تركزت معارضة الساسة الانكليز، كذلك الصحافة لسياسة بريطانيا في فلسطين على موضوعين رئيسيين: المضامين الضريبية لهذه السياسة والوعود التي قطعتها بريطانيا على نفسها ممثلة في سير هنري ماكماهون للعرب ممثلين في الشريف حسين في مراسلات عام 1915 الشهيرة. وثار الجدل على ان هذه الوعود تتناقض مع وعد بلفور بعد ذلك بعامين. كان العبء الضريبي المتوقع على الشعب البريطاني هو مركز الاهتمام للغوص والتنقيب عن الجذور العميقة التي تقف وراء هذه السياسة، وهو ما تناولته الصحافة البريطانية في الشهور التي تلت انشاء الادارة المدنية في فلسطين في تموز يوليو 1920. ففي 5 شباط فبراير 1921، مثلاً، كتبت صحيفة الديلي اكسبريس قائلة ان بنود الانتداب اوضحت حجم العبء المالي في وقت كان البريطانيون بالفعل "مسحوقين بالضرائب، ومقهورين بالتجارة المقيدة والبطالة واسعة النطاق"، ولا يوجد سبب يبرر لبريطانيا تبديد مواردها "في صحاري الشرق الاوسط القاحلة". وواصلت الصحافة تناول هذا الموضوع، على رغم المؤتمر الذي عقده ونستون تشرشل في القاهرة في آذار مارس 1921 بهدف تخفيض الانفاق الضخم في الشرق الاوسط. وبحلول عام 1922، كانت صحيفة تايمز، التي ساندت من البداية وعد بلفور، تثير مسألة ما اذا كانت بريطانيا تستطيع تحمل متطلباته ونفقاته. ومع ازدياد "المعارضة من الداخل" لتورط الحكومة في فلسطين، بعث تشرشل ببرقية الى هربرت صامويل في 25 شباط 1922 طالباً منه إجراء خفض في الانفاق على قوة الدرك الفلسطينية الجديدة ومنوهاً الى ان: ثمة حركة معارضة متصاعدة في كل من مجلسي البرلمان، ضد السياسة الصهيونية في فلسطين، ستجد حافزاً لها في مقالات اللورد نورث كليف الاخيرة. ولست أعلق اهمية غير مبررة على هذه الحركة، إلا انه يصعب بصورة متزايدة مواجهة حجة انه ليس من العدل مطالبة دافع الضرائب البريطاني، الذي تسحقه الضرائب حالياً، بأن يتحمل كلفة فرض سياسة غير شعبية في فلسطين. وفي 3 حزيران يونيو 1922، أصدر وزير المستعمرات تشرشل كتاباً أبيض في محاولة لتهدئة المعارضة ضد السياسة الصهيونية في فلسطين وفي بريطانيا على السواء واستعداداً للتصويت على الانتداب من جانب عصبة الامم المقرر له ان يتم في تموز من العام نفسه. وفي الوقت الذي ينص فيه الكتاب، الذي حرره صامويل بالاشتراك مع شكْبره، على ان اليهود موجودون في فلسطين "كحق لهم وليس على مضض"، فانه وضع قيوداً على تعريف الوطن القومي اليهودي وبيَّن ان الحكومة البريطانية لم تفكر في "اختفاء او اخضاع" السكان العرب. وكان الكتاب الابيض هذا اول تفسير رسمي بريطاني لوعد بلفور. ولم يهدأ العرب ولا مؤيدوهم في لندن، وقبل أقل من ثلاثة أسابيع، وفي 21 حزيران تم تقديم اقتراح في مجلس اللوردات برفض الانتداب على فلسطين اذا كان وعد بلفور متضمناً فيه. وأكد لورد ازلنغتون ان الانتداب الذي يستند على وعد بلفور ينتهك مباشرة التعهدات التي اعطتها الحكومة البريطانية الى الشريف حسين في عام 1915، كذلك تلك التي اعطاها