ليكن معلوماً منذ الآن انه إذا كان العراق متجهاً نحو حرب أهلية، لا سمح الله، فإن الجميع يتحمل مسؤوليتها من عرب وعجم وكرد، من سنة وشيعة، وحتى من عرب غير عراقيين، وفي رأس اللائحة يأتي الأميركيون الذين خططوا لهذه الحرب وهذا الاحتلال وهذا التخبط الذي نشهده الآن. سقط الحياء، ثم سقط الحرم، وها هي المصطلحات الطائفية تهيمن لأن أياً من"العراقيين الجدد"الذين عادوا الى البلد مع الاحتلال وأقاموا سيطرتهم بفضله لم يسع الى تغليب مصطلحات الوطنية. لكن الأخطر من المصطلحات لتسمية الأشياء بأسمائها، أن الواقع السياسي المعاش غرق تماماً في الانقسامات والتمييزات الطائفية منذ الأيام الأولى للاحتلال، بل منذ"الحكومة"الأولى، أي منذ راح الوزراء يعيدون تأسيس وزاراتهم معتمدين التقريب والإقصاء وفقاً للهوية المذهبية. وإذ شذ بعضهم عن هذه القاعدة غير المستحبة فقد استحق اللوم والمساءلة. وعلى رغم التحذيرات مضى أهل الحكم الجديد في هذا التمرين البغيض، ثم أجريت الانتخابات في الظروف والمعطيات التي نعرفها، وبعد الانتخابات صدرت تعليقات وتصريحات تشي بأن الوضع ذاهب الى تظهير الصراع الطائفي وعلى نحو سافر هذه المرة. ليس صدفة أن يكون المدعو"ابو مصعب الزرقاوي"أصبح اليوم"نجم النجوم"في العراق، حتى انه يمكن القول ان هذا القائد الارهابي بات يحكم البلد. هناك من أتاح له هذه القدرة والمكانة. لا بد ان نتذكر بعض رسائله المبثوثة بالانترنت والتي ملأها بالشحن المذهبي ضد الشيعة. لقد جرى التعامل مع هذه الرسائل بردود فعل متفاوتة، إما بسذاجة ولامبالاة وإما بشحن مذهبي مضاد. وفي الحالين كان هناك خطأ، فاللامبالون أتاحوا له زرع تحليله الأرعن للوضع العراقي في ظل الاحتلال، اما الآخرون فقد منحوه"الشرعية"التي يبحث عنها سواء بخطاباتهم أو بممارساتهم. لم يكن"الزرقاوي"يعبر عن"الزرقاوي"وحده. كان يخاطب عراقيين يشعرون بأنهم مرذولون ومستهدفون، فضلا عن كونهم محبطين يعانون من تداعيات هزيمة تاريخية. لم يفطن أحد الى ضرورة الفصل بين"الزرقاوي"وخطابه وبين أولئك الذين يجب أن يكون لهم خيار آخر غير"الزرقاوي"ونهجه الدموي. كانت الخيارات متاحة لو وجد حقاً من يريد انتهازها. وكان هناك دائماً امكان للحوار والبحث عن حلول وسط لو وجد حقاً من يريد الاهتمام أو من يهجس بالمستقبل. على العكس، اندفع البعض بكثير من قصر النظر والتهور الى ما سماه"اجتثاثاً"، لكنه في غمرة حمأته ل"اجتثاث البعث"راح يجتث كل من لا يبدي استعداداً للاستزلام للمجتثين. وبعد مرحلة من التصفيات بالقتل أو بالاقصاء أدت الى استعداء كثيرين ممن كانوا في خدمة الدولة سواء كانت بعثية أو غير بعثية، جاءت مع حكومة اياد علاوي مرحلة محاولة تأهيل من نجوا من الاجتثاث أو كانوا مرشحين له، ومع حكومة ابراهيم الجعفري بدأت مرحلة العودة الى قص الرؤوس. لعل هذا ما استدعى ملاحظة كوندوليزا رايس، في زيارتها الاولى لبغداد عبر كردستان العراق، بوجوب الانفتاح على الجميع، مما عنى ضرورة التفكير في الاستفادة من بعض رجالات النظام السابق غير المتورطين في تصفيات دموية. ترافق مع ذلك كلام في صحف اميركية عن قنوات اتصال بين الاميركيين والبعثيين المنخرطين حالياً في المقاومة. وسواء كان هذا الاتصال صحيحاً أم لا، تجدر ملاحظة انه جاء متأخراً جداً، وبعد سلسلة من الترتيبات التي أقدم عليها"العراقيون الجدد"، تحت نظر الاميركيين، لبلورة معالم النظام الجديد على خلفية إقصاء كامل وناجز لكل وجوه النظام السابق. لم يتنبه أحد، أو بالأحرى لم يشأ ان يتنبه، الى ان نظام صدام لم يكن يستند فقط الى القتلة والمجرمين بل أخضع الشعب كله بسنته وشيعته وكرده، قبل ان يتيح الأميركيون للأكراد أن يخرجوا شيئاً فشيئاً من القوقعة ويضعوا لأنفسهم حياة بمعزل عن بغداد. تلك الترتيبات التي عبر عنها"قانون ادارة الدولة"كانت حاسمة في ايجاد أسباب ودوافع ل"حرب اهلية". الى الشيعة والاكراد، كان هناك طرف ثالث رابح من ذلك القانون، انه"الزرقاوي"وما يمثله ومن يعمل من خلاله. وبالأمس فقط صرح رئيس البرلمان العراقي بأن معظم مواد الدستور العراقي الجديد سيؤخذ من"قانون ادارة الدولة". هذه وصفة لم يكن"الزرقاوي"ليحلم بها، لأنها تمدد"الترخيص"الذي يعمل بموجبه. وفي الوقت الذي كان رئيس البرلمان يتحدث على هامش المنتدى الاقتصادي العالمي في البحر الميت، كانت وكالات الأنباء تسجل ازدياد أعداد الشيعة الذين ينزحون من"مثلث الموت"القريب من بغداد"هرباً من التهديدات والاضطهاد". قبل ذلك حصلت موجات نزوح صامتة للسنة من مناطق أخرى للأسف، اصبح كل من استبعد الحرب الأهلية أو الطائفية في العراق مضطراً اليوم للاعتراف بأن الواقع آخذ في تكذيبه. فما كرسه"قانون ادارة الدولة"من تقاسم للنفوذ والامتيازات، يبدو ان العنف ماض في ترجمته على الأرض والشعب. ثمة عمل لا يزال متاحاً لمن يريد أن يفكر ويتصرف ب"وطنية". والغريب اننا لا نرى"الزعماء الروحيين"مهتمين أو مقبلين على أي مبادرة يمكن ان تهدئ النفوس وتوقف هذا الانزلاق اليومي الى مواجهة طائفية لن تقدم أي حل للمأزق الذي يعيشه العراق.