تؤكد العولمة بطبعتها الاميركية أنها النقيض المطلق للعولمة بمفهومها الانساني، كون الأولى شكلت ومازالت تشكل أحد حوامل فيروسات قتل الفكر والثقافة والدولة والمجتمع والسيادة الوطنية والاستقلال الوطني. ولا نقول هذا انطلاقاً من حكم قيمة أيديولوجي، أو من رؤية مضادة للعولمة على إطلاقها، ولكن نظراً الى ما باتت تحفره طبعتها الاميركية في واقع المجتمعات والدول والافكار والثقافات، من انحيازات أيديولوجية في حدها الاقصى الى التطرف والتهديد بالحروب الوقائية والاستباقية، كنهج في ممارسة السياسة الاقصائية، هدفها اخضاع سيادات الدول وحرية المجتمعات المناهضة لها. واذا كانت بعض النخب قد راهنت على عولمة الطبعة الاميركية، كونها ربما حملت نزوعاً نحو تحرير شعوب أو مجتمعات، فقد كشفت حروب الادارة الاميركية في كل من أفغانستان والعراق أن"تحريرهما"من طريق احتلالهما، إنما كان في سياق نزوع أشمل الى الهيمنة، وفرض نفوذ أوسع لا يسعى إلى ترويض الانظمة فحسب، بل وإلى إلغاء أدوارها وطموحاتها الاقليمية، مقدمة لإدخالها الى حظيرة الخضوع والهيمنة ومنعها من امتلاك أي قدرة على الردع او التهديد بها. وفيما راهن بعض آخر على تلك العولمة كونها حاملاً من حوامل التقدم الاجتماعي والديموقراطية والاصلاح والتغيير.. إلخ ودافعاً لامكانية توزيع أكثر عدالة للتدفقات المالية بين الشمال والجنوب، إذ بتلك التدفقات، في ظل السيطرة الاحادية، لا تجد سوى طريق واحد من الجنوب إلى الشمال، بينما أريد للمعلومات أن تستمر في انسيابها على العكس من ذلك، أي من الشمال إلى الجنوب. وإذ بحقوق الانسان لا تعني وفق صياغات العولمة الاميركية سوى قولبتها في حق الاستهلاك لمزيد من المنتج الاميركي، وبما يضمن تدفقات مالية هائلة في اتجاه واحد: من كل العالم ومن جيوب كل الناس إلى مركز الهيمنة الفاعل في النظام الاقتصادي والسياسي الدولي، أي دولة الاحادية القطبية التي تقود العولمة. وإذ سعى"المحافظون الجدد"الى الهيمنة على العالم عن طريق الرأسمالية والاقتصاد، فقد انعكست هذه العملية تعزيزاً لمنطق الحروب التي اندفعت إليها العولمة الاميركية، مستفيدة إلى أقصى الحدود من الثورة التكنولوجية والتقنية والرقمية، التي يجري توظيفها لخدمة مشروعها الامبراطوري، ذلك الذي يجري في سياق تطوري مختلف عن سياقات التطور الطبيعي للمجتمعات والشعوب التواقة لبناء حياتها ومستقبلها بعيداً من تهديدات الحروب والارهاب. وفي هذا السياق يمكن إعادة تغيير سمات الرأسمالية في العصر الاميركي الراهن إلى تغيير أشكال الاستقطاب على الصعيد الدولي. فالعولمة الرأسمالية في طبعتها الجديدة المهيمنة على المركز الامبريالي الاعلى اليوم، ورغم استعانتها بمراكز تصنيعية ثانوية - ربما عدت أساسية - في عدد من بلدان آسيا لم تتخل عن احتكارها وسيطرتها على كامل تكنولوجيات التصنيع والاتصال والمعلوماتية، بما هي البنية التحتية لأسس هيمنتها على نتاج عمل كل المرتبطين بأسواقها وتدفقاتها المالية، وتحكمها بكامل معاهدات التجارة الحرة لمصلحتها فقط، ضد مصالح الآخرين، وضد خصوصيات الدول وسياداتها الوطنية. وقد فضحت قضية شركة موانئ دبي أكاذيب التجارة وحريتها المزعومة، وسواها من أكاذيب تدعيها العولمة وتنسبها لنفسها، والمدى الايديولوجي الذي تحاول من خلاله تجميل وجه الرأسمالية المعولمة القبيح، وزيف القرية الكونية. من هنا كان لا بد أن تقضي هشاشة الاستراتيجية السياسية والاجتماعية والامنية للنظام الاقليمي العربي، ليس إلى التماهي فحسب، بل والولوج إلى قلب الاستراتيجية العامة التي تحكمت بمسار العولمة الاميركية، مشكلة محوراً من محاور إقليمية ضمن نظام أمني جيوسياسي اطلق عليه"الشرق الاوسط الجديد"، كما تطمح الاستراتيجية الاميركية الى تشكيل سد حاجز أمام نهوض حركة شعبية معادية للعولمة ونظامها الشرق أوسطي، تهدد مصالحها الاستراتيجية في هذه المنطقة من العالم. هذا الانسجام والتناغم بين الاهداف الاقليمية والدولية، رغم المنازعات الهامشية هنا أو هناك، هو ما يتيح إقصاء الشعوب واستبعادها من الحياة السياسية، بل إقصاء السياسة عن أروقة الدولة، وتعطيل فاعلية المجتمعات وتهميشها بمصادرة حرياتها، فيما أضحى تقاسم البلاد يتم من دون مقاومة، بحيث تحولت إلى اقطاعيات خاصة تمتلك السلطة كامل"حقوق"التصرف بها، بعد ان ضمنت عدم ممانعة النظام الدولي. ولهذا