الجنرال ادموند اللنبي في اعلانه الى الشعب الفلسطيني في 1918، بعد انتهاء الحرب مع الاتراك. وإذ لاحظ ان الغالبية الساحقة من السكان تعارض وعد بلفور، دافع عن امكان تأجيل موافقة عصبة الأمم الى ان يتم اجراء التعديلات التي تراعي تلك التعهدات. وأقر الاقتراح بغالبية 60 صوتاً ضد 25، ما جعل يونغ يسجل في مذكرة في 23 حزيران 1922: ان المناقشة التي جرت امس في مجلس اللوردات من شأنها ان تشجع الوفد العربي على الاصرار على موقفه المتعنت، وما لم يتم رفض قرار اللوردات بصورة جلية في مجلس العموم ومجلس عصبة الامم، فان علينا ان نستعد للمتاعب حين يعود الوفد الى فلسطين. وحدث فعلاً، إذ رُفض قرار اللوردات بصورة جلية. وعلى رغم ان المعارضة في مجلس العموم كانت تتصاعد، وان المناقشة التي جرت في 4 تموز شهدت عدداً من الخطابات الغاضبة ضد السياسة المؤيدة للصهاينة، تمكن تشرشل من تحقيق النصر بإقناع اعضاء البرلمان انه قلص كلفة الاحتفاظ بفلسطين من ثمانية ملايين جنيه استرليني في عام 1920 الى ما يقدر بمليوني جنيه في 1922. وتكمن اهمية تصويت اعضاء مجلس العموم لمصلحة السياسة الصهيونية في انه فتح الطريق رسمياً امام عصبة الاممالمتحدة للموافقة على الانتداب البريطاني على فلسطين في 24 تموز. حكومة جديدة في لندن تمسكت دائرة "الشرق الاوسط" ورئيسها شكْبره في ثبات بأن التزام بريطانيا بوعد بلفور قضية منتهي أي "Chose Jugee". لكن الشك داخل الحكومة كان رافق، في الواقع، تلك السياسة منذ البداية: فمنذ وقت مبكر في آذار 1920، حينما كانت فلسطين ما تزال تحت سيطرة وزارة الخارجية، اوضحت مذكرة كتبها هيوبرت يونغ ان امكان التخلي عن سياسة الحكومة المؤيدة للصهيونية كانت موضوعاً متكرراً في الدوائر الرسمية. ولم يغلق تصديق عصبة الامم على الانتداب، ايضاً، باب المناقشة: فكما يشير يهوشوع بوراث، احد المؤرخين المعاصرين المتخصصين في قضية فلسطين، لو ان بريطانيا قررت تغيير سياستها حيال وعد بلفور وأجرت تغييرات في وثيقة الانتداب، لكان من "المشكوك فيه جداً" ان تعارض العصبة ذلك، وعلى رغم الادعاء بأن هذه القضية هي "قضية منتهية"، الا ان الواقع يؤكد ان هذه القضية نفسها كانت مفعمة بالكثير من الشكوك خلال النصف الاول من عام 1923، حين بدت الحكومة برمتها منهمكة في التنقيب عن الأسس العميقة لتلك السياسة. كانت شرارة انطلاق هذا الاستقصاء العميق سقوط حكومة لويد جورج في تشرين الاول اكتوبر 1922، وهو الذي التزم اشد الالتزام بالسياسة المؤيدة للصهيونية، وتشكيل حكومة جديدة بعد الفوز الانتخابي الساحق في تشرين الثاني نوفمبر للمحافظين الذين كانوا يضمون تياراً قوياً مناهضاً للسياسة الصهيونية في فلسطين. ولاحظ لورد ازلنغتون في اثناء مناقشة جرت في مجلس اللوردات في 27 آذار 1923 ان "السياسة الصهيونية في فلسطين اسهمت بنصيبها، ولم يكن ضئيلاً، فيما أظن، في سقوط الحكومة السابقة. وساعدت هذه السياسة بالمقابل في تولي الحكومة الحالية دفة الحكم". وإذ أشار الى ان "العديد من السادة اليوم يشغلون مناصب بارزة في حكومة صاحب الجلالة، وكانوا في السنة الماضية وقبلها بين المعارضين الاكثر نشاطاً وحماسة ضد السياسة الصهيونية في فلسطين"، وخلص الى ان هذا "سيشكل اساساً قوياً لاعادة النظر في هذه السياسة اجمالاً في وقت مبكر...". وفي الواقع، ان اعادة نظر كهذه كانت انطلقت بالفعل، وتنقل مذكرة وزارية سرية مطولة جانباً من المناخ الذي اعقب تشكيل الحكومة الجديدة. وسلمت المذكرة التي تحمل عنوان "السياسة في فلسطين" الى الوزارة في 17 شباط 1923 وأعلنت: اذا كان من المحتمل اجراء تغيير في السياسة، فان الاسراع بالاعلان عنه سيكون أفضل. فحال الترقب الحالية لا تلائم احداً اياً كان. وليس من العدل ان نسمح لليهود بالمضي في جمع المال لمشاريعهم في فلسطين إذا كان ثمة مشكلة في عدم الوفاء بالعهد الذي تستند عليه هذه المشاريع. وليس من العدل بالنسبة للعرب، إذا كنا نقصد الاحتفاظ بسياستنا، ان نسمح لهم بمواصلة هيجان قد يتطور الى قتال يعانون منه على المدى البعيد. وطوال هذه الفترة الحرجة، وجهت دائرة "الشرق الاوسط"، وبخاصة شكْبره، سيلاً منتظماً من المذكرات الى الدوق ديفونشاير، وزير المستعمرات الجديد، الذي كان يفتقر، بخلاف سلفه تشرشل، الى معتدات راسخة عن موضوع فلسطين. وتكرر التأكيد على نقطتين: إذا فشلت بريطانيا في الوفاء بتعهدها للصهيونيين "فمن المؤكد اننا سنكون موضع الادانة بارتكاب عمل من أعمال الغدر يصعب معه القول ان في امكان سمعتنا الطيبة ان تبرأ منه أبداً"، كما ان "البديل الحقيقي" الذي يواجه الحكومة كان الاختيار بين "الجلاء التام عن فلسطين او الاستمرار في الوفاء بالتعهد الصهيوني" وكان لمذكرات من هذا القبيل تأثير بالغ على وزير المستعمرات. وبعد وقت قصير من تولي الحكومة الجديدة مسؤولياتها، اخذ رئيس دائرة "الشرق الاوسط" على عاتقه، وتوقع اجراء تحقيقات جديدة، ان يدقق في اصول وعد بلفور بعد خمس سنوات فقط من اعلانه للكشف عن الظروف التي أدت الى اعلان ذلك الوعد. وكان التحقيق مثيراً للاهتمام لا سيما لندرة الوثائق الرسمية عن الموضوع الذي كشفت النقاب عنه. وعلى رغم انه نقب في السجلات، إلا ان شكبره لم يعثر على شيء يلقي الضوء على التاريخ المبكر للمفاوضات التي قادت الى اعلان وعد بلفور. وتعلل بلفور نفسه، بإلحاح من شكبره، بضعف الذاكرة وأسف لوفاة سير مارك سايكس الذي "كان على دراية تامة بالموضوع كله". وورد "أشمل تفسير" عن أصل وعد بلفور استطاعت وزارة الخارجية تقديمه لوزارة المستعمرات في مذكرة صغيرة "غير رسمية" تؤكد انه "لا يوجد إلا القليل الذي يعرف عن كيفية اعطاء السياسة التي عرضها تصريح بلفور أول شكل لها... ويبدو ان المفاوضات كانت شفاهية اساساً وعن طريق الملاحظات والمذكرات الخاصة التي لا يتوفر منها سوى مضابط هزيلة، حتى وان وجد ما هو أكثر". وتحول شكبره عندئذ الى طلب المساعدة من وكيل وزارة المستعمرات وليام اورمسبى غور، وأصبح وزيراً للمستعمرات في 