لا مرجع واضحاً ترجع اليه دراسة الجانب العام هذا أي الترفيه من الاعلام الجماهيري. فثمة وجوه من البرامج الاعلامية ليست أنباء وأخباراً وأفكاراً، من العسير تعريفها، مثل الألعاب، وبث المباريات الرياضية والسياحية والسفر وبرامج تلفزة الواقع، أو المنوعات والأفلام والحكايات والاسكتشات والأغاني والفيديو كليب وغيرها. وهذه الأعمال المتفرقة يشبه بعضها بعضاً. ولكن يبرر شبهها جمعها في باب واحد؟ فما يميز الصحافة، على معناها العام، من شريط سينمائي أو أغنية، يُدرك من غير إعمال فكر. والصحيفة، قبل أي أمر آخر، وسيلة لتعقب الحوادث في عالمنا، بينما قراءة الرواية هي للمتعة والراحة وتبادل الأفكار. وعلى هذا فالحقل الاعلامي العام يقوم على الازدواج أو الثنائية: فمن وجه، أول، ثمة شق سياسي يتصفح الحوادث، وثمة شق غير سياسي غايته تسلية المشاهد. وما تقدمه وسائل الاتصال المرئية مبني على"المناوبة"طوال النهار: فالأنباء تعقبها التسالي، وهكذا دواليك. وبرامج الترفيه تملأ الوقت الذي يلي برامج الأنباء أو تواترها. وثلثا الوقت أمام الشاشة يصرفان على الترفيه، ووقت مماثل يصرف الى سماع الاذاعة، ووقت آخر الى سماع الموسيقى المسجلة وقراءة الروايات أو المجلات، أي ما يبلغ مجموعه خمس ساعات يومياً للترفيه. وهذا قرينة قوية على طريقة عيش أو حياة جديدة في مجتمعات ديموقراطية انتهت، في آخر المطاف، الى مجتمعات ترفيه اعلامي فلماذا أمسى"المرء الديموقراطي""كائناً لاهياً"؟ وهل يحمل مجتمع الترفيه الاعلامي في طيّاته بذور يوتوبيا لعالم ما بعد السياسة؟ والحق أن الترفيه الاعلامي لم يظهر فجأة، وارتسمت معالمه طوال القرنين الماضيين، من طريق التوسّع فجمهوره ظل ينمو والاستقلال جراء ظهور قطاع اقتصادي متكامل تضبطه قوانين السوق. وصحب ذلك ظهور الصناعات الثقافية من دور النشر وهيئات انتاج ومحطات واذاعات خاصة، الى محترفي الترفيه. وازداد عدد الأفراد الذين يعيشون من الترفيه، وليس له. وأخذت عملية التوسّع والاستقلالية تتبلور منذ 1830. فتأثّر بالنازع الى الترفيه، أولاً، فن الرواية. وفي 1837، لاحظ توكفيل كاتب"الديموقراطية في أميركا" ان رغبة الجمهور في القراءة تعم شرائح المجتمع من غير تمييز. وفي 1839، لاحظ سان - بوف الناقد الفرنسي ان التعيش من الأدب بات في المتناول. وأخذت أنواع اللهو والترفيه تتغلغل حثيثاً في انماط العيش، منذ 1880. وشاعت عبارة"ثقافة الجماهير"مع ظهور الكتاب الزهيد الثمن، والمجلة الدورية، وتشييد قاعات الموسيقى، وانتشار المقاهي الموسيقية والمسارح. وفي 1912، بلغ عدد قاعات الترفيه في باريس 180 قاعة. وفي العقود التي تلت تسارع انتشار الترفيه الاعلامي مع تزايد استعمال وسائله قفز استخدام الراديو من 12.6 في المئة من السكان في 1939 الى 90 في المئة في 1980، واقتناء التلفزيون من 13.1 من المنازل الى 90 في المئة بين 1960 وپ1980. واطرد الاتصال الجماهيري مع شيوع النزعات الفردية. وبلغت نسبة الذين يقتنون، جهاز تلفزيون في حجراتهم من الأولاد من 8 - 19 سنة، 37 في المئة، فجهاز التلفزيون لم يعد جهازاً أسرياً. وبات يسيراً على المشاهد اختيار ما يشاء من البرامج من ضميمة برامج لا تحصد. ولعل العوامل التي أدّت الى استتباب الأمر لبرامج الترفيه، وتغلغلها في أنماط عيش الجمهور، اقتصادية في المرتبة الأولى. وعلى ما يذهب الكاتبان الألمانيان، ثيودورو أدورنو وماكس هوركهايمير،"الترفيه ابن الصناعة الثقافية، فهي تصنعه وتروّجه تلبية لضرورة مركزية للانتاج الرأسمالي"، ما يجعل الانتاج الثقافي"القطبة الخفية"في إسباغ المشروعية على الرأسمالية. والحق أن هذه المقولة ليست صحيحة. فالرأسمالية لا تنشئ شيئاً من تلقائها. وهي تتملك ما تجسّد معناه في المجتمع. ولما اكتسبت أعمال الترفيه واللهو معنى اجتماعياً نشأت سوق اقتصادية مدارها عليها. ويسع الصناعة أن توجّه الذوق العام، ولكنها لا تفرضه ولا تنشئه. وعليه لم تكن الرأسمالية أكثر من وسيط أسهم في بعث دينامية اجتماعية، وتعزيزها. وأدى صوغ الرابط الاجتماعي الى ظهور دائرة علانية عامة توجهت الى الترفيه والتسلية. وكلما تعاظم نازع الفردية تحللت عرى الانتماء الى جماعة ومجتمع، وتوسع حقل الترفيه. ولا يتصور الترفيه الاعلامي من غير دأب"السياسة"على المجانسة الاجتماعية والثقافية. فلا وسائل اعلام لا تغترض دولة. والسلطة جعلت المجتمع فضاء لمعرفة مشتركة ومعممة، من طريق توحيدها مراجع المواطنين الثقافية، ومخاطبتهم بلغة مشتركة، ومصطلح متعارف من الرموز. وعليه، فالترفيه الاعلامي انما خرج من رحم السياسة وشأنها. ونحن، اليوم، نعجز عن تصور حياتنا من دون وسائل اعلام، بل اننا انقلبنا الى مدمني وسائل اعلام واتصاله. وبلغ الإدمان ذروته مع التلفزيون. فنحن نشغل الأجهزة تلقائياً عند العودة من العمل مساء، ومن غير انتظار. ولا نرى ضيراً في تركه مشتعلاً لا ينظر اليه أحد. ونتسمر أمام الشاشة على رغم البرامج المملة، ونبدل المحطات، ونعاند إطفاء الجهاز والانصراف الى أعمال أخرى. فالترفيه الاعلامي ليس تعبيراً عن متعة، ولا انطواء أو انعزالاً. فهو يبدو ذا بعد عام، أو جماعي. وهو"محل الرابط". وهذا مصدر قدرته على الغواية. واذا صح ان الترفيه يصرفنا، ذهنياً، عن واقع المجتمع المهني والسياسي والتاريخي، فهو يغرس فينا قيم هذا الواقع ومثله، من دون أن ندرك ذلك. عن أوليفييه فيران ، "لوديبا" الفرنسية. 1/2/2006