يستعين كاتب هذا التحقيق بالوقائع الراهنة واليومية في العراق ليؤلف مشهداً متخيلاً لبغداد الموزعة بين الولاءآت الطائفية والعرقية، اذ يبدو ان مصير العاصمة العراقية ينحو بأتجاه احتمال انقسامها بين الكرخ والرصافة، او بغدادالشرقيةوبغداد الغربية بالمعنى اللبناني، وربما امكن القول ببغداد شيعية واخرى سنية. وفي هذا الوقت لا بأس ببغدادات صغيرة منها الكردية والتركمانية... ربما كانت الأستعانة بالخيال ضرورية لرسم الصورة القاتمة لما ستؤول اليه بغداد، ولكن الوقائع سائرة بأتجاه احتمالات من هذا النوع. هنا تحقيق يمتزج فيه الخيال بالواقع ليؤلفا مشهد المأساة العراقية. بغداد اليوم ليست عاصمة على ضفتي جسر وحيد كما قامت عند منتصف القرن الثامن الميلادي، إنها"عواصم"أمامية لجبهة حرب بين دويلات عدة، تصعد براياتها نحو بغداد، أو تنزل نحوها، وهي تعرف ان الجسور الكثيرة التي تعبر عليها، من هذا الجانب نحو ذاك وبالعكس، هي التي ستحدد شكل تلك الدويلات في أمكنتها هنا وهناك، وليس بالنظر نحو"تجربة"كردستان الحالية في العراق، ولا حتى نحو"معضلة"كركوك أو الموصل، ولا"الإقليمية القلقة"في البصرة أو الناصرية أو العمارة، ليس في الصفقات السياسية بين الأكراد والشيعة والسنة، فكل هذه الأمكنة وما تضم من خلائط أو معادن بشرية، ما هي في الواقع سوى صور هشة لكتل اجتماعية قابلة للتنافر الداخلي، والانشطار المستمر في صيغ متعددة، بما في ذلك الأكراد الذين قد يبدون من الخارج أنهم محصَّنون في هوية ما. لم يعد السؤال هل بدأت الحرب الطائفية في العراق؟ بل ذهب نحو المستوى والصيغة اللذين ستأخذهما تلك الحرب، فنحن نتحدث عن حرب أهلية لا عن حرب إقليمية تقليدية. وإذا سلمنا بأن الحكومة أضعف من الجميع، من الاحتلال نفسه ومن دول الجوار ومن المقاومة، ومن جميع الفئات المسلحة حتى تلك المنضوية في بنية المؤسسات الأمنية للدولة نفسها، فإن سؤالاً عن مخاطر تلك الحرب صار في الخلف تماماً والبلد يمر في أتونها منذ سنة على أقلِّ تقدير. لم يعد السؤال متعلقاً حتى بهذا الجو الديموقراطي في كردستان البعيدة من أصوات الحرب، بل يتعلق بمتى تجد الحركات الكردية نفسها في الأتون ذاته. إياد علاوي رئيس وزراء الحكومة الانتقالية كان قد أعلن في تصريح لإذاعة"البي بي سي"في التاسع عشر من آذار مارس الماضي إن العراق يعيش بالفعل حرباً أهلية، ولم تكن انتخابات كانون الأول ديسمبر 2005 وحدها ما جعل الأمر حقيقياً، ليس في ذهن علاوي الذي خسرها فحسب، بل وحتى لدى أولئك الرابحين فيها. ليس في مثل هذه الأسئلة ما يدعو الى الفرح ولا الى التشاؤم، فالأمر يتعلق بسيناريو تتلاحق فصوله، ومهما اجتهدنا في التخفيف من تراجيدياه سيبقى قابلاً للتصعيد نحو ذرى جديدة. لا تبدأ الحرب الأهلية عادة، ولن تستمر كذلك، بإرادة الأهالي أنفسهم، إن طقوس العنف التي ترافق الحروب الإقليمية تتفاعل تأثيراتها عادة بعد انهيار الدولة أو الانتقال من نظام حكم إلى آخر، ولهذا تولدت هذه الهزة العنيفة في بنى المجتمع العراقي الهش أصلاً بفعل دولة الاستبداد المعمرة طويلاً، وجاء المفهوم المتخلخل لشكل نظام الحكم في العراق حتى الآن ليسرع من الذهاب نحو حرب أهلية، فبين ربيع الديموقراطية"الملهمة"التي حلمت بها إدارة بوش، أو فكرة"الديمقراطية الإسلامية"وفق تنظيرات نوح فيدلمان، ونموذج ولاية الفقيه التي تقوم على دولة المستضعفين الحاكمة في الأصل العقائدي للأحزاب الإسلامية الشيعية، والعروبة المشروخة بنماذجها الاستبدادية، ثمة إرادات تتقاطع ولا تتفاعل، ولا يمكن الوصول إلى مقاربتها في دولة التراضي. وطالما إن العراق جبهة عالمية للحرب ضد الإرهاب على زعم الرئيس جورج بوش، وهي ساحة جهاد أساسية بالنسبة الى"المجاهدين"من شتى بقاع الأرض، وطالما إن الصراع الإقليمي غير المعزول عن موازنات القوى المحلية يعمل بجد داخل المجتمع بطوائفه وقومياته المتعددة، فإن الأمر لا يمكن اختزاله باختبار تعريف الحرب الأهلية في تجارب الأمم والشعوب الأخرى، وإنما يتصل بطبيعة اللحظة الراهنة لعالم مفتوح على صراعات تتمدد في إيجاد نموذجها، ولا تتحدد في نموذج معهود. أيضاً لا يتعلق الأمر بالنعوت والمفاهيم: عنف طائفي أم صراع أثني، أم حرب أهلية. تجمع كل هذه التسميات ولا تجتمع في صيغة واحدة، وإنما المتاح هو سؤال واقعي وملح على الجميع: هل يبقى الاحتلال لحماية البلاد من حرب أهلية وقعت في وجوده أصلاً؟ هل يندفع في هذا السيناريو نحو حماية طرف مقابل طرف آخر، أم يغذي طرفاً ضد طرف، أم يخضع الطرفين معاً لتلك الستراتيجية التي سماها بوش ستراتيجية النصر في العراق؟ كلما احتدمت نوازع العنف الطائفي في العراق، أو أخذت شكلاً يجعلها تندرج في سياق الحرب، سنلاحظ انحساراً للهجمات على القوات الأميركية، وأكثر من ذلك ستبدو تلك القوات وكأنها ضمانة لإعادة الفتنة إلى رقادها الموقت ريثما يتم بناء الدولة الكافلة لپ"حقوق الطوائف"الدولة / العشيرة أو مجلس العشائر والطوائف التي تقوم على فك المنازعات وفق نواميس تقليدية وقوانين خاصة، تزيد من ضعفها وتجعل من دورها مجرد دور المحافظ على التوازنات، لا الممسك بالميزان كله، وما يزن، مجمل العملية السياسية يؤكد هذا الواقع. ففيما أفرزت انتخابات كانون الثاني يناير 2005، استئثاراً طائفياً شيعياً بمقاعد بغداد في ظل غياب سني واضح، جاءت انتحابات كانون الأول 2005، لتكرس الانقسام الطائفي لضفتي بغداد، سواء بما أثارته من اعتراضات من نتائج في مناطق نفوذ مفترضة، أو بما تمخضت عنه في النهاية من بروز الكيانين الطائفيين: قائمة الائتلاف الموحد الشيعي، وجبهة التوافق السنية، في مقابل توصيف المتنافسين للقائمة الثالثة من حيث عدد المقاعد في العاصمة القائمة العراقية ذات الإطار العلماني بأنها مسعى بعثي، الى إقامة"جمهورية البعث الثالثة"على رغم ضمها مرشحين عن الحزب الشيوعي ألد أعداء البعث في كل حقب الصراع السياسي في العراق. تقاسم قائمة الائتلاف وجبهة التوافق غالبية مقاعد بغداد يرسخ ملامح الخطر أكثر من رسمه لصورة التعايش الهش بين الكيانين. بين هذا التنازع الطائفي في العملية السياسية، وتداخل إدارة الاحتلال بخلق تجاذب سياسي، ووجود مقاومة مسلحة، تحتدم في بنية المجتمع الناصلة نوعاً ما عن التفاعل الحقيقي مع الطبقة السياسية، تأثيرات يومية خطيرة تشكل بغداد وضواحيها ساحتها الأرحب، فأمارة أبي مصعب الزرقاوي التي كان ينوي إعلانها في غضون العام الحالي قبل أن يقتل في أحد ضواحي تلك الإمارة