1936 - 1938 وكان صهيونياً متحمساً فسجل بناء على طلب شكبره، في مذكرة من صفحة واحدة ذكرياته الخاصة عن الاحداث، تذكر آخر فقرة فيها انه كان هو، مع الكولونيل ايمري، وأصبح وزيراً للمستعمرات في 1924 - 1929 وكان ايضاً متعاطفاً مع الصهيونية الذي كتب مسودة وعد بلفور بالفعل في شكلها النهائي. ونظراً لنقص التوثيق، استطاع شكبره تعزيز تفسيره الخاص تحت تأثير أورمسبي غور بالتأكيد في مذكرته "تاريخ المفاوضات المؤدية الى وعد بلفور" التي شددت على الضيق العسكري الرهيب الذي وجدت بريطانيا نفسها فيه في عام 1917 ودينها للصهيونيين في كل من اميركا وروسيا القيصرية لمساعدتهم لها في وقت العسرة ذاك. وأمر ديفونشاير، وزير المستعمرات، بطبع مذكرة 10 كانون الثاني يناير 1923 كورقة وزارية وتوزيعها على الوزراء مع مذكرة بخط اليد تؤكد ان الوقت قد حان "لتوجيه اهتمام الوزارة الى هذا الجانب من مشكلة فلسطين". وطلب ديفونشاير من الوزارة ايضاً اجراء تحقيق صريح وبعيد المدى عن السياسة في فلسطين، وذلك في ملاحظة توضيحية أرفقها بتقرير دائرة "الشرق الأوسط" المسهب المؤرخ في 17 شباط. وفي ذلك الحين، كان الخلاف الذي احتدم طويلاً على تعهدات ماكماهون وصل الى مستويات جديدة من النقاش العام، وتلك حقيقة عكستها ملاحظة وزير المستعمرات الى الوزراء. ونتيجة لذلك، فإنه بعد ان حث على ان تصدر الوزارة "بياناً محدداً" عن سياسة بريطانيا "بأقل قدر ممكن من التأخير"، اقترح ان تركز الوزارة على ثلاثة اسئلة: 1- هل تتعارض التعهدات السابقة للعرب أم لا مع وعد بلفور. 2- اذا لم تكن تتعارض فهل ينبغي ان تواصل الحكومة الجديدة السياسة التي وضعتها الحكومة السابقة في الكتاب الأبيض عام 1922. 3- اذا كانت الإجابة بالنفي، فما هي السياسة البديلة التي ينبغي الأخذ بها! تعهدات مكماهون كان وصول وفد عربي ثان الى لندن في 24 كانون الأول ديسمبر 1922، بناء على نصيحة مؤيدين انكليز شد تغيير الحكومة من عزمهم، السبب في اعادة مسألة تعهدات بريطانيا للعرب في وقت الحرب الى دائرة الضوء. وشرع الوفد، فور وصوله، في الالتقاء بممثلي صحف المورننغ بوست والديلي ميل والتايمز ووزع نسخاً من مراسلات الحسين - مكماهون. كانت النقطة الحاسمة في الخلاف على المراسلات هي ما اذا كانت فلسطين تدخل أم لا ضمن المناطق التي وعدت بريطانيا العرب باعطائها الاستقلال بعد الحرب. فالرسالة التي بعث بها مكماهون الى الشريف حسين استثنت بوضوح "أقساماً من سورية، تقع الى الغرب من دمشق، وحمص، وحماه، وحلب". واكد العرب ومؤيدوهم ان فلسطين تقع الى الجنوب كثيراً من هذه المناطق، التي استبعدت، طبقاً لقولهم، بسبب المصالح الفرنسية هناك. سعت دائرة "الشرق الأوسط"، منذ انشائها، سعياً حثيثاً لسبر أغوار هذه المسألة، وهو ما نراه في سيل المحاضر والمذكرات عن الموضوع ابتداء من عام 1921. وبسبب اخفاق الدائرة في جهودها من أجل ان تبرهن بصورة مقنعة ان فلسطين لم تكن تندرج تحت غطاء الوعد، فركزت على محاولة