في اليوم الثاني من تشرين الثاني نوفمبر 2001 حَلَّت الذكرى الرابعة والثمانون للرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطاني الصهيوني آرثر جيمس بلفور الى الرأسمالي الصهيوني البلياردير روتشيلد، تعهدت بريطانيا بموجبها المساعدة على قيام وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد أُرِّخت تلك الرسالة - الوعد - التعهد بتاريخ 2-11-1917. في عام 1930 توفي اللورد بلفور عن عمر ناهز الثمانين، وبعد وفاته بثمانية عشر عاماً، تجسد ذلك التعهد بقيام دولة اسرائيل في فلسطين صيف عام 1948. وكان عمر بلفور حين أصدر تصريحه أو وعده الشهير يقارب السبعين. وكان يلقب بلفور السفاح بسبب جرائم القتل الجماعي التي ارتكبها ضد أعمال المقاومة الايرلندية في المدة التي تولى خلالها وزارة الشؤون الايرلندية، بدءاً من عام 1887. قبل وفاته بخمس سنين تلقى اللورد بلفور 1848 - 1930 دعوة من يهود فلسطين، وقد كان عددهم قليلاً جداً لا يتجاوز بضعة آلاف يهودي، للمشاركة في حفل افتتاح الجامعة العبرية، في فلسطين في آذار مارس 1925، بعد خمس سنوات من اعمال معاهدة سايكس بيكو، وسنتين من تفعيل معاهدة سيفر. وكانت تلك الدعوة الموجهة اليه لزيارة فلسطين بعد وضعها تحت الانتداب البريطاني، بتوقيع وبتمويل من حاييم وايزمان العالم اليهودي الكيميائي، أبرز مؤسسي الحركة الصهيونية العالمية في نهاية القرن التاسع عشر المنصرم. وصل اللورد بلفور - وهو من أتباع مذهب "المسيحية الصهيونية" أو "اسرائيل المسيحية" - الى ميناء الاسكندرية على متن الباخرة "اسبريا" في 23 آذار 1925، وكان مراسل جريدة "الأهرام" المصرية بين مستقبليه، وهو الذي قام بوصف تلك المناسبة في تقرير صحافي نشرته الجريدة في اليوم التالي، وأسهب في تفاصيل استقباله الذي شارك به حاخام يهود مصر على رأس "اللجنة الصهيونية"، وتلاميذ المدارس الاسرائيلية، وفرقة الكشافة للفتيان اليهود المصريين. وبعد ساعتين قضاهما في الاسكندرية، انتقل اللورد بلفور ممتطياً قطاراً الى مدينة القاهرة، حيث نزل ضيفاً على الجنرال اللنبي والليدي زوجته، في مقر اقامتهما فيها. وكان الجنرال اللنبي يومئذ هو المندوب السامي البريطاني في مصر، وهو الذي كان وَضَعَ الخاتمة التراجيدية للحكم العثماني في فلسطين عام 1917. بعد يوم قضاه في القاهرة، وبعض اليوم الذي تلاه، استقل اللورد بلفور القطار من محطة سكة الحديد في القاهرة، في الساعة السادسة مساء الثلثاء 24 آذار 1925، متجهاً الى القنطرة، على الضفة الغربية لقناة السويس التي تقع صحراء سيناء على ضفتها الشرقية. وفي محطة القطار في ساحة باب الحديد، في القاهرة، تجمهر عدد كبير من المصريين هاتفين على مسمع منه، بعروبة فلسطين، وكان بينهم عدد أكبر من أبناء الجالية السورية المقيمة في مصر، في حين كانت البرقيات تنهال على جريدة "الأهرام" من أبناء تلك الجالية السورية المقيمة في مصر، شاجبة زيارة اللورد بلفور لمصر، منددة بوعده الشهير. وكانت احدى تلك البرقيات التي نشرتها "الأهرام" بتوقيع عشرين مواطناً سورياً مقيمين في مصر، كان شكري القوتلي واحداً منهم. في اليوم التالي الأربعاء 25 آذار 1925 وصل اللورد بلفور الى القدس التي سبقه اليها مراسل "الأهرام" الذي كان يزودها بتقارير صحافية عن تفاصيل الحفاوة التي لقيها صاحب الوعد المشؤوم من اليهود في