ذات الحدود الغامضة، وشركات الاحتكار المستثمرة في مناطق الخطر، والميلشيات الملثمة بثياب الدولة، والمجتمع المدني المفقود باسمه ونعته، كلها بؤر نموذجية للتلاقح البغيض لتلك التأثيرات في هذه الحاضنة الكبرى: بغداد. بيد أن إمارة الزرقاوي لن تنكسَّ راياتها بمقتله، بل سترتفع مع انطوائها رايات أخرى تزيد المشهد اضطراباً، فلا يمكن للأمارة أن تؤول بسهولة إلى سلف محدد بين هذا الحشد من المبايعين المجتمعين من بقاع شتى على أرض الرافدين، والأمر لم يعد يتعلق بتنظيم القاعدة وحده، فهناك مجلس شورى المجاهدين، بفصائله المتعددة، التي اضطر الزرقاوي قبل مقتله الى إخضاع إمارته لولاية تلك الشورى"القلقة". الفكرة الأساسية ولعلها الوحيدة التي ستعقد لواء البيعة للأمراء، هي إقامة الإسلام الصافي الذي يقوم أساساً على التطهير الطائفي الداخلي. لا شك في إن الزرقاوي حال أخرى لا تتعلق بالمقاومة، وإنما بدفع الفوضى إلى أقصى ما يمكن من عنف لا تمييزي، وهذه الحال المجاورة والمتداخلة على فكرتي الاحتلال والمقاومة جعلت من المعادلة مشوهة الحدود، والأرجح أنها ستستمر حتى بعد مقتل الزرقاوي، ذلك أن هذه الحال، هي عهد أو فصل في الحرب الأهلية، وليست نهاية مرحلة كما يتفاءل البعض. إنها تماماً مثل إسقاط تمثال صدام أو اعتقاله أو محاكمته. لقد قتل الزرقاوي أخيراً، لكنه على ما يبدو أنجز مهمته، وفي إمكان الأمور السيئة أن تمضي من دونه. وبالنظر إلى محيط بغداد يمكننا رسم معالم تقريبية تفسر هذا الإيقاع غير المنضبط لنمو شروط الحرب الأهلية والتباسها بالعنف الطائفي، فبوجود الفلوجة في الغرب، وبعقوبة في الشرق، وسامراء في الشمال، والمدائن في الجنوب، وفي أجزاء محيط هذه الدائرة باتجاه الفرات حيث مناطق اليوسفية، حتى تضيق الدائرة عند خان بني سعد واليرموك والضلوعية وحتى في التجمعات السكانية المتداخلة ما بين مجمل الرصافة ومجمل الكرخ ما بين الكرادتين كرادة مريم والكرادة الشرقية نجد دائرة متموِّجة لا يمكن عزلها ولا تنظيفها طائفياً إلا بالعنف والتهجير القسري، وهو ما يجعل من خلق ديموغرافيا صافية، في جانبي بغداد، فكرة لا تمرُّ إلا عبر حرب حقيقية، وليس في استمرار التصفيات على الهوية، وفي إيقاع القصاص والثأر بهذا الجانب أو ذاك. الرسائل التي يجدها المواطنون عند مداخل بيوتهم أو حتى تلك الملصقة على أبواب المنازل بپ"فرمانات"أضحت مألوفة، للرحيل عن الحي بقصد تنظيفه من"الأغيار"وفكرة الأمن الذاتي التي تمارس في العديد من المناطق، ثم التبليغات المضادة المصحوبة بالتهديدات هي الأخرى بعدم ترك الحي تحت أي ظروف، كلها تبدو استعدادات لتلك الحرب، بيد أن ظهور أسلحة الهاون والكاتيوشا في هجمات تشن على بعض المناطق في بغداد أخيراً، يشير إلى مرحلة ما بعد السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية اللاتمييزية، ففي هذه العمليات لم يكن من يستهدف الجموع يميز بين الشيعي والسني حتى وهو ينفذها داخل حي يعرف بلون طائفي محدد،"الهاونات والكاتيوشا"تنقل العنف من حيز الأفراد إلى مجال الجماعات. إنها الجغرافيا البشرية المتخلخلة، وإعادة تمركز الجماعات في"غيتوات"جديدة تتطلب تدرجاً في دراما العنف التي لا يبدو أن ثمة من يعمل على