ابقاء المسألة بمنأى عن عيون الرأي العام. وهكذا، فبعد خمسة أيام من محضر سجله كامبل، المدير المساعد لوزارة المستعمرات، في 6 كانون الثاني يناير 1922، نص بصورة قاطعة منوها بمذكرة لوزارة الخارجية على ان "فلسطين تدخل جغرافياً في المنطقة التي كان على بريطانيا ان تعترف لها باستقلال عربي". كان شكبره دوّن في محضر له انه على رغم ان "وجهة نظر هذه الوزارة أي وزارة المستعمرات كانت تستثني فلسطين على النحو المشار اليه، الا ان هناك ما يكفي من الشك في الموضوع الى جد يجعل من غير المرغوب فيه اطالة أمد الخلاف علناً". ورد شكبره بالمثل حين حث صامويل، الذي سمع انه سعى أي شكبره وحصل على تفسير للموضوع من سير هنري مكماهون نفسه، دائرة "الشرق الأوسط" في رسالة بتاريخ 6 آب اغسطس 1922 على نشر التفسير "حتى يفهم العرب مرة وإلى الأبد الأمر الواقع". وهو ان فلسطين كانت مستثناة من التعهد. ويظهر طلب صامويل، الذي ورد بعد شهرين من تناول الكتاب الأبيض لتعهدات ماكماهون باستفاضة، عدم كفاية تفسير الأخير. وفي رده المتأخر على صامويل بتاريخ 7 تشرين الثاني 1922، صرح شكبره، الذي تلقى في حينه تعليقات انتقادية على تفسير ماكماهون، بأنه "يعارض الى حد ما إصدار أي بلاغات عامة جديدة عن هذه المشكلة المثيرة للمتاعب"، وانه "يبدو لي فعلاً أن أفضل سياسة لنا هي ترك الأمور تجري في أعنتها قدر الإمكان". وأدى نشر أجزاء من المراسلات في الصحافة البريطانية في باكورة عام 1923، وهي مراسلات زودها بها الوفد العربي الثاني برئاسة موسى كاظم باشا الحسيني، الى جذب انتباه الرأي العام الذي حاولت دائرة "الشرق الأوسط" جاهدة تحاشيه. ففي كانون الثاني، نشر جيفريس، مراسل صحيفة الديلي ميل، سلسلة من المقالات دعا فيها الى الجلاء عن فلسطين وإلغاء وعد بلفور. وبسرعة قدم لورد سيدنهام سؤالاً برلمانياً في مجلس اللوردات وطالب الحكومة بأن تعرض للنقاش المراسلات الكاملة التي استندت عليها الحكومة السابقة في ادعائها بأن فلسطين كانت جغرافياً مستثناة من التعهدات، محركاً بذلك موجة من المذكرات في دائرة "الشرق الأوسط". ورد وكيل وزارة الخارجية لندسي على استفسار عاجل لشكبره عن الموضوع في 19 شباط 1923 قائلاً: "إننا لا ينبغي ان نتوقع دعم قضيتنا بنشر رسائل مكماهون". وسجل سيدني مودي احد كبار المسؤولين في وزارة المستعمرات، في مذكرة له بتاريخ 21 شباط، ان اسباب عدم نشر المراسلات "تظل وجيهة"، بينما سجل يونغ في مذكرة في اليوم نفسه ان "أفضل رد على مناقشة تستند على مراسلات مكماهون هو توقيع ونشر معاهدة مع الشريف حسين يوافق فيها على وضعنا في فلسطين". لكن معاهدة الصداقة الانكليزية - الحجازية Anglo- Hijazi Treaty التي جرى التفاوض بشأنها لفترة طويلة، لم تر النور قط، لأن الشريف حسين لم يشأ ان يعترف فيها بسياسة بريطانيا في فلسطين. دارت المناقشات في مجلس اللوردات في الأول من آذار 1923، وطلب لورد سيدنهام نشر مراسلات الحسين - مكماهون على اساس ان للجمهور