حينما يشرع كاتب في تأليف رواية ينبغي عليه، من أجل الوفاء بشروط الكتابة السردية، مراعاة الشروط الآتية، وإلا فسد عمله، ولم يحقق ما يريد: الاهتمام بالبناء النفسي للشخصيات، والتدقيق في رؤية الشخصيات للعالم الافتراضي الذي تعيش فيه، ومراعاة اللوائح السردية، والحرص على بناء النواة السردية الصلبة في روايته، وإليكم تفصيل ذلك: يضفي البعد النفسي للشخصية الروائية معنى على دورها، وعلاقاتها بالشخصيات الأخرى، ويمنحها خصوصيتها داخل العالم الافتراضي الذي يخلقه السرد، وصار من المعلوم أنه يجب على الكاتب مراعاة شكل الشخصية، واسمها، ثم مجموعة الأفعال التي تنهض بها، ودورها، وأخيرا ملامحها الفكرية، فلا يجوز تجريد الشخصية من هذه المقومات وإلا أصبحت باهتة لا تحدث تفاعلا لا مع الشخصيات الأخرى داخل النص ولا مع المتلقين في المجتمع الأدبي. فكلما جرى الاهتمام ببناء العمق النفسي للشخصية ارتسم دورها في ذلك الفضاء المجازي، وتضفي رؤيتها للعالم خصوصية عليها، فلا تضيع وسط الشخصيات الأساسية أو الثانوية، إن ما تتفرد به شخصية ما هو ما تنطوي عليه من رؤية خاصة للعالم الذي تتحرك فيه، وكلما أثرى الكاتب شخصيته برؤى متفردة أمكن لها ان تكون عنصرا فاعلا في البنية السردية. ليس من الفائدة، في تقديري، الانجراف وراء مظاهر التجريب الباهتة التي احالت الشخصية إلى ضمير مبهم، وشاحب، كما ظهر ذلك في الرواية الفرنسية الجديدة في ستينيات القرن العشرين، فتلك من النزوات العارضة التي لا تثري الكتابة السردية بشيء ذي قيمة، فكلما ارتسمت للشخصية هوية خاصة، كائنا ما كانت محمولاتها الفكرية، فإن ذلك يمدّ جسور التواصل مع المتلقين الذي ينشّطون الشخصية بقراءاتهم التأويلية الخاصة بهم. إن المتلقّي، بالتأويل، هو الذي يطلق الشخصية من فضائها الافتراضي ويحطّ بها في الفضاء "الحقيقي". ولجوء الكاتب إلى تجريد الشخصية من هويتها يعطل الفاعلية التأويلية عن المتلقّي، الذي لا يهمه أن يستمتع بالعالم السردي، فحسب، إنما يهمه، فوق ذلك، أن يفهم عالمه بقرينة سردية، فوظيفة الأدب لم تشهر إفلاسها بعد، ومازالت وعوده كثيرة في عالم تتفاعل فيه الهويات الفردية والجماعية. ما من رواية في تاريخ السرد استأثرت بالتقدير الحقيقي إلا وكانت لشخصياتها العمق، والموقف، والرؤية، بما يتيح للمتلقي مدّ كل ذلك مع عالمه هو، فالعالم الموازي الذي يصطنعه السرد يتغذّى، بالتأويل، من مكونات العالم الحقيقي، وما القارئ إلا الوسيلة الرابطة بين العالمين، والمنشّطة لهما، وكلما كان المتلقّي عارفا بالعالم الافتراضي، وعارفا بالعالم الواقعي، أصبحت وظيفة التأويل مهمة، ولا قيمة لعالم افتراضي خامد بين صفحات كتاب، ولا أهمية لعالم واقعي رتيب يعيش فيه المتلقّي، إنما تنبثق الأهمية من طبيعة التمثيل الذي يقوم به السرد للعالم الثاني. إن وعيا أصيلا بالعالمين يثريهما معا، ويجعل من السرد وسيلة