طالب الرفاعي واحد من جيل الروائيين الجدد الذين استنارت بهم منطقة الخليج والجزيرة العربية. وهو في ذلك يتناغم بإبداعه مع روائيين من أمثال تركي الحمد ويوسف المحيميد ورجاء عالم في السعودية، كما يكمل المسيرة الصاعدة للرواية الخليجية - إذا جاز أن أستخدم هذا الوصف - بتسليطه ضوء السرد على وطنه الكويت، كاشفاً عن علاقاته وأبنيته التقليدية، خصوصاً ما تنطوي عليه هذه الأبنية من رواسب جامدة وتقاليد بالية، تعوق التقدم من ناحية وتغرق الكائن الإنساني في شروط الضرورة من ناحية ثانية. وإبداع طالب السردي عموماً هو كتابة ضد الضرورة، ومحاولة إبداعية لانتزاع حرية الكائن على مستويات كثيرة. ويبدو أن جسارة رؤية العالم التي ينطوي عليها هي الأصل في ميله إلى الخروج على الأشكال المألوفة في السرد، والخوض في دروب المغامرة التي لا يزال يرودها، منذ أن أصدر مجموعته الأولى سنة 1992 والثانية 1995 عن دار الآداب في بيروت، وروايته الأولى"رائحة البحر"2002 عن دار المدى في دمشق. وتبرز رواية طالب الثانية"سمر كلمات"تمكنه من أدواته وانطلاقه في أفق التجريب، فاختار قالب رواية الأصوات المتعددة بناء لروايته، لكنه مضى خطوة أبعد فجعل من نفسه - بصفته روائياً - إحدى شخصيات الرواية التي تتحاور وتتقاطع مع بقية الشخصيات، معلناً عن اسمه ومهنته الوظيفية وطموحه الروائي في آن. وذلك كله على نحو يذكرنا بالمؤلف الذي يبحث عن شخصياته، أو الشخصيات التي تبحث عن مؤلفها. ولذلك تتحول الرواية إلى رواية داخل رواية، أو رواية عن الرواية، وذلك بما يدخلها دائرة الرواية الشارحة، أو الميتارواية. وهي الرواية التي تزدوج فيها دلالة الإشارة، فتشير إلى العالم الذي توازيه، أو تواجهه، من ناحية أولى، كما تشير إلى الكيفية التي تنبني بها، وسر اللعبة السردية التي تقوم عليها من ناحية ثانية. وهي لعبة يكشف سرها المؤلف الذي أصبح أحد أبطال الرواية مرتين على الأقل. الأولى حين يحاور ريم الواقعية التي يسعى إلى جعلها شخصية روائية، موازية للواقع وليست إياه، فيخبرها بأنه يريد أن يكتب رواية أصوات تتحدث على نحو متوازن، وأن الزمن الآني لأحداث الرواية مدته عشرون دقيقة تقريباً، وأن فصول الرواية تدور أكثر أحداثها متزامنة في طرقات الكويت. والمرة الثانية عندما تتحدث ريم الشخصية الروائية عن طالب الذي استحال من شخص فعلي إلى حضور روائي، سائلة إياه عن حضور سمر وسليمان اللذين تدور حولهما الرواية، وهل هما شخصيتان حقيقيتان، فيجيبها بأنهما حقيقيتان في عالم الرواية، نتيجة علاقة متخيلة بين مؤلف وشخصية. وعندما تكشف اللعبة السردية عن نفسها على هذا النحو، مبينة عن قواعدها، فإنها لا تضع بينها وبين القارئ ستراً من الوهم الذي ينطوي على ادّعاء مشاكلة الواقع وتتيح للقارئ رؤية مزدوجة للازم والملزوم بمعناهما الكنائي، أو المجازي والحقيقي اللذين يتلاعب السرد على المسافة الفاصلة والواصلة بينهما. ولكي لا يحيل الكشف عن قواعد اللعبة قراءة الرواية إلى عملية معروفة نتائجها سلفاً، فيتمكن القارئ من توقع الخاتمة، قبل حدوثها، يستعير الكاتب حيل التشويق من الرواية البوليسية، ولكن من غير أن يتماس وإياها، فيدفع القارئ إلى السؤال في كل فصل: وماذا بعد؟ ويظل يغويه بالمتابعة التي تريد الوصول إلى نهاية المجازات السردية للوصول منها إلى الحقائق التي تنطوى عليها أو تشير إليها، وذلك داخل إيقاع متسارع، لا يخلو من التوتر الذي يبي على حيوية السرد. والنتيجة رواية متعددة الأصوات، مبنية على عشرة فصول، تنطق فيها ست شخصيات، وتتحرك في الوقت الذي لا يجاوز عشرين دقيقة، ما بين نقطتي انطلاق ووصول، داخل زمن بندولي، يترجَّع ما بين حاضره وماضيه، وذلك في الفضاء السردي الذي يضم عشر شخصيات، ذات صلة بالحدث الرئيس الذي يبرز شخصيتي سمر وسليمان بصفتهما شخصيتين محوريتين، ينسج السرد خيوطه من العلاقة بينهما وبقية الشخصيات، مع تركيز ذي دلالة على شخصية سمر التي يشير إليها عنوان الرواية، موصولة بالكلمات التي تشير إليها من حيث هي نموذج ممكن، في واقع محاصر بشروط الضرورة التي تشبه جدران السجن، ومن حيث هي مخايلة سردية، تلفتنا طبيعتها المجازية إلى علاقات تركيبها من حيث هي شخصية روائية، أو حقيقة روائية لا تتطابق بالضرورة مع من يشبهها أو تشير إليه على سبيل الموازاة أو التمثيل السردي في عالم الواقع الفعلي. ويؤدي التركيز على الشخصية النسائية دوره في الرواية على كلا المستويين، مؤكداً أشكال القمع الواقعة على المرأة، في مجتمع تنبني تقاليده وأعرافه الجامدة على التمييز ضد المرأة، والانحياز إلى الرجل الذي يظل هو الأعلى في البنية البطريركية التي تغدو فيها المرأة أدنى وأهون قيمة من الرجل في كل الأحوال. ولذلك نسمع صوت سمر ثلاث مرات، عبر ثلاثة فصول في الرواية، محتلة ما لا تحتله الشخصيات الأخرى في الفضاء السردي، وذلك في مقابل بقية الشخصيات جاسم، دلال، ريم، سليمان التي ينبسط صوت كل منها على فصل واحد. وذلك في الوقت الذي تغيب عن الحضور المستقل شخصيات ذات علاقة بشبكة السرد عبير، سهى، ألطاف، أبو خليفة لكنها ليست فاعلة فيه مثل الشخصيات التي تنتقل من الغياب إلى الحضور فنسمع صوت كل منها: إما ثلاث مرات سمر أو مرتين طالب ، أو على نحو غير مباشر، عبر غيرها من الشخصيات التي نسمع تداعياتها الواصلة ما بين ماضيها وحاضرها، وفي إيماء إلى مستقبلها ريم. هكذا، تتكون الرواية بنائياً من ستة أصوات متزامنة لست شخصيات، تدور حول الشخصيتين الأساسيتين، وتؤدي أدوارها في البناء على سبيل التوازي، أو التقابل، أو الإضاءة، أو حتى الإكمال. ويغدو حضور الروائي نفسه طالب الرفاعي - بصفته شخصية روائية، مقترنة بما يماثلها تخييلاً - لا يفترق كثيراً عن الحضور التخييلي لريم، فكلتا الشخصيتين موازية لنظيرها الذي يشبهها، وتؤديان معاً دوراً أشبه بدور المرآة التي تجتلي فيها الشخصية المتخيلة حضورها، فتزداد إبانة في وعي القارئ الذي تتعمد الرواية إبطاء إيقاع التقائه بالحدث الأساسي فيها، مؤكدة بتعدد أصوات شخصياتها نسبية الحقائق التي تتجسد بها، خصوصاً من حيث الكيفية التي يختلف بها منظور كل شخصية إلى الحدث نفسه الذي تسهم في صنعه أو تدور حوله، عاكسة إياه من زوايا مغايرة، تتيح لوعي القارئ أن يراه تحت أكثر من ضوء، وفي أكثر من منظور. أما التقابل فيبدو ظاهراً في التضاد بين الشخصيات التي تتحول إلى شخصيات متعادية كالعلاقة بين الأختين عبير وسمر، أو الشقيقتين اليافعتين: دلال وسهى. ويؤدي التضاد دوراً لا يقل أهمية عن التوازي في علاقات البناء الرأسية، حيث تتحرك الشخصية البؤرية سمر مقتربة من أشباهها، متصارعة مع نقائضها وأضدادها، سعياً وراء تحققها الخلاّق الذي تصل إليه، أخيراً، بعد تخبط، وبعد أن تتعلم من دروس إخفاقها المتكرر، ما يؤدى بها إلى اكتمال الحضور المتمرد - في النهاية - على المجتمع الذي يخنق الحضور، ولا يكف عن وأده، إبقاءً على ثبات البنية البطريركية التي لا تسمح بأي خروج عليها. وسواء كنا نتحدث عن علاقات التوازي أو التقابل في الرواية، فنحن نتحدث عن علاقات ينجذب فيها الشبيه إلى شبيهه في علاقة مشابهة لا تدني بطرفيها إلى حال من الاتحاد، وإنما يضيف فيها كل طرف ما يضيء شبيهه، تماماً كما يفعل المشبَّه به مع المشبه في البلاغة القديمة. وفي الوقت نفسه، نتحدث عن علاقات يظهر فيها الضد ملامح ضده بما يحيل التضاد إلى نوع من الإبانة التي يكشف بها التضاد عن كلا طرفيه. هكذا