الحق في ان يعرف "بالضبط موقف التزاماتنا القومية" في ما يتعلق بالعرب. وفي محصلة مقنعة فريدة عن الموضوع، كرر بالتفصيل - مستعيناً في ذلك باستشهادات حرفية طويلة من نسخة المراسلات التي وضعت في متناوله - التاريخ الكامل لتعهدات مكماهون وما بعدها. وأثار الاهتمام بخاصة نقضه المدقق اللاذع للنظرية التي "اخترعها" الكتاب الأبيض في 1922 وتفسير ذلك الكتاب للاستثناء المزعوم لفلسطين من تعهد مكماهون. وكان وزير المستعمرات دوق ديفونشاير الذي حضر المناقشة أدهى من ان يعالج مباشرة الحجج المثارة وانما قصر رده، وفي عبارات عامة، على اعادة تأكيد قبوله للتفسير الذي تبناه الكتاب الأبيض. وعملاً بنصيحة دائرة "الشرق الأوسط"، تحاشى الوزير بسرعة أن يضع في متناول اليد "ولكم اسف على ذلك" أياً من المراسلات بحجة أن فقرات منها لا تتصل بالخلاف قد تكون "ضارة بالصالح العالم". وحين سئل عما إذا كان يمكن نشر تلك الفقرات المرتبطة بالمراسلات فقط، استشهد بتقليد برلماني ضد نشر أجزاء من الوثائق، وفي ما يتعلق بطلب لورد سيندهام إليه أن يعلق على صحة الفقرات العديدة المشار إليها أثناء المناقشة، تجاهل لورد ديفونشاير ذلك ببساطة تامة. وتضمن جانب آخر من دراسة السياسة الحكومية عن فلسطين البعد العسكري. ففي كانون الثاني 1923، اعلنت الأركان العامة للجيش البريطاني ان فلسطين ليس لها قيمة استراتيجية في الدفاع عن قناة السويس، وأغلب الظن ان شكبره، بهدف مجابهة هذا الرأي، طلب من المستشار العسكري للدائرة ريتشارد ماينرتزهاغن، كتابة تقرير عن أهمية فلسطين الاستراتيجية. ومما لا يثير الدهشة ان تقرير ماينرتزهاغن الذي صدر في أيار مايو 1923، قدم حججاً تفصيلية عن أسباب ازدياد أهمية القناة بمرور الزمن. واقترح شكبره ارسال التقرير إلى لجنة الدفاع الامبراطورية Committee of Imperial Defence التي يتعين دعوتها لتحديد يوم لمناقشة الموضوع كله وتقرير إلى أي مدى تكتسب فلسطين قيمة استراتيجية بالنسبة للامبراطورية البريطانية "بغض النظر عن التعهدات والالتزامات من أي نوع". وتقرر مناقشة الموضوع مع صامويل لدى وصوله إلى لندن. وكان ان خلصت لجنة الدفاع الامبراطورية إلى أن فلسطين ليست من الأهمية استراتيجياً كما كان يعتقد في ما مضى. اللجنة الوزارية لفلسطين تقرر مستقبل التورط البريطاني في فلسطين، بصورة نهائية، على أيدي لجنة وزارية واسعة السلطات Cabinet Committee on Palestine تم تعيينها في 27 حزيران 1923 من قبل رئيس الوزراء الجديد ستانلي بلدوين. وترأس اللجنة وزير المستعمرات ديفونشاير، وضمت بين آخرين، لورد كيرزون من وزارة الخارجية، ووزراء الحربية وشؤون الهند والطيران واللورد الأول بالادميرالية ورئيس هيئة التجارة ووزير المال. واسندت إلى اللجنة مهمة تقديم النصح للحكومة لمساعدتها على اتخاذ "قرار عاجل ونهائي" بشأن فلسطين. وأجرت اللجنة مداولات لمدة شهر، وخلال هذه المدة، واصل خصوم السياسة الصهيونية في مجلس اللوردات هياجهم. وحتى في