درس العلوم الإقتصادية إلا أن السينما امتلكت قلبه. لا الكتابة عبّرت عن مكنونات أفكاره ولا الرسم استطاع ان يعكس آراءه. فقط "المشهدة" كانت خير ممثل لمشاعره بدأت مجرد هواية وتسلية فكان يتوجه من طرابلس الى بيروت ليرى ملصقات الافلام الجذابة ويتابع اي نشاط او تجمع او مهرجان يتناول السينما من بعيد او قريب، الى ان انقلب الوضع مع مشاهدته، مصادفة، برنامج "المتفوقون" الذي تضمن اسئلة في الجغرافيا والتاريخ والادب وطبعاً السينما. ووجد نفسه يسبق المشترك في الاجابة عن اسئلة السينما. لذا قرر المشاركة فيه لمرة واحدة فقط بدافع التجربة، ومن دون ان يدرك نتائج هذه الخطوة اشترك ونجح وفوجئ في اليوم التالي بتعرّف الناس اليه وتشجيعهم له مع الوقت ازدادت الحماسة ومعها التوتر لدى المشاركين الذين كانوا يمضون ساعات في مراجعة موسوعاتهم ووثائقهم، فتجاوزت "الثقافة" مبدأ الحفظ الصرف لتتعداه الى المقارنة والاستنتاج. التحدي كان كبيراً والمنافسة ايضاً، ما دفع اميل شاهين الى متابعة اللعبة حتى النهاية، فتوّج متفوقاً في مادة السينما. نجاحه في "المتفوقون" عام 1980 فتح امامه باب الفرص، ودفع الناس الى الاتصال به لانشاء نوادٍ للسينما في بيروتوطرابلس وعجلتون وغيرها من المناطق. وهو الآن يدرس مادة تاريخ السينما في جامعات عدة. ولى اليوم زمن المنافسة والتحدي والثقافة ليحل محلها الحظ وسرعة الاتصال الهاتفي وأحياناً الذاكرة. برامج الالعاب لم تعد محصورة بأصحاب الكفايات الفكرية، فتستضيف نخبة من الناس تتمتع بقدرات عالية كحفظ مئات الابيات الشعرية او حل عمليات حسابية معقدة في ثوان معدودة او حتى امتلاك مخزون ضخم من المعلومات العامة، بل وسعت دائرة اهتماماتها لتشمل كل شرائح المجتمع: بدلاً من سوق عكاظ يمكنك إلقاء بيت شعر من قصيدتك المفضلة وعلى الهاتف، وحل محل العمليات الحسابية مجرد عملية اختيار رقم الحظ، وانحصرت المعلومات العامة بسلسلة خيارات و"إنت وحظك" في النهاية! إنطلاقاً من هذه الظاهرة والإقبال الواسع الذي تشهده، كان لا بد من مقابلة اصحاب الاختصاص لمعرفة اسباب انتشار هذه البرامج وتشابهها وأهدافها، إضافة الى مقارنة ما بين الامس واليوم. نهضة الثمانينات مع "المتفوقون" و"المميزون" و"الأولون" وغيرها... يمكن القول إن الثمانينات عرفت نهضة نوعية على صعيد البرامج التي اعتمدت الثقافة وسيلة للنجاح. واعتبر الناقد واستاذ الجامعة اميل شاهين ان برنامج "المتفوقون" كان مبنياً على "الثقافة التي تخطت مرحلة حفظ الاسماء لتصبح قائمة على التحليل وجمع المعلومات من مصادر عدة"، فأثبت ان المعرفة "قد توصل الانسان الى الشهرة والنجاح". الانتشار الذي حققه البرنامج حوله قضية وطنية ذات منحى طائفي ما يفسر تعرضه لضغوط سياسية نتيجة لخسارة مشترك من هذه الطائفة او تلك يذكر شاهين ان الرئيس كميل شمعون طلب يوماً رؤية المشترك الارمني ليعرف مصدر معلوماته بعد إجابته عن اسئلة عن تاريخ لبنان كان هو يجهل الإجابة عنها على رغم معايشته المرحلة المذكورة. وفي هذا المجال اوضح معدّ برنامج "المتفوقون" الكاتب مروان نجار ان "همّ البرنامج كان تربوياً وليس ترفيهياً، ومن اهدافه غير المعلنة ابدال صورة البطل الحربي، خصوصاً ان البرنامج عرض عام 1980 في اوج الحرب اللبنانية ببطل سلاحه كتاب ومعرفة. الوسيلة هي المباراة، والهدف تثبيت صورة البطل الذي تحب الاجيال ان تتباهى به. اما الشروط فهي مجموعة اختبارات قاسية تحدد مستوى المشتركين الفكري وتؤهلهم للاشتراك في البرنامج او تقصيهم عنه اسماء عدة