الخارج"او ال"أوت سورسينغ"Out Sourcing، فيما تعتمد الصين نموذجاً مُغايراً، إذ تصنع الشركات الصينية برمجيات وتطبيقات في المعلوماتية، بالاعتماد على تقنياتها وخبراتها، ومن دون الحصول على التكنولوجيا ومصادرها، وبالتالي تراخيصها، من الخارج. ويُوصف الاسلوب الصيني بأنه يعتمد على"بي بي أو"BBO، أو"مسار الاعمال خارج الدولة الام". وفي ما يأتي مقال من مصادر متنوعة، عن التنافس بين الصينوالهند في المعلوماتية: "في غرفة واسعة محجوبة عن الانظار في مقاطعة"شيآن"غرب الصين، تنحني صفوف من رؤوس سود لإناث عقصن شعرهن الى الخلف، ويعملن بصمت مطبق. لا يُسمع سوى صوت يصدر من أصابعهن التي تطبع على لوحة المفاتيح بخفّة واحتراف. وقد يتكرر هذا المشهد في أي مصنع صيني، ولكن مع بعض الاختلاف. اذ لا تصنع أولئك الفتيات الاحذية ولا يركبن لوحات كهربائية، بل يتسمّرن أمام أجهزة الكومبيوتر. انهن يؤلفن برمجيات تتعلق بالملفات الطبية في نيويورك، أو بقروض السيارات في نيودلهي، أو تدقيق علامات طلاب الصفوف الثانوية في ملبورن في أستراليا. ويصف مايكل ليو مؤسس شركة"كمبيو باسيفيك انترناشونال"، عمل أولئك الفتيات بأنه"مستقبل أعمال المكتب الخلفي". وتعمل شركته عبر اسلوب"بي بي او" بمعنى انها تعمل لمصلحة شركات كبرى من خارج الصين، وبمعنى ان الدولة الأم هي الصين. ويعتقد أنّه في مقدور الصين أن تنافس الهند، التي تعتمد نموذجاً مختلفاً في مجال صناعة المعلوماتية، اذ تصنع برمجيات وتطبيقات بالاستناد الى تكنولوجيا الشركات الغربية، ليندرج المنتج الهندي في ما تُنتجه تلك الشركات العملاقة. النموذج الصيني:"بي بي او" الحال ان"شيآن"كانت قديماً عاصمة امبراطورية. وشكلت المحطة الاخيرة للقوافل المتجهة شرقاً على طريق الحرير في وسط آسيا. كما كانت محطة للافكار الثقافية والعلمية الجديدة. وعلى رغم اشتهارها بجيشها المكون من مقاتلي تيراكوتا، تعتبر"شيآن"من أكثر مُدن الصين حداثة. وهي مهد برنامج الفضاء في الصين، إضافة الى دورها في صناعة الطائرات، كما انها جزء من تجمّع لمراكز الصين التكنولوجية، الذي يُسمى"سيليكون فالي"الصين. ويمتد على مساحة 35 كيلومتراً مربعاً ويضّم 7500 شركة، كما تدعمه أكثر من 100 جامعة تُخرّج 120000 طالب سنوياً، يُتابع نصفهم تخصصه في علوم الكومبيوتر. ويمتد مشروع يحمل اسم"منطقة شيآن للتنمية الصناعية المتطورة تكنولوجياًً"على مساحة 90 كيلومتراً مربعاً. وتصل قيمته الصناعية الى 100 بليون يوان، أي ما يعادل 12 بليون دولار، بحسب ما يفيد مدير المشروع جينغ جنشاي. ويشكل جذب الأعمال المتعلقة بالخدمات خارج الدولة الام،"بي بي أو"، ركيزةً لتحقيق هذه الغاية. ومن المتوقع ان تبلغ السوق العالمية لخدمات تكنولوجيا المعلومات التي غالباً ما توّجه الى الشركات الغربية 50 بليون دولار عام 2007، بحسب مؤسسة"غارتنر"الدولية للاستشارات. إنّ سوق"بي بي أو"الذي يشمل فواتير المعالجة وطلبات بطاقات الائتمان وإدارة عمليات الموارد البشرية وغيرها، قد يصل الى 24 بليون دولار عام 2006. لقد استولت الصين على سوق"بي بي او"عالمياً. ويعترف بيل لويس، مؤسس شركة"تيماسيس"للاستشارات المعلوماتية مقرها سنغافورة بأن الصين تحتل المرتبة الأولى في مجال أعمال"بي بي او"، إذ تحوز ما قيمته بليونا دولار من سوق تلك الخدمات. وتعتبر مدينة داليان، في شرق شمالي الصين، مركزاً لتلك الأعمال، بدعم من أسباب تاريخية وجغرافية. إذ يتكلم سكانها اليابانية والكورية وبالتالي تتعهد مكاتبها إنجاز مشاريع من اليابان وكوريا الجنوبية. ويُعطي الامر صورة متداخلة عن القوى الآسيوية. فمثلاً، تظهر الإحصاءات الرسمية، ان مردود"شيآن"السنوي يصل الى 300 مليون يوان 40 مليون دولار، تعود نسبة 90 في المئة منها الى اليابان! إلاّ أنّ الصين تملك إمكانات هائلة، اذ يتميز عمالها باطلاعهم العميق على المحاسبة والرياضيات. قد ينقصهم الابتكار ولكنهم مواظبون على عملهم