مجلس العموم، قامت مجموعة تضم 110 من الأعضاء المحافظين في البرلمان "شعوراً منهم بأن الموضوع يحظى بأهمية امبراطورية أولى ذات نتائج بعيدة الاثر في المستقبل"، بارسال عريضة إلى اللجنة الوزارية الخاصة بالشرق الأوسط المنعقدة حالياً "مشددين على ضرورة الوفاء بالتعهدات المحددة التي اعطيت لعرب فلسطين وضرورة التشاور مع كل سكان البلاد، الذين تبلغ نسبة العرب بينهم 93 في المئة، وإقامة شكل من أشكال الحكومة يتم الاتفاق عليه وينسجم مع رغباتهم"، وطبقاً لما كتبه مقدمو العريضة "فإن فرض النفوذ المهيمن لجنس آخر على شعب كاره له إنما هو انتهاك للحقوق الطبيعية" أدائه ميثاق عصبة الأمم. ووصل إلى لندن في تلك الفترة أيضاً الوفد العربي الثالث، بعد ان وجد في تعيين اللجنة تشجيعاً له. وكتب اورمسبي غور ذلك الصهيوني المتحمس، إلى وزير المستعمرات، حتى قبل أن يتقدم أعضاء الوفد بطلب رسمي إلى اللجنة للاستماع لهم، يقول إنه "يستهجن بشدة فكرة ان على اللجنة الوزارية ان ترى هؤلاء الناس أو تقدم أية تنازلات". وفكر شكبره أيضاً في معارضة استقبالهم، إذ رأى أنهم "ليسوا هيئة رسمية بأي معنى وأن السماح بظهورهم أمام اللجنة الوزارية سيعطيهم أهمية أكثر مما ينبغي"، لا سيما أنهم يمثلون "القسم المتطرف من عرب فلسطين الذين ربما يشكلون غالبية، إلا أنهم بالتأكيد ليسوا كل السكان العرب". ومن ناحية أخرى، حذر شكبره في مذكرة أخرى من أنه ما دامت دارئة الشرق الأوسط "ظهرت باستمرار في الصحافة وكأنها خاضعة كلية للتأثير الصهيوني ومتهمة بكل أنواع المكائد الميكيافيلية لمنع وصول أي وجهة نظر عن القضايا الفلسطينية إلى وزير الخارجية أو الوزارة" فيجب توخي الحرص عند رفض السماح للعرب برؤية اللجنة. وحين كتب موسى كاظم الحسيني، رئيس الوفد العربي، من فندق سيسل Hotel Cecil في 24 تموز 1923 إلى رئيس اللجنة الوزارية قائلاً إن أهل فلسطين رأوا في تشكيل اللجنة "خطوة من جانب الحكومة البريطانية نحو الحل العادل والمنصف لمشكلة فلسطين"، ابلغ شكبره الوفد "ان اعضاء اللجنة لا يستمعون إلى حجج شفهية وبالتالي فإنهم لا يستطيعون استقبالهم". وفي نهاية المطاف كان المندوب السامي في فلسطين صامويل هو الشاهد الوحيد من الخارج على أعمال اللجنة، بعد أن وصل من فلسطين في آخر حزيران خصيصاً لهذا الغرض. وشدد على أنه ليس من المستحسن التردد في اتخاذ قرار وأنه من وجهة نظر الأمن الدولي في فلسطين، ينبغي اتخاذ قرار نهائي. وحاول صامويل في الاجتماعين اللذين عقدهما مع اللجنة الوزارية في يومي 5 و9 تموز أن يثبت ان معارضة العرب للصهيونية كانت تنبع الى حد كبير من سوء فهم لأهدافها وان زعماء الصهيونية المسؤولين لم يكن في نيتهم مصادرة اراضي العرب أو اغراق البلاد بالمهاجرين اليهود. ووفقاً لما قاله برنارد فاشرستاين، مورخ سير صامويل، بدا أن "معقولية" صامويل، استمالت المتشككين من اعضاء اللجنة، وقلبت كفة الميزان لمصلحة الصهيونية. وفي الوقت نفسه كان ماينرتزهاغن، المستشار