لاكتشاف الطيات الخفية للعالم الواقعي، فالسرد يختزل أو يتوسّع، يطمس أو يكشف، يظهر أو يخفي، كل ما يرى بأن أعرافه تمكّنه من الاستئثار بالعالم الواقعي لكنه لا يهدف إلى نسخه أو وصفه أو عكسه. إن رؤية الشخصية للعالم تثري أعماقها، وتجعل منها محورا أساسيا تنجذب الأحداث إليه أو تصدر عنه، فلا يجوز أن تبقى الشخصية مبهمة في العالم الافتراضي إنما ينبغي لها أن تنخرط فيه فاعلة أو مفعولة، سواء أكانت إيجابية أم سلبية، مركّبة أم مسطحة، فوظيفة الشخصية في الرواية القيام بالأفعال أو التأثر بها، فرؤيتها تحدد طبيعة استجابتها، وتقرّر نوع المشاركة التي تقوم بها، وهي المانحة لشرعية الأفعال السردية، وتأتي مراعاة اللوائح السردية لتربط الرواية بالشرط التاريخي العام، فاللوائح السردية تحيل على المرجعيات الداعمة لمجمل الأحداث في الرواية، وهي التي تضفي نزوعا واقعيا على الأحداث والشخصيات لأنها ترسم الخلفية التي تتحرّك فيها الشخصيات، وطبيعة الأفعال التي تقوم بها. لا يجوز إهمال دور اللوائح السردية في الكتابة الروائية لأن ذلك يترك الشخصيات والأحداث عائمة في عالم شاحب لا مرجعية تفسيرية له، وتتجلّى اللوائح السردية بعدد وافر من الأشياء، والمعلومات، وطرز المعيشة، والوقائع، والتقاليد الشائعة، والأعراف السائدة، وباجتماعها تتنزّل الأحداث والشخصيات في حقبة من حقب التاريخ، فأهميتها تتأتى من أنها ترسم الحدود العامة للعالم الافتراضي، وتساعد المتلقّي في تحديد الحقبة التاريخية التي تقع فيها الأحداث، وبالإجمال، تلعب اللوائح السردية دور الإطار الناظم لارتباط الأحداث بحقبة تاريخية معينة. وإلى كل ذلك، فمن الضروري أن تكون للرواية نواة سردية صلبة، تنتهي إليها، أو تصدر عنها، وظائف العناصر السردية كلها. لا أقصد بالنواة الصلبة حدثا جامدا يبنيه السرد بتدرّج، كما هو الأمر في البناء المتتابع للحدث في الرواية التقليدية، إنما أقصد بأن يقوم السرد بتشكيل كتلة سردية من الأحداث المتلازمة التي تصبّ في مجرى كبير يضم الوقائع والشخصيات، فلا مكان للوهن في المفاصل الرابطة فيما بينها، ولا مكان للإسهاب الإنشائي الذي يخرّب قيمة المشهد السردي، أو يعيق حركة الشخصية، إنما يتيح حركة حرة ورشيقة لها ولسواها من الشخصيات أن تعبّر عن مواقفها، وأفعالها، ورؤاها، بأفضل طريقة ممكنة، وبلغة مقتصدة ولكنها كافية، فالتركيز ينبغي أن ينصبّ على الأحداث، والأفعال، والمواقف، والأفكار، وليس على الوصف، والاسترسال، والتغنّي بالعواطف المائعة، والتأملات التي تعيق حركة الحدث، ولا تثري أعماق الشخصية، فحذار من الانبهار بلفظ، والاشتياق الشخصي لجملة، والتغنّي بعبارة، وللحصول على رواية يمكن لها أن تندرج في تاريخ السرد، فيلزم تجنّب الاطناب الإنشائي الذي يفضح عجز الروائي عن حبك الأحداث، وابتكارها، ولا يفيد في إثراء النواة الأساسية في روايته، التي هي مدار السرد.