فلسطين" واستناداً الى ما نشرته "الأهرام" من تلك التقارير، فإن اللورد بلفور دشن زيارته لفلسطين بتناول الغداء في مستعمرة قاره الصهيونية ثم توجه موكبه الى تل أبيب التي خرج سكانها اليهود عن بكرة أبيهم لاستقباله، وازدانت مبانيها بالأعلام الصهيونية والانكليزية، وصدور أبناء تل أبيب بصورة اللورد بلفور الفوتوغرافية، في الوقت الذي شهدت فيه غزة وقضاء طولكرم ومدرسة المعلمين في القدس اضراباً عاماً سرعان ما عم مناطق فلسطين كلها، الأمر الذي واجهته قوات الشرطة والجيش البريطانية، بالعنف الذي شارك به "آلاي من الخيالة بأسلحته المدرعة، أرسله الجنرال اللنبي من مصر الى فلسطين، لمواجهة الاضطراب الأمني المحتمل". في ذلك اليوم سافر عدد من "أعيان الاسرائيليين وعلمائهم في الاسكندرية" من مصر الى فلسطين، للمشاركة في حفل افتتاح الجامعة العبرية، وتنفيذاً لتوجيه من الحكومة المصرية، سافر مدير الجامعة المصرية جامعة القاهرة اليوم الأستاذ أحمد لطفي السيد - الملقب بأستاذ الجيل - من القاهرة الى القدس، ليشارك في الاحتفال مشاركة ندد بها الفلسطينيون وطلاب الأزهر وعلماؤه، شاجبين ان يشارك مدير الجامعة المصرية في حفل افتتاح الجامعة العبرية في فلسطين. وفي الخطاب الذي ألقاه اللورد بلفور في ذلك الاحتفال، أكد ان وعده ليس وعد شخص، بل هو وعد اجمعت عليه الهيئة العظمى لمجموعة الدول الأوروبية التي وقّعت معاهدة فرساي. استمرت زيارة اللورد بلفور لفلسطين، وهي تحت الانتداب البريطاني، حوالى أسبوعين، توجه بعدهما في قطار خاص الى دمشق، بتاريخ 8 نيسان ابريل 1925، في الوقت الذي كان فيه الشعب العربي السوري يتحفز للقيام بما سُمي من بعد ب"الثورة السورية" التي اندلعت شرارتها الأولى من السويداء في جبل العرب، بقيادة سلطان الأطرش، ومن جبال اللاذقية بقيادة صالح العلي، ومن حلب بقيادة ابراهيم هنانو، ثم انتشرت فشملت جميع المناطق السورية. بدأ قطار اللورد بلفور زحفه من حيفا الى سورية يرافقه عدد كبير من عناصر الاستخبارات البريطانية. وكان أهل القرى السورية التي عبرها القطار، وهو يطوي الأرض متوجهاً نحو محطة "الحجاز" في دمشق، يقابلون عبور القطار بقراهم بلافتات الاحتجاج، وبالشارات السود الفاحمة، وبالهتاف بعروبة فلسطين. الأمر الذي دفع حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين الى اجراء مفاوضات عاجلة مع سلطات الانتداب على سورية لوضع خطة مشتركة لحماية اللورد بلفور في زيارته سورية. وقد ورد في تقرير لمراسل "الأهرام" في سورية، نشرته الجريدة في شهر نيسان ابريل 1925، ما يأتي: "وصل القطار الى درعا في حوران، فخف المسؤولون الفرنسيون لاستقبال اللورد بلفور الذي تناول هو ومرافقوه طعام الغداء في مقصف درعا، ثم ركب القطار متوجهاً الى دمشق، غير ان السلطات الفرنسية وقد شعرت بالغليان يجتاح دمشق بسبب زيارة صاحب الوعد المشؤوم، قررت انزال اللورد في محطة القطار في القَدَمْ، وليس في محطة المدينة محطة الحجاز، حذراً مما قد يحدث في محطة البرامكة - الحجاز وهي محطة دمشق ... وقد اندسَّ رجال التحري بين المتجمهرين الذين أخذوا يصيحون يهتفون بسقوط وعد بلفور، وبحياة فلسطين، ويظهرون استياءهم من قدوم اللورد بلفور الى عاصمة الأمويين... وقد دامت تظاهراتهم ساعة، ثم انصرفوا الى سوق الحميدية، حيث تألفت في السوق تظاهرة كبرى من