كان طموح ونستون تشرشل قد بدأ يكبر في تلك الآونة. في البداية كان يرى ان عليه ان يصبح وزيراً للمستعمرات، حيث ان هذا المنصب كان في ذلك الحين يعتبر من اهم المناصب الحكومية نظراً لما لبريطانيا من مستعمرات في طول العالم و عرضه. وكانت عينه على الشرق الاوسط كمنطقة يمكن له من خلالها ان يبرز قدراته السياسية. ولما كان يحس ان عليه اكتساب تأييد اليهود الانكليز، والاميركيين ايضاً، كما اكتساب يهود العالم كله ممن كانوا ينظرون الى اللورد بلفور، بسبب وعده الشهير لهم، على انه مناصرهم الاول في العاصمة البريطانية، كان من الطبيعي لتشرشل ان ينظر في ذلك الاتجاه: ان يعمل ما من شأنه ان يقرن اسمه باسم بلفور، بالنسبة الى القضية اليهودية على اي حال، ومن ثم ان يتجاوز ذلك بعد ان يكون الموقف قد عاد عليه بما كان يرتجي من منافع. والمنافع الاساسية كانت، بالنسبة اليه في ذلك الحين، الوصول الى وزارة المستعمرات والقفز منها بعد ذلك الى زعامة الحزب، ثم الى رئاسة الحكومة. وهذا، بالتحديد، ما يفسر الموقف المفاجىء الذي اتخذه تشرشل يوم الاول من نيسان ابريل 1920، أي في وقت كانت المسألة العربية قد بدأت تشغل الاوساط السياسية في اوروبا الغربية، عبر اثارة قضية الحكومة العربية وافتضاح أمر مؤامرة "سايكس - بيكو" واشتداد الحمى من حول "حق اليهود في ان يكون لهم وطن قومي في فلسطين" على حساب العرب وحقهم في الاستقلال، وان تكون لهم دولتهم" حسب وعود انكليزية اخرى. الحقيقة ان الانكليز كانوا قد قدموا للعرب الكثير من الوعود خلال الحرب، لكن معظم تلك الوعود راح التعامل معه يتم بطريقة مواربة ما ان انتهت الحرب، ووجد الحلفاء ان عليهم الآن التخلص من ورطات الوعود. اما تشرشل فانه كان من النوع الذي يجابه الامور مواجهة، حسبما تقتضي موازين القوى، ومصالحهم، ومن هنا نجده، في الوقت الذي راح فيه خلال الاشهر الاولى من العام 1920 يدلي بالمزيد والمزيد من التصريحات حول المستعمرات وضرورة ايجاد صيغ تعامل جديدة وملائمة معها، نجده يمعن في تلك المواقف التي جعلت الكثيرين يتوقعون ان يجري تعيينه وزيراً للمستعمرات مكان اللورد ميلز. هذه المواقف، اذن، أوصلها ونستون تشرشل الى ذروتها، في الاول من نيسان حيث اعلن بكل وضوح، وبالتناقض مع العديد من المسؤولين السياسيين البريطانيين الذين كانوا يدرسون كلماتهم حول تلك القضية كثيراً قبل التعبير عنها، انه يقف بشدة الى جانب فكرة "انشاء دولة يهودية في فلسطين". والحقيقة ان تشرشل كان بهذا، اول مسؤول بريطاني يتحدث عن انشاء دولة وليس فقط عن اقامة "وطن" مع كل ما تحمله هذه العبارة من التباس، كما فعل اللورد بلفور. فتشرشل آثر ان يسمي الاشياء باسمائها مضيفاً بشكل اكثر تحديداً مما فعله اي مسؤول انكليزي من قبله، ان مثل تلك الدولة ستكون قادرة على ان تستقبل "على ضفتي نهر الاردن، بين ثلاثة واربعة ملايين يهودي"، حسب الوعد الذي كان اللورد بلفور قد عبّر عنه. غير ان ونستون تشرشل استدرك هنا قائلاً بأن "اقامة مثل هذه الدولة لا يمكن التفكير فيه خارج اطار الحماية البريطانية". الغريب في أمر تصريحات تشرشل التي أتت اكثر وضوحاً ودقة وخطورة من وعود اللورد بلفور انها لم تثر ضجة حقيقية في صفوف العرب، على رغم ان الامير فيصل بن الحسين الذي كان على استعداد للتعاون مع اليهود، كان لا يكف عن التصريح في تلك الفترة بانه لن يقبل ابداً ان يؤسّس لليهود "وطنا" مستقل في فلسطين. في المقابل أتت المعارضة، والمعارضة العنيفة من جانب لورانس، الذي كتب بعد ذلك باسابيع مقالاً عنيفاً في صحيفة "تايمز" رأى فيه في ثورة العرب في العراق امراً مشروعاً ومتوقعاً، لان الاحتلال الانكليزي، حسب رأيه، لا يقل سوءاً عن الاحتلال التركي، ف"العرب لم يضحوا بارواحهم خلال الحرب لكي يغيروا سادتهم"... اما بالنسبة الى تشرشل فان مواقفه عادت عليه بالمكسب الاساسي الذي كان يتوخاه، اذ ما ان حلّ خريف العام نفسه حتى أبلغ اللورد ميلز ونستون تشرشل برغبته في ترك منصبه كوزير للمستعمرات، قائلاً له ان ثمة توافقاً بالفعل على ان يحل هو - أي تشرشل - محله. وبالفعل وصل تشرشل الى ذلك المنصب في شباط فبراير من العام التالي، وكان من اول نشاطاته ان عقد مؤتمراً في القاهرة كان، رغم كل شيء، المؤتمر الذي أسس لقيام دولة اسرائيل.