يبدو غياب عبير التي نراها بأعين الشخصيات الأخرى مضيئاً لحضور سمر التي تمثل النقيض بالنسبة الى الأخت والشبيه بالنسبة إلى الصديقة ريم. وإجمالاً، لا تخرج علاقات التوازي والتضاد عن الوضع الرأسي لعناصر البنية التي تتجاور على سبيل المشابهة أو المخالفة، لكن هذا الوضع الرأسي لا تكتمل سرديته إلا بما ينطوي عليه من دوال تنبسط دلالاتها أفقياً، وبما يصل بين الشخصيات المتجاورة رأسياً. وأولى هذه الدلالات اجتماعية، ناتجة معن انقسام المجتمع التقليدي الذي تسعى الرواية إلى تعريته، والتصدي له بالكشف عن مثالبه إلى"الأصيل"معروف الحسب والنسب والمال، مقابل"البيسري"الهجين الذي لا يمكن الاعتراف به كفوءاً للأصيل، فيظل أدنى منه قيمة ورتبة، وذلك على نحو تترادف فيه الهجنة مع المثالب التي يتجسد بها، دائماً، حضور البيسري. وهي ثنائية قمعية، لا تزال علامة على مجتمع لم يفارق أصوله القبلية، ولا يزال يمايز بين أفراده، حتى في نوع"الجنسية"ودرجاتها، مناقضاً - في وعيه الشعبي الذي تمثله الجدة - معنى حقوق الإنسان من ناحية، والجوهر النقي للدين الإسلامي الذي لا يمايز بين مسلم ومسلم إلا بالتقوى، لا بالأصل أو الثروة. ولا يختلف هذا التمييز الاجتماعي الذي يصل بالعلاقة بين الطوائف والأفراد في بنية التراتب القمعية عن التمييز الموازي في البنية نفسها. وهو التمييز الذي يعمل ضد المرأة عموماً، ويؤكد بلسان إحدى شخصيات الرواية أنه"ليس من امرأة مرتاحة"وپ"الرجل لا يهمه شيء، ولا يفكر إلا بنفسه ومتعه". وهي كلمات يتجسد بها وعي نسائي مقموع، ينطوي على رغبة التمرد على كل ما يحيل المرأة إلى تابع ذليل، وكل ما يحدد لها حياتها سلفاً، من دون أن تملك حرية الاختيار أو قدرة الفعل الاجتماعي، فتتحول إلى شخصية مسكونة بالهواجس والخوف من أن يتركها أو يتخلى عنها الذكَر الحارس كما فعلت دانة، أو التحايل سراً على الأعراف الجامدة بما يتيح لها حرية اختيار من تحب، كما فعلت ريم، وذلك بحيث لا يبقى للمرأة منقذ، حقيقي، سوى التمرد الخلاق الذي تعلنه سمر في كلمات تمثيلها الذي يشير إلى إمكان الوقوع في الخطأ، مرة أو أكثر، لكنه الخطأ الذي يقود إلى نقيضه: الصواب. ويوازي هذا التمييز الاجتماعي، طبقة ونوعاً، ما يمكن أن ينمو في ظله، وتحت حماية تقاليده الجامدة، من تطرف ديني جاهز لأن يتغلغل في المجتمع البطريركي، مقتاتاً بثقافته المتكلسة، واجداً أرضه الممهدة في أوضاع التفكك الأسري، وإهمال الأبناء أو البنات الذين يمكن أن تصطادهم جماعات التطرف الديني وتوقعهم في شباكها. وليس حضور سهى ابنة عبير في الرواية سوى إنذار بخطر مجموعات التطرف الديني المنظمة على الأجيال الشابة في المجتمعات التقليدية المغلقة، شأنها في ذلك شأن أبي خليفة الذي عاد من الولاياتالمتحدة بلحية سوداء تلفّ وجهه، مخفياً زوجه وراء حجاب أسود يمتص نضارتها، ناشراً التزمّت حوله، بعيداً من سماحة الإسلام الذي هو دين العلم والمدنية - إذا استخدمنا عنوان أحد كتب الإمام محمد عبده. وبقدر ما تتضافر الدلالات الأفقية في اتجاه نقد المجتمع الكويتي الذي تتولى الرواية تعريته بجسارة، لا أظن أنها مسبوقة في الرواية الكويتية، تتضافر العلاقات الرأسية الواصلة والفاصلة بين الشخصيات التي تتحول إلى نماذج دالة على المجتمع، ومشيرة إلى سلبياته، من زاوية النقد الذي يهدف إلى البناء، ويسعى إلى القضاء على شروط الضرورة، في الوقت الذي يسعى إلى تثوير شكل الرواية الكويتية لتجسيد تثوير النظر إلى واقعها الذي تلفتنا إليه بقدر ما تلفت الانتباه إلى نفسها. وهو تثوير يشفع للرواية ما يمكن أن نلاحظه من جزئية سلبية هنا أو سمة سلبية هناك في بناء أصواتها أو تسليط الضوء المتكافئ على شخصياتها.