وعلى استعداد دائم للتدريب، وذلك ما يؤهلهم للتفوق على نظرائهم الهنود في الوظائف الشاقة. وهذا ما يحتاجه عالم أعمال ال"بي بي أو". ويفيد سوجاي شوهان، مدير أبحاث"غارتنر"في الصين، ان سوق"بي بي او"يتميز بانه"أعمال متكررة... ترتكز على تدريب"جيش"بكامله لأداء أعمال مُحدّدة... ليست بأعمال تحتاج الى الابتكار". وبالفعل، تأتي لفظة"الجيش"في المكان المناسب. اذ يحتاج عالم الأعمال هذا الى ملايين العمال الذين لا يتقاضون أجراً عالياً. لطالما كانت الهند أرخص ممّا هي عليه الآن، لكن أجور خريجي الجامعات والمهندسين والبرمجيين فيها تتصاعد باستمرار. بموازاة ذلك، يصل أجر الموظف الصيني الى 300 دولار، أي عُشر ما يحصل عليه الموظف الاميركي. وفي مطلع العام الحالي، أطلق مدير شركة"أس آي بي"التنفيذي، هينينع كاغرمان، تحذيراً قوياً. والحال ان شركته تُعّد من أضخم شركات البرمجيات في العالم. وحذّر من أنّ الهند أصبحت مرتفعة الكلفة في ما يتعلق بانتقال العمل إليها. ويُشبه ذلك ما يحصل في المدن الساحلية الصينية، لكن المدن الداخلية فيها ما زالت مملوءة بالأيدي الكفية والرخيصة. وتتطلع الشركات الاجنبية الى مدن غير"شيآن"، مثل"شانغدو"و"ووهان". ويفيد كاورو مياتا، صاحب إحدى الشركات الناشطة في"شيآن"، أنّ الايجار والرواتب في هذه المدينة أقل بنسبة 40 الى 50 في المئة من بيجينغ وشنغهاي. فيما يشدد ياسوو نوشيرو، صاحب النظام الهندسي لشركة"فوجيتسو"اليابانية الشهيرة، على رخص الاسعار في"شيآن". ويرى أنّ الموظفين الذين لا تتوافر لديهم سوى فرص العمل الضئيلة أكثر اخلاصاً في عملهم. عناصر جذب صينية ثمة عناصر كثيرة تجذب الشركات الغربية للعمل في الصين راهناً، وبالتالي لهجران الهند، مثل الهدر في البنى التحتية الصينية في التكنولوجيا العالية، ما يُعتبر فرصة هائلة للشركات لأنها تستفيد مما تصنعه الدولة من دون الاضطرار الى شرائه، وسياسة الضرائب المخفوضة، ودعم الدولة القوي وغيرها. ونجحت الصين أخيراً في جذب الأعمال الكبرى لشركات عملاقة مثل"آي بي أم"IBM و"هيوليت باكارد"HP و"مايكروسوفت"MicroSoft و"سيمنس"Siemens و"انفيون"Infion. والحال ان الشركة الأخيرة، وهي اسرائيلية، تتمركز في الصين منذ سنوات عدّة، ولا تزال تنشغل في توظيف عمّال جدد. وتملك شركة"أن اي سي"NEC العملاق الإلكتروني للمنتجات الالكترونية الاستهلاكية، 180 شخصاً يعملون في مجال البحث والتطوير في"شيآن"، وتملك منافستها"فوجيتسو"120 من إختصاصيي البرمجيات. وتبدو المؤسسات الهندية التي تعمل في مجال الخدمات خارج الدولة الأم، وعلى طريقة"اوت سورسينغ"وكأنها آخر من اكتشف الصين! وبمعنى ما، فقد تأخرت في إدراك أهمية السوق الصيني لأعمالها. ومع ذلك، فقد شمرت عن السواعد للعمل في بلاد العم ماو. وتملك شركة"تاتا"للخدمات الاستشارية مقار في مدينة"انغزو". وافتتحت شركتا"انفوسيس"و"ويبرو"مختبرات في مدينتي"شنغهاي"و"بيجينغ"، كما تخطّطان لزيادة قوتهما العاملة لترتفع من بعض مئات الى خمسة آلاف أو ستة آلاف عامل في السنوات المقبلة. ويسعى المدير السابق لشركة"جنرال الكتريك"التي تتمركز في الهند كي يتضاعف عدد الموظفين ثلاث مرات في داليان وينقل من 1800 موظف الى أكثر من خمسة آلاف. ويُسيّر هذا الانتشار الطلب المتزايد للزبائن القاطنين في الخارج الذين يريدون أن يحصلوا على أقل تكاليف ممكنة ونشر مشاريع تقوم على المجازفة والحصول على دعم محلي لعملياتهم الصينية المتزايدة. ويظهر سيلٌ من الأعمال النابعة من الشركات الصينية المنزلية. وتعّد شركة"تي سي أس"نظاماً برمجياً جديداً لبنك"هواكشيا"وهو المصنف ثاني عشر على سلّم الأهمية في مصارف الصين. وقد يتحول هذا السيل الى فيضان في حال ارتأت شركات الصين جميعها تملكها الدولة أن ترتكز على تكنولوجيا المعلومات والدعم المكتبي، على طريقة"بي بي او". والارجح ان المنافسة بين العملاقين الهنديوالصيني ما زالت في فصولها الأولى".