افتتحت جمعيّة "عُرب" اللبنانيّة يوم أمس مهرجانها الجديد"موسيقى 1"، مع الفنّان مروان عبادو الذي يحيي حفلة ثانية هذا المساء في"أسمبلي هول"الجامعة الأميركيّة. والمحطّة الثانية للمهرجان ستكون مع المغنية الشابة المميّزة ريما خشيش 15 و16 نيسان/ ابريل الجاري... أما مسك الختام فسهرتان مع المنشد الحلبي حسن الحفّار 22 و23 نيسان يمكن اعتبارهما"هديّة"استثنائيّة يقدّمها المهرجان إلى الجمهور اللبناني. و"عُرب"جمعيّة يشرف عليها"مناضل"موسيقي من نوع خاص هو باسل قاسم، وتدافع عن الموسيقى الراقيّة، بكل الوسائل الممكنة حفلات، تسجيلات، صالونات سماع، أرشفة، لقاءات، ندوات، تنسيق بين المبدعين والمنتجين وشبكات التوزيع...، وتعمل بصبر وأناة على مشروع طويل النفس، قوامه اعادة الاعتبار إلى الذوق العام، المعرّض - في مجال الموسيقى والغناء تحديداً - إلى شتّى أشكال التشويه. مساء أمس أطلقت الجمعيّة مهرجانها الجديد مع عبادو. عاماً بعد آخر يعود مروان عبادو إلى بيروت، حاملاً عوده وجراح مراهقة بعيدة لم تندمل. وترجع اطلالته السابقة إلى عام 2004، في"مسرح المدينة"القديم قبل اغلاقه، حيث قدّم برنامجه"لغة أم"بدعوة من الجمعيّة نفسها. والطريق بين منفاه وطنه؟ النمسوي، والمدينة الأولى التي أقام معها علاقة خاصة في ظلّ الوطن المستحيل فلسطين، تختصر ربّما قصّة حياته، ومسيرته الفنيّة بمختلف محطاتها. حين غادر مروان عبادو لبنان قبل عشرين سنة، لم يكن يتصوّر أبداً أنّه سيعود إليه موسيقياً عالميّ الشهرة، متمكّناً من أدواته، مجدداً في ميراثه العربي والشرقي. كان هذا الفلسطيني الذي ولد وعاش في أحد المخيمات اللبنانيّة شاباً في الثامنة عشرة حين ركب طائرة الهجرة إلى النمسا. وفيها تكوّن فنياً، وصقل تجربته الانسانيّة والفنيّة. كان يريد أن يكون عازف غيتار... لكنّه سرعان ما استعاض عنه بآلة العود التي لن تفارقه بعد ذلك. بحث فيها عن نغمات ضاربة عميقاً في ذاكرته، ساعياً الى اعادة تركيب"هويته"الفلسطينيّة والعربيّة... قبل أن يكتشف - كفلسطيني تحديداً - أنّه انسان أوّلاً، ومواطن من العالم. وسيخرج تدريجاً من هذه الثنائيّة بين موسيقى شرقيّة وأخرى غربيّة، ليوجد أسلوبه الخاص، من خلال"جاز شرقي"مسبوك بلغة بسيطة وشفّافة، تقرّبه من أذن المتلقّي في أي بقعة من العالم. هكذا مزج بين الآلات وزاوج بين الايقاعات ليصل إلى موسيقى عصريّة لا تتنكّر لجذورها، وتجاهر بانتمائها الى الزمن والعصر. من العراقي عاصم الشلبي أستاذه الأوّل في العزف على العود، أخذ عبادو تقنيات أساسيّة للسيطرة على فنّه، والتقط تلك النزعة غير المباشرة الى التحليق والسلطنة. ومن عبوره في"معهد شوبارت"الشهير في فيينا حيث صقل موهبته وفتح آفاقه الموسيقيّة، احتفظ بحساسية عصريّة تستند الى قواعد صارمة في العزف والتأليف ومزج النغمات والأصوات. بدأ في العزف مع فرقة نمسويّة ضمّت عازفي ساكسوفون وبايس ودرامز... وبقيت ايقاعات زميله بيتر روزمانيت ترافقه وتتواشج مع نقرات عوده ونفحاته الشرقية إلى اليوم. يشكل الشعر العربي المعاصر مصدر وحي أساسي في أعمال عبادو، وقد غنّى توفيق زيّاد كما غنّى قصائد شوقي أبي شقرا التي يتعانق فيها المجوز مع الترومبيت. كما غنّى قصائد عامية أبرزها من تأليف طلال حيدر"هوا شمالي". وتكتسي أغانيه طابعاً متفرداً في الموسيقى العربية المعاصرة، من خلال هاجس البحث عن علاقة خاصة بين العازف والمستمع، أياً كانت خلفيته الثقافية، وميكانيسمات المزج بين المقامات والتقاسيم العربية، والأشكال الموسيقية الغربية وآلاتها. من أسطوانته الأولى"الدولاب"1994 إلى"مراكب 2001، مروراً ب"ابن الجنوب"1999، غنّى الوطن والذاكرة والهويّة والسفر والغربة والمنفى والمساكين والحنين الى وطن مستحيل: فرض مروان عبادو نفسه على مستوى عالمي واسع، ورأى بعض الموسيقيين والنقاد فيه أحد ممثلي تلك الموسيقى العربية البديلة التي حملها في العالم - وسط تقاليد الوورد ميوزيك - موسيقيون من أمثال ربيع أبو خليل وأنور إبراهم وتوفيق فرّوخ. والفنان الفلسطيني المولود في سنة النكسة، المعتاد على الهجرات والأسفار، حمل معه إلى العالم باقات"مسك وعنبر"و"لغته الأم"وال"قبيلة"وغيرها من مقطوعات وبرامج موسيقيّة، وحقق حضوراً في مختلف المهرجانات العالمية، من ألمانيا وسويسرا وتشيكوسلوفاكيا، إلى بلجيكا والسويد وايطاليا، مروراً بالجزائر وفلسطين موطنه الأصلي الذي تفصله عنه أسلاك شائكة وجدران... وما زلنا نذكر كيف ردّته سلطات الاحتلال عام 2003، غير آبهة بجوازه النمسوي وتأشيرته القانونيّة، باعتباره"يشكّل خطراً على أمن دولة اسرائيل"، ما حال دون مشاركته في"مهرجان يبوس"المقدسي. لكنّ مروان عبادو دائماً يعود.... إنّه مغنّي الحزن والعودة الدائمة.... أليست الموسيقى جسر عبور أزلياً بين المنافي؟