العسكري في دائرة الشرق الأوسط، سرب التفاصيل الكاملة لمداولات اللجنة إلى سكرتير المنظمة الصهيونية ليونارد شتاين الذي حث بدوره وايزمن، وكان في أوروبا آنذاك، على العودة فوراً. وحالما وصل وايزمن إلى لندن في 24 تموز 1923 تشاور مع صامويل وذهب في اليوم التالي إلى دائرة "الشرق الأوسط" لرؤية شكبره، الذي ابلغ وزير المستعمرات في مذكرة سرية أن الزعيم الصهيوني كان في "حالة شديدة من الهياج" لاعتقاده ان اللجنة الوزارية تعتزم تقديم "تنازلات جديدة للعرب"، سيكون من شأنها في رأيه ان "تقلص بالتدريج وعد بلفور وامتيازات اليهود في فلسطين". وقال لشكبره إنه "إذا تحققت هذه المخاوف فسوف ينجم عنها تحطيم المنظمة الصهيونية ووأد النشاط الصهيوني في فلسطين". وارسل وايزمن في 26 تموز 1923 قبل يوم واحد من التقرير النهائي للجنة رسالة مطولة إلى وزير المستعمرات عن "جوانب معينة من الموقف في فلسطين" اختتمها بقوله: "إن تعديلاً جديداً وتعديلاً ينطوي على التخلي عن مبادئ حيوية سيكون ضربة قاصمة قد تثبت الأيام أنها مهلكة للصهيونية". تم تقديم تقرير اللجنة الوزارية النهائي الذي حمل عنوان "مستقبل فلسطين" The Future of Palestine في 27 تموز 1923، يوصعب تخمين الاثر الذي يحتمل ان تكون تدخلات وايزمن، التي نقلها ديفونشاير، ألقته على اللجنة في دعم الحجج التي قدمها صامويل. ومهما يكن، فإن اللجنة، حتى وهي تلاحظ أن "من الصعب أن نلوم أولئك الذين يؤكدون... ان الانتداب بأسره قام على مغالطة منطقية تزعم التوفيق بين المتناقضات" أي ضمان اقامة وطن قومي يهودي على رغم حماية حقوق أهالي البلاد استنتجت مثل الكثير غيرها من مذكرات دائرة "الشرق الأوسط" التي لا تحصى: "إنه سواء أكانت تلك السياسة حكيمة أم عير حكيمة، فمن المستحيل تقريباً على أي حكومة ان تخلص من المشكلة دونما تضحية بقدر لا يستهان به من الثبات على المبدأ والاحترام الذاتي إن لم يكن من الشرف". بعد ذلك بأربعة أيام اقرت الوزارة توصيات اللجنة وأنهت بذلك، إن لم تكن المعارضة لهذا السياسة، فعلى الأقل آفاق تغييرها. وحينما دخل الانتداب حيز التنفيذ بعد ذلك بأشهر قليلة في أيلول سبتمبر 1923، كان الموضوع "سوي" واكتسب وعد بلفور وضعاً قانونياً، وهو الذي كان وثيقة سياسية، بل كان في الحقيقة لا يزيد على كونه خاطب نوايا. لن نعرف أبداً هل كان يمكن في الواقع نقض سياسة بلفور في ذلك الصيف عام 1923، اعتقد الصهاينة كما يبدو ان هذه كانت الحقيقة الواقعة. فإذا كانوا على صواب، فإنهم مدينون بالشكر لدائرة "الشرق الأوسط". * ترجمة مقال نشر في Journal of Palestine Studies. Volume 27 Number2, Winter 1998 pp.23-41 "Was Balfour Policy Reversible Colonial Office and Paleatine -1921-1923 ** المقال مقتبس من فصل في كتابها "ثقة منتهكة: هربرت صامويل، الصهيونية والفلسطينيون" 1920-1925 "A Broken Trust: Herbert Samuel, Zionism and the Palestinians" 1920-1925 ويصدر قريباً عن I.B. Tauris.