جموع الشعب السوري الذين انبثوا في الشوارع والأزقة والميادين الساحات حتى غصت بهم، ثم اتجهت هذه الجموع التظاهرات نحو ساحة المرجة، وهنا تدخل رجال الشرطة في الأمر، ومنعوا المتظاهرين من عبور جسر بردى، فاشتد هياج الشعب وهتافه، وحدث صدام وملاكمة وضرب بالعصي بين الأهالي والشرطة، وشرع البوليس يسوق كل من وقع بين يديه من الجمهور الى دائرة الشرطة. وبعد انصراف الجماهير قرب الساعة الحادية عشرة، اراد اللورد بلفور الخروج من باب النزل الفندق بقصد التجول في شوارع مدينة دمشق وأسواقها، فرجاه رجال الشرطة لتأجيل تجواله الى اليوم التالي، فعاد الى غرفته. وفي يوم الخميس 9 نيسان 1925، حاول الجمهور المحتشد بعد صلاة الظهر، الوصول الى فندق فيكتوريا حيث نزل اللورد بلفور، وقد تمكن الجمهور المحتشد من مهاجمة صفوف البوليس والدرك المحتشدة امام وحول مبنى الفندق بشدة وبعنف، ومن الوصول الى باب الفندق، الا ان رجال الجندرمة صدوا الجمهور عند دخول الفندق مراراً من دون جدوى، ثم اضطر رجال الجندرمة الى اطلاق الرصاص في الفضاء. وفي الساعة الثانية بعد الظهر وصلت ثمانية أوتوموبيلات سيارات مدرعة لاعادة النظام الى نصابه. وقد أحصت وكالات الأنباء عدد الخسائر في صفوف الجانبين، المتظاهرين والبوليس، فتبين ان عدد الجرحى من المتظاهرين خمسون، تم نقلهم الى المستشفى، بينهم ثلاثة جروحهم خطيرة، وان عدد الجرحى من رجال الجندرمة اثنان، وأصيب كثيرون منهم بكدمات ورضوض من جراء الضربات التي انهالت عليهم من جمهور المتظاهرين. في اليوم التالي الجمعة 10 نيسان ابريل 1925 حلقت الطائرات فوق مدينة دمشق على ارتفاع مئة وخمسين متراً فقط، وقُدّر عددُ السيارات المصفحة والدبابات التي انتشرت في الشوارع لحماية اللورد بلفور، بالعشرات. وكان المشاة والفرسان من الفرنسيين والمغاربة مسلحين بالسيوف، ولذلك فإن العدد الأكبر من الضحايا السوريين الذين أصيبوا بجراح في ذلك اليوم، كان نتيجة إعمال السيوف بهم، أما جراح الجندرمة، فقد كانت كلها نتيجة لرجمهم بالحجارة. وهكذا أرغم الشعب السوري اللورد بلفور على البقاء في الغرفة التي نزل فيها في فندق فيكتوريا، فلم يخرج منها قط ذلك اليوم والذي قبله، وكان معه في الفندق مراسلا التايمز والديلي ميل اللذان ارسلا الى جريدتيهما وصفاً تفصيلياً عما شاهداه وهما مع اللورد بلفور في غرفته في الفندق، بينما المعارك محتدمة على مسمع منه ومنهما خارج الفندق. ولم تنته المعارك بانسحاب المتظاهرين من حول فندق فيكتوريا، بل باحتلال القوات العسكرية الفرنسية ساحة المرجة الخضراء، حيث عُقِدَ اجتماع مطول بعد ذلك بين الجنرال ساراي الفرنسي، واللورد بلفور البريطاني، حضره القنصل البريطاني في دمشق، وقد اقتنع اللورد بلفور في هذا الاجتماع، بأن عليه ان يغادر دمشق على الفور، من دون تلكؤ ولو للحظة، بعد مرور عشرين ساعة على وصوله مدينة دمشق، لم يبرح خلالها الغرفة التي نزل فيها في فندق فيكتوريا، قط". ... ثم يَصِفُ مراسل "الأهرام" في دمشق، في أحد اعدادها الصادرة في شهر نيسان 1925، أي قبل حوالى 84 عاماً سلفت، عملية تسلل اللورد بلفور خفية من فندق فيكتوريا، وهربه من دمشق خفية، على النحو الآتي. "وكما يجري في الأفلام السينمائية البوليسية، أوقف الجنرال الفرنسي ساراي - المندوب السامي الفرنسي المقيم في دمشق الواقعة تحت