لا يخلو اسبوع تلفزيوني فرنسي من مواضيع عربية أو إسلامية. ففرنسا، عدا عن كونها صاحبة هموم شرق أوسطية واضحة منذ زمن بعيد، بلد يعتبر المسلمون العرب خصوصاً ثاني أكبر كتلة سكانية فيه، بعد الكاثوليكيين، وقبل البروتستانت. غير أن ما يكون عادة روتينياً، عبر أفلام وبرامج وأخبار وحوارات، يتخذ في بعض الاحيان طابع الظاهرة. والظاهرة هذا الأسبوع لافتة في شكل جدي على القنوات الفرنسية: فحواها أن عدداً من القضايا الشائكة العربية وجد طريقه الى التلفزيون، أفلاماً وتحقيقات وبرامج. وليس أقل هذه القضايا ما يتعلق منها بلبنانوالجزائروفلسطين. قضية فلسطين من طريق فيلم وثائقي مميز عن"وعد بلفور"عرض الإثنين الفائت. والجزائر من طريق استعادة في الذاكرة التلفزيونية لمرحلة من حرب الجزائر - التي تقض مضاجع كثر من الفرنسيين حتى اليوم - في فيلم لفت الأنظار إذ عرض قبل يومين. أما لبنان فهو ضيف اليوم في برنامج"مراسل خاص"على القناة الثانية. قبل سنوات لم يكن صوتهم يُسمع مع ان قضيتهم عمرها من عمر الحرب اللبنانية. في الإعلام تغييب لصرختهم. على ألسنة رجال السلطة استخفاف بمطالبهم. وفي الشارع لا مبالاة... مقابل دعم دائم وكبير - مشروع على أي حال - لقضية الأسرى في السجون الاسرائيلية. اليوم كل شيء تغير. أهالي المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية لم يعودوا وحدهم في المعركة. حدث هذا مع انسحاب الجيش السوري من لبنان، أو ربما قبله بقليل. غالبية التفت حول قضيتهم، تضامنت معهم. رجال سياسة وأناس عاديون. ومع هذا مصير أبنائهم لم يكشف بعد. على شاشات التلفزيون المحلي، مارسيل غانم فتح الطريق. كان هذا قبل أشهر في حلقات خاصة من برنامجه الأسبوعي"كلام الناس"على شاشة"ال بي سي". يومها خصص غانم ساعات للمخطوفين. ساعات اختزلت سنوات من الألم وأرهقت الضمائر. ثم كرّت السبحة مع برامج حاولت الإضاءة بدورها على هذه القضية. السينما اللبنانية لم تقف ساكنة تجاه الموضوع. جوانا حاجي توما وخليل جريج ولجا على طريقتهما عالم المخطوفين في فيلمهما الجديد"يوم آخر"، انطلاقاً من تجربة شخصية مرت بها عائلة جريج بعد خطف الخال في ثمانينات القرن الماضي. في فيلمهما الروائي الطويل الثاني، لم يصور الثنائي الشاب خيمة أهالي المخطوفين المزروعة قبالة الاسكوا منذ اشهر. كما لم يصور معاناة المخطوف في سجنه، انطلاقاً من شهادات حية، إنما أرادا التركيز على نقطة ثانية. نقطة تكشف مكنونات النفس البشرية بضعفها وترددها. وبنظرة بانورامية سريعة، يمكن القول ان الاهتمام بهذه القضية، تضاعف على الشاشات المحلية، حتى أن العدوى انتقلت الى الفضائيات العربية التي راحت تبث تقارير وريبورتاجات عن هؤلاء. أما التلفزيون الفرنسي المهتم دائماً، وأكثر من أي تلفزيون آخر في العالم بقضايا مثل حقوق الإنسان، ولا سيما في الشرق الأوسط، فلم تغب هذه القضية عن شاشاته... وفي إمكان المشاهدين أن يتابعوا هذا المساء على شاشة"فرانس 2"ريبورتاجاً عن الموضوع ضمن برنامج"مراسل خاص". في هذه السهرة ثلاثة معتقلين سابقين في السجون السورية، عصام وعلي وريمون، يسيرون على"طريق الجلجلة": الطريق الى عنجر مكان المعتقل. الكاميرا تلاحق خطواتهم. ترصد انفعالاتهم. تلتقط أحاسيسهم. هل تذكر هذه العودة بشيء؟ أجل... عودة معتقلي"أنصار"وپ"الخيام"، معتقلين تابعين لإسرائيل. ربما هذا التوازي لا يفرح كثراً. فپ"الشقيق"غير"العدو". ولكن هل يمكن إقناع صاحب العلاقة بأن سجن الشقيق 5 نجوم وسجن العدو مقبرة؟ إذاً التلفزيون الفرنسي يقدم هذا المساء، وإن رأى كثر أن غاياته"ايديولوجية"، ما لم تقدمه التلفزيونات المحلية. هذه الأخيرة حولت الامر الى خطابات وبرامج حوارات وصور ومشاهد صارت مملة لكثرة ما كررت: النسوة أنفسهن، الكلام نفسه، العتب نفسه، أما النتيجة: فلا شيء. برنامج"مراسل خاص"حوّل القضية الى بعدها الصحيح: البعد الإنساني. ليس هناك خطابات كثيرة هنا. هناك صور وذكريات وثلاثة رجال يحكون معاناتهم من دون أحقاد... من دون شتائم، وأيضاً من دون توقعات كبيرة. فهم يعرفون أن الأمور محكومة، في النهاية بپ"الجيوستراتيجيا". ودائماً على مذبح تسوية العلاقات، ثمة من يدفع الثمن. هم بظهورهم على التلفزيون الفرنسي يصرخون - من أجل ماضيهم، ومن اجل حاضر الذين لا يزالون"مختفين"- ان الوقت حان لتسود علاقات الاخوة بالفعل، وعلى الصعيد الإنساني، لا في كواليس السياسة. ... وعد بلفور قناة"تي في 5"العالمية الفرنسية تذكرت هذا الاسبوع وعد بلفور، ذلك الوعد الانكليزي الكئيب الذي كان في خلفية ضياع فلسطين. تذكر الوعد كان في فيلم وثائقي حققه"زاك"، وكان في الاصل قد اذيع للمرة الاولى قبل عامين. ويتحدث هذا الشريط على مدى ساعة تقريباً، بالاستناد الى كم كبير من الصور والوثائق والنصوص التي جمعت هنا وولّف بينها على طريقة تعرف الآن ب اسلوب ال"بي.بي.سي"، يتحدث عن اللورد الانكليزي بلفور الذي كتب ذات يوم من العام 1917 رسالة الى اللورد روتشيلد يقول له فيها ان"بريطانيا العظمى تنظر بعين التحبيذ الى مسألة انشاء وطن قومي لليهود في فلسطين". الشريط بعد ان يعرض هذه الوثائق التاريخية المصورة، يطرح اسئلة القضية الفلسطينية، انطلاقاً من ذلك الوعد، على مؤرخين هما الاسرائيلي ايليا برناوي سفير اسرائيل السابق في فرنسا والسوري فاروق مردم بك. ورأى المراقبون ان الاثنين وفّقا، ووفق بهما الفيلم، اذ اشتغلا على تحليل نص الوعد بظروفه التاريخية بكل دقة، ما اضفى على الفيلم نفسه طابع المرجع التاريخي، وجعله يتميز بقدر كبير من الموضوعية مع ان"من الصعب عادة الوصول الى أية موضوعية في كل مرة يصل فيها الامر الى الحديث عن قضية العصر الشائكة: القضية الفلسطينية، وبقي ان نذكر هنا أخيراً ان الفيلم اذا كان قد عثر على مذنب حقيقي في هذا كله، فان الذنب هو... بريطانيا. وكأن جان دارك عادت لتنتقم من الانكليز.. في شكل ناعم.