رأينا كيف يتم التراجع عن مسائل الاصلاح ونشر الديموقراطية في رؤية الاستراتيجية الاميركية، انطلاقاً من أن المضي في هذه العملية قد يطيح استقرار الانظمة الاقليمية والمحورية الموالية، وما قد يجره ذلك من تهديد للمصالح الغربية. فاستعادة الحركات الشعبية والمجتمعات العربية زخمها وحيويتها في ظل إصلاح جدي وديموقراطية نزيهة سوف تهدد هذه المصالح. لهذا كانت واشنطن في غنى عن هذه العملية، خصوصاً أن مأزقها العراقي وتداخل ملفات إقليمية، وأبرزها الملف النووي الايراني، لا يؤشر إلى إمكانية سيطرتها على مسار التداعيات وتحولات المنطقة نحو الديموقراطية. كما أن فوز"حماس"وصعود تيار"الاخوان المسلمين"في مصر، جعل واشنطن تفرمل خطواتها وتلجأ إلى عملية جراحية عميقة للإبقاء على أنظمتها المحورية الرئيسية، بعيداً عن التأثر بموجات المد الديموقراطي التي يمكن أن تذهب في"إتجاهات مارقة". وكشف الاندماج في سوق العولمة عن أنماط من فكر وسياسات وثقافات، تحولت إلى مادة يجري توظيفها للدفاع عن المصالح الأشد التصاقاً بمراكز التدفقات المالية، ليس على صعيد النخب السلطوية، بل وفي أوساط نخب فكرية وسياسية وثقافية استهانت بذاتها ومجتمعاتها وبثقافاتها وقيمها. ففي الوقت الذي أفضت الايديولوجيا القومية إلى أن تخط أبرز خطوط فشلها النظري والواقعي الممارس سلطوياً، فإن الايديولوجيا الاسلاموية وفي سياق نظرياتها السلطوية تسعى إلى انتهاج مسار مماثل في سعيها للاندماج في العولمة الاميركية الراهنة. في وقت نشهد فيه انتقال بعض النخب الحزبية التي ادعت يوماً، بل احتكرت مهمة القيام بقيادة"الحتمية التاريخية"، إلى صفوف نخب الاحزاب السلطوية بتلونها وتلوثها بمفاسد وفتنة السلطة وافتتانها باطروحات الليبرالية الجديدة. وأضحى البعض الذي سبق وادعى أن التاريخ يقوم على اكتافه، أكثر انتهازية من انتهازيي المهمات الآنية فماذا يتبقى من ماركسية وقوموية ويسارية هؤلاء وهم ينتقلون إلى مواقع المحافظين وليبرالييهم الجدد في بلادنا؟ هؤلاء المدافعون الشرسون عن العولمة في طبعتها الاميركية من متمركسي الأمس، يستعيدون صيغة التبني والانغلاق المتحجرة إياها، بعيداً من العقل والنقد وجوهر الفكر أو الثقافة المؤسسة. فالماركسية كمنتج ثقافي فكري، وكنظرية في السياسة وعلم الاجتماع والاقتصاد... هي نتاج العقل الناقد لا نتاج العقلية السلطوية التي تمظهرت هنا او هناك كسلطة استبدادية، استعارت من الماركسية بعض أثوابها المزركشة، فيما كانت تبتعد عن جوهر النظرية والفكر والمنهج الماركسي ذاته. وهذا ما شكل المقتل والمفصل الحاد في انفصال السلطة عن حواضنها التي ادعتها لنفسها ولم يكن ذلك مقتل الماركسية، بل مقاتل التشويهات التي ارتكبت في حقها من جانب السلطات الاستبدادية، خصوصاً السلطة القوموية العالم ثالثية التي ذهبت في تمسحها بالاشتراكية حدوداً قصوى من الاساءة لها، وبالتالي الاساءة أكثر إلى الماركسية مع أن"اشتراكية"هذه السلطات القوموية العقيدية وأشباهها ذهبت في عدائها للأحزاب الشيوعية وللماركسية الى حدود القمع والمنع والمطاردة والتحريم والاعتقال والاغتيال بحق معتنقيها في فترات"الصعود"القوموي، رغم ما أتيح لها في فترات لاحقة من تركيب"تحالفات جبهوية"، بل أوغلت أكثر تحت ستار تلك"التحالفات"في خنق الحرية ومصادرة دعوات الديموقراطية والتنكيل بالمواطن وحقوقه، إلى الحد الاقصى من إلغاء الحياة السياسية. لقد اضحت العولمة اليوم"بديلاً"لأممية الأمس في نظر بعض المتمركسين، ويبدو أنها صارت الموضة"التقدمية"الجديدة لنخب طالما ادعت التقدمية عبر شعاراتها ومناهضتها للاشتراكية وأشكال الماركسية القائمة سلطوياً وادعاء الوقوف إلى يسارها واتهامها بالتحريفية والانتهازية... إلخ من أوصاف باتت عملياً تنطبق عليها، فيما هي تروج للعولمة بزعامة الامبراطورية الاميركية، رغم وجود اتجاهات لعولمة أكثر إنسانية لدى بعض الاوروبيين ولدى الصينيين كذلك، وإن لم تمتلك بعد مقومات انبنائها على الصعيد الدولي، وضعف إثمارها في ظل سعي الولاياتالمتحدة إلى مد هيمنتها الشاملة الى اقتصادات وأسواق وتجارة وتدفقات العالم المالية. فالهيمنة الاحادية للعولمة الاميركية لا تتيح للآخرين الاستفادة منها، بل على العكس يراد للآخرين ان يكونوا ضحاياها الصامتين، على أمل ان تصلهم"ثمارها"في مستقبل لن يكونوا في عداد أحيائه! * كاتب فلسطيني