الانتداب، سيارته على جسر بردى وكان يسمى جسر فيكتوريا تجاه فندق فيكتوريا الذي نزل فيه اللورد بلفور، فأوجد بذلك مظهراً لفت الانظار وشاغَلَ الناس، وفي الوقت نفسه حلقت طائرات في جو المكان، فازداد انشغال الناس بالطائرات المحومة... وعلى اثر ذلك غادر اللورد بلفور فندق فيكتوريا من دون ان ينتبه أحد الى خروجه تحت حراسة سيارات فيها 12 شرطياً سرياً، و45 من جنود الدرك، في الوقت الذي نبهت الحكومة السورية جميع مخافر دمشق، بأن تجمع مشايخ الحارات ومخاتيرها لإبلاغ جميع الأحياء الدمشقية بأن اللورد بلفور قد برح مدينتهم، وهو لن يعود اليها مرة أخرى". وبعد مغادرته دمشق في اتجاه لبنان، قاصداً ان يقوم بزيارة لبيروت، وبوصوله الى بلدة صوفر، الواقعة على الطريق الجبلية الواصلة بين دمشقوبيروت، تحت الحراسة الفرنسية، بلغه ان مدينة بيروت تتحفز هي الأخرى بدورها لاستقباله استقبالاً غير حسن، ولإعلان الاضراب العام، ولتسيير التظاهرات لشجب وعده المشؤوم، "مشاركة من اللبنانيين بآلام فلسطين العربية الشقيقة"، وقد دفع ذلك مرافقيه المسؤولين عن حمايته، الى تعديل برنامج دخوله بيروت من الجهة المقابلة منافذها للحدود السورية، والى وضع خطة بديلة عاجلة لادخاله سراً الى بيروت عبر طريق أخرى تمرُّ بمنطقة الحرج - وهي زاخرة بغابة من أشحار الصنوبر كثيفة - ثم بمنطقة رأس بيروت، فمنطقة المنارة، ومنها الى ميناء الحصن فإلى المرفأ، أي ان الخطة هذه التي تم تنفيذها، قضت بأن تدور سيارات موكب اللورد بلفور وحراسه حول مدينة بيروت من دون ان تدخل المدينة، ومن دون ان يعلم البيروتيون بخطة سيره التي تم تعديلها في صوفر. وبوصول السيارات الى المرفأ، تم انزال اللورد بلفور الى الباخرة الفرنسية سفنكس الراسية حذو الشاطئ، تحيط به القوات الرسمية. ثم اقلعت الباخرة من دون اجراء مراسم التوديع للورد بلفور الى الشاطئ المصري. وبوصولها ميناء الاسكندرية هبط منها ركابها باستثناء اللورد العجوز صاحب الوعد المشؤوم الذي خشي تكرار ما حدث له في دمشقوبيروت، في الاسكندرية، فآثر البقاء في الباخرة. غير انه تحت الحاح الجالية البريطانية في الاسكندرية غادر السفينة تحت حراسة مشددة، بعد بقائه فيها طوال ساعات الصباح الى ما بعد الظهر، لحضور حفل اقامته الجالية البريطانية في فندق كلاريدج لتكريمه. ثم هرول بعدها الى السفينة التي أبحرت به في المساء الى بريطانيا. وعقب وصول اللورد العجوز، وكان عمره يومئذ ناهز السابعة والسبعين، بريطانيا عائداً من مصر وفلسطين وسورية ولبنان، اكدت جريدة "الأهرام" في احد اعدادها الصادرة في نيسان ابريل 1925، ان زيارة بلفور للمنطقة اقترنت بذكرى أليمة، وذكرت في مقال حول تلك الزيارة المجهضة لسورية: "... لقد ثارت عواطف الشعب السوري في كل مكان حلّ فيه صاحب التصريح المشؤوم، ولا شك في ان هذه الأمور قد احدثت تأثيراً في فكر اللورد بلفور، ولا يستطيع إبعاده عنه". ومع ذلك، فإن وعد بلفور الذي توفي بعد خمس سنوات من زيارته المجهضة لدمشق ربيع 1925، قد جُسّد على الأرض الفلسطينية، بعد 18 سنة من وفاته، بترتيب بريطاني خالص، وبرعاية بريطانية ساهمت فيها مجموعة الدول الأنغلو - ساكسونية، ومنها الولاياتالمتحدة الأميركية التي تكاد اليوم تنفرد برعاية هذه الدولة الإسرائيلية الصهيونية التي ولدت من رحم وعد بلفور. * مؤرخ سوري مقيم في القاهرة.