إبطائها حتى الآن، بعد ذلك لن نستغرب مشهداً يتدبر عناصره من هذا الواقع في سيناريو تنمو تفاصيله بالتدريج كذلك: راية على الطرف الشرقي لجسر الأئمة وأخرى على الطرف الآخر منه، قناصون عبر مآذن الأعظمية أو قباب الكاظمية في مشهد ربما يأخذ شكل القتل"المقدس"أو طقس الواجب الشرعي، والدفاع عن الطائفة كي تبدو هي"الناجية"الوحيدة حقاً! مدافع هاون تستفيد من طرفي جسر الشهداء لرسم إحداثياتها، مسلحون على طرفي الجسر بين الدورة وبغداد الجديدة، لا يتحرك الرصافيون نحو الكرخ ولا الكرخيون نحو الرصافة، إلا بإذونات محلية من أطراف في هذا الصوب أو ذاك، أو بباجات معينة تشبه تلك الباجات التي يجرى التحرك بها في معظم مناطق بغداد التي تضم الوزارات والمؤسسات الحساسة، ولا سيما المنطقة الخضراء. مغاوير الداخلية وقوات الحرس الوطني ضمانتان احتياطيتان لتنظيمات علنية قادرة على الدخول في الحرب في أي وقت، وليس لمنع وقوعها! لقد أصبح بناء الوزارات وفق المحاصصة الطائفية نوعاً من استعداد السلطة لتكون طرفاً في تلك الحرب! مزارعون من ديالى والأنبار يُختطفون في بغداد، لمجرد أن لوحات سياراتهم تحمل رقماً مسجلاً في إحدى المدن السنية، وهم رهائن في مقابل إطلاق سراح أعضاء منتخب التايكواندو الشيعة الذين اختطفوا في المناطق السنية. الكرادة المقسومة إلى كرادتين، بجسر معلق، تصبح كرادتين مقسومتين في شكل يحدد مناطق نفوذ السلطة ومناطق غياب ذلك النفوذ أو التحرك الحر لسرايا العنف: فكرادة مريم حيث المنطقة الخضراء، تنزل عليها قذائف الهاون في شكل عشوائي والكرادة الشرقية حيث أحد المراكز التجارية، ساحة لزرع العبوات الناسفة ولركن السيارات المفخخة أو اقتحامها للتجمعات البشرية. في أكثر مناطق بغداد أمناً يجرى اليوم تفتيش راكبي الباصات بما حملوه من أكياس وحاجيات، قبل صعودهم، إجراءات أمنية محلية أين منها إجراءات المطارات العالمية، تُتخذ على خطوط النقل الداخلية بين الأحياء السنية والشيعية على حد سواء، فكثيراً ما يترك شخص عابر أو مندسٌّ كيساً تحت المقعد لينفجر بين الركاب بعد نزوله بقليل. المطاعم والمقاهي والدوائر الحكومية والمحال التجارية، وحتى المنازل صارت مستودعات لعبوات مجهولة تنفجر في أي لحظة. لم يعد الأمر متعلقاً بمثلث الموت، أو طريق الذبح بين بغدادوالمحافظات المتاخمة للعاصمة، ضاقت الحلقة بما جعل بغداد نفسها أحياء للموت اليومي. ليست بغداد بهذا المعنى، سوى حاضنة لتلك الموجات العنفية الواردة إليها من مصادر مجاورة وبعيدة أحياناً، إنها ساحة, ووصف الساحة هنا لا يعني أن إمكاناتها ذاتية تماماً في إدامة العنف الطائفي، ما تشهده خاصرة بغداد وأطرافها من المحافظات المتاخمة يفسر شيئاً من فكرة الساحة. لن تكون محاصرتها من كل الجهات ممكنة تماماً على رغم أن المحيط الذي يبدو سنياً في الظاهر هو جهة واحدة فحسب، تسمح فقط بإدامة التماس بين بغداد الغربية من ناحية الكرخ وبغدادالشرقية من ناحية الرصافة. قد يشكل الشمال والغرب عمقاً للكرخ، فيما لن تستطيع بعقوبة وحدها أن تخلق مثل هذا التماس الحيوي مع الرصافة، ليس لأن إيران قريبة من هذا المحور فقط، بل لأن"بستان بغدادالشرقية"ديالى ستبدو بعيدة تماماً من بغداد الغربية وعمقها الشمالي الغربي، وهي غير صالحة أن تكون مسرحاً لغيتو طائفي، في وجود تماس قومي مع مناطق كردية متداخلة معها، كما إن الجنوب بوجود سلمان باك"المدائن"المختلطة طائفياً سيشكل عمقاً لبغداد واتصالاً مع الجنوب من خلال الكوت، حيث بدرة وجصان أقرب نقطة تماس بين الحدود الإيرانيةوبغداد. دجلة الذي قسم بغداد منذ البداية قادر وحده أن يكون حداً ما بين بغداد الماضي وبغداد المستقبل على أن الجسور لن تشكل أكثر من بوابة يسهل السيطرة عليها وفق خطة أمنية. لن تنجو المنطقة الخضراء من تأثيرات انتشار الفتنة على الجهتين، بل لعلها ستكون منطقة عمليات لإدارة تلك الفتنة على الأرض مثلما أدارتها سياسياً. تبقى مناطق مثل الثورة"الصدر"أو العامرية على سبيل المثال قواعد لوجستية للدعم في معارك تزحف نحو المسافات الضيقة والمتداخلة طائفياً. هذا السيناريو المفجع ليس متخيلاً تماماً، بل إن الخيال أضعف نقطة فيه، إنه تماماً ما يحدث الآن في بغداد ومحيطها، بعد ثلاث سنوات من انهيار الاستبداد تحت قوة الاحتلال. على أن الأنهار التي تجرى بين المدن لا تقسمها عادة إلا لكي تجمعها في مياه واحدة وهي هبة الطبيعة التي تكوِّن طينتَها المشتركة وخميرة مجتمعها المتضامن، لكن الجسور الهشة التي بناها البغداديون بين الضفتين، لن تجمع أهالي بغداد في طينة تلك المياه بل تفرقهم بين الكرخ والرصافة. بغداد الغربية وبغدادالشرقية بين بن الجهم والسياب وقف الشاعر العباسي علي بن الجهم في القرن التاسع الميلادي - الثالث الهجري، على جسر بغداد، ليتغزل بامرأة عابرة ويجعل من بيته واحدة من العلامات الأثيرة لبغداد حقاً، لكن بيت علي بن الجهم كان في الواقع مرثية مضمرة لبغداد، ذلك إن العاصمة البديلة سامراء كانت بدأت تسلب بغداد ما تبقى من سحرها... ومع أن ظاهر البيت استهلال غزلي تقليدي، إلا أن القصيدة تتجه بغرضها الأساسي نحو مدح المتوكل، أول خليفة تبدأ خلافته في سامراء، وأول خليفة يبدأ في عهده تحول الدولة نحو تبني الثقافة الطائفية، بعد أن ظلَّ الأمر حتى ذلك العهد مذهباً فقهياً أو اتجاهاً سياسياً يقوم على نوع من الصراع السياسي بين نخب بعينها، ولا يصل إلى حدِّ التنابذ والقمع المبرمج وإنكار الآخر، وشيوع الفتن بين الجماعات كما حدث في عهد المتوكل. عيون المها بين الرصافة والجسر... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري... لكن مجتلباً غير الهوى، وعيوناً غير عيون النساء المحجبات، راحت تعبر جسر دجلة، لتنسج الفتن من كرخ بغداد إلى سامراء. بعده بأحد عشر قرناً وقف السياب القادم من البصرة، على الجسر الذي تغيرت أسماؤه مرات عدة، ليحرّف شطراً في بيت ابن الجهم عيون المها بين الرصافة والجسر ثقوب رصاص رقشت صفحة البدر. ولأن السياب عاش في سياق ثقافة تقوم على التصادم بين الإيديولوجيات، وعلى صراع حزبي فئوي كانت بغداد مسرحه الرحب خلال الخمسينات والستينات، تحولت الجسور وقتها على رغم كونها مجرد ممرات ضيقة على دجلة، إلى ساحة تاريخية للكثير من الوقائع ولثقوب رصاص، أكثر من كونها مكاناً للتغزل بعيون العابرات فوقها. هل هي المسافة بين الغزل العربي التقليدي، وبين صور السياب المأسوية المبتكرة؟ أم هي جذور الثقافة الطائفية التي تبدو وكأنها البنية المضمرة والمحركة للحياة السياسية، أم هو تاريخ من العنف مرَّ على بغداد منذ القرن الثالث الهجري فجعل من شطر بيت شعري ومن الشعر كله يتقلب في أنهار من الإرث الثقيل وما حملته المياه من ذكريات للعنف السياسي والعنف الطائفي معاً؟ صورة بغداد اليوم، تبدو متشظية حقاً، ليس فقط ما بين الرصافة والجسر، وإنما بمحيطها الذي فشلت كلُّ الجسور وعبر قرون عدة، في صوغ صورة متصلة للعاصمة يعتصم بها مجتمع مدني أو على الأقل أهلي، لا جماعات متشظية في استعارات شتى. ووسط هذا التشظي لصورة بغداد أصبحت أسطورة خرابها التي يجرى تحديثها من مرجعياتها القديمة المرتبطة بالغزو الخارجي المتتابع على"سرَّة الدنيا"وبتعاقب الأمم والإمبراطوريات البعيدة وحتى الممالك المجاورة، طاغية على مشهدٍ لخراب آخر، أعني خراب بغداد الداخلي: خرابها بيد أهلها: ساكنيها والوافدين إليها، هذا المشهد لم يجرِ تصويره في التحليل الكلي لتاريخ المدينة، على رغم كمونه في تفاصيل ذلك التاريخ بصفته خلاصةً لمحنة البلاد. صحيح أن موجات الغزو من الفداحة ما يجعلها شاهداً على ما عانته بغداد عبر تاريخها، لكن الشواهد المطمورة من الخراب أو قل التخريب الذاتي، ينبغي الكشفُ عنها، أقله في هذه المرحلة التي تجمع فيها المدينة أسطورة خرابها من طرفيها الداخلي والخارجي. مساجد وكنائس وأديرة تخرَّب، وحمامات تتحول إلى اسطبلات وثكنات، ومدارس تهدم، وقيساريات تنهب وتهجر، ومكتبات تحرق، هكذا ظلَّ مشهد هذا التخريب الداخلي محجوباً خلف صورة نمطية مهوَّلة لذلك الخراب الذي أحدثته موجات الغزو. لن نحتاج إلى العودة نحو بيزنطة لحسم الجدل في تنسيب كل من الخرابين، أو مقاربتهما لتفسير الأمر. مما لا شك فيه أن"فتن بغداد"عبر التاريخ ترسخ قناعة أكيدة بأن ما يجرى اليوم في المدينة ليس بدعة في عصر الطوائف، وإنما هو جزء من استجابة لتلك النزعات الهائجة، تلك"الرسالة الخالدة"التي احتقنت طويلاً وأسهم الاستبداد في ضغطها نحو الأعماق، وفشلت الأحزاب والحركات السياسية عبر أكثر من سبعة عقود في تنفيس قهرها الداخلي وتسريب خلودها نحو رسائل أخرى، لتنفجر اليوم بهذه الفداحة التي لا تترك أحداً بمقدوره متابعة مونديال الموت الذي لا ينتهي، فلا يجد أمامه سوى الذهول والعجز عن التفسير. إذ كيف يمكن تفسير أن سنة أولى منذ سقوط الاستبداد، وقيام الاحتلال، لم تكن كافية لإيقاظ تلك الفتن؟ كيف يمكن تفسير سنة ثانية من التصنيفات السياسية، والفرز الاجتماعي، والمحاصصة الطائفية، لم تكن كافية هي الأخرى لإعلان موسم"الحرب الطائفية"العنوان الأبرز لسنة العراق الثالثة من الاحتلال وما بعدها؟ أيضاً كيف يمكن تفسير أن مروحة العنف بدأت دورتها في محيط كبير وغير محدد واتخذت صيغاً عدَّة قبل أن تتركز في هذه البؤرة الخطيرة، وكأنها مجالها الحيوي الذي ظلت تتخبط في تخوم أخرى بحثاً عنه؟ فمنذ التفجيرات المتنقلة، مروراً بعمليات اغتيال المشاركين في العملية السياسية، فتفجير الأسواق والمطاعم والفنادق، المحال وأكشاك مروجي الأفلام الإباحية، وتفخيخ المساجد، عبر خلط المدينة بديناميت متعددة الأغراض، يجرى تدمير كل ما يمتُّ للعاصمة التي تحاول أن تستعيد نفسها بصلة مع صورتها التي لم تعد متاحة.