لمعت وشغلت المجتمع اللبناني نذكر منها امين خزعل وجوزف معلوف المتفوّق في مادة الجغرافيا والذي يملك اموراً مذهلة في طريقة تكوين ثقافته واستحضارها فأدهش الجميع وخصوصاً لجنة الحكم. ويروي نجار واقعة طريفة حدثت اثناء التصوير مع جوزف معلوف الذي طلب منه إعطاء اسم جزيرة تقع في جنوب الاطلسي وعاصمتها ادنبرغ. ارتبك معلوف واحمر وقبل ان ينتهي الوقت بثوان معدودة قال "تريستان داكونها". لدى انتهاء تصوير الحلقة ترجه المشترك الى لجنة الحكم مستغرباً هذا السؤال إذ تبيّن انه لم يكن يعرف عاصمة تلك الجزيرة، لكنه أخذ يستعرض تاريخياً مستعمرات انكليزية في تلك المنطقة غالبيتها من الاسكتلنديين، فخطرت بباله هذ الجزيرة. آخ... يا مستوى! اليوم تغيرت الصورة وتغيرت اللعبة وتغير المشتركون. برامج الالعاب باتت تعتمد التواصل المباشر الذي يسمح للجمهور بأن يدخل على الخط، ففتحت، من جهة، باب الاشتراك امام الجميع وركّزت من جهة ثانية، اهتمامها على "التسلية السهلة". ويعتبر مروان نجار ان دور التلفزيون لا يقتصر فقط على التسلية والترفيه على رغم اهميتهما اذ لا بد من ان يحمل كل برنامج مردوداً معيناً على مستوى الوجدان والفكر "والا فشل وفقد معنى وجوده. ومن الاسباب التي ادّت الى اعتماد هذا الاسلوب الذي يلقى، على رغم كل شيء، نجاحاً لدى المشاهدين "استخفاف اداريو التلفزيون بمستوى المشاهدين الفكري إذ بالغوا في استعمال الاسلوب السهل باعتبار ان المشاهد كائن بدائي يتبع غريزته على رغم إظهار العكس في مناسبات عدة، والحكم المتسرّع عبر التخمين المتهوّر، وهو من اهم العاهات التي ترافق صاحب القرار الاعلامي لانه مسؤول عن البرامج المعروضة. إنهم لا ينظمون جلسات لتبادل الافكار ولا يقومون بمسح نوعي لمعرفة حاجات السوق، وبالتالي، لم اجد احداً مستعداً لاستثمار الجهد او المال في سبيل معرفة اتجاهات السوق. إنهم يصرفون المال من اجل المستهلكين بدلاً من ان يصرفوه لخدمة المواطنين". ويعزو رئيس مجلس الادارة السابق لتلفزيون لبنان جان كلود بولس تراجع مستوى برامج الالعاب الى "توسّع شبكة التلفزيون التي باتت تطاول كل شرائح المجتمع وتوجهاته. ما فرض تغييراً في نوعية الالعاب التي تقدّم. لذا اعتمدت البرامج، اكثر، الحركة وجاذبيّة الربح الكبير إضافة الى سهولة الاسئلة للتشجيع على المشاركة. الناس اصبحوا هم العرض بدلاً من اللعبة، فنرى مثلاً الفرحة عندما يُفتح الباب في موضع معيّن أو متى ينالون نقطة في "ياليل يا عين" او يربحون لدى اتصالهم بالبرنامج. هناك تغيير في الذهنية والتفكير لان البرامج عالمياً تتّجه نحو تسهيل اللعبة على المشاهد او المشترك مع استثناءات قليلة مثل Question pour un Champion وPyramide اللذين يتكلان كلّياً على المعلومات العامّة وينحصر الربح فيهما على موسوعة معيّنة بدلاً من المال. اللبنانيون يفضّلون الحركة والاشتراك المباشر والنكتة على مشاهدة شخص يفكّر، ثلاثين دقيقة، من دون ان يحصل شيء مثير من الاستديو. والذين لا يسعون وراء التسلية في التلفزيون يمكنهم ان يتابعوا البرامج التثقيفية التي تستضيف الشعراء والكتّاب والسياسيين في أوقات متأخرة أحياناً". تشابه الافكار برامج الالعاب اصبحت الخبز اليومي للكبار والصغار فأدمن البعض مشاهدتها ومتابعتها والاشتراك فيها. لكن اقتصارها على التسلية والترفيه وتشجيعها فقط مبدأ الربح السهل والسريع، حملا اثراً سيئاً على المجتمع وخصوصاً على الاولاد الذين يعتبرون، كما يقول مروان نجار، ان "الحياة هي بتفاهة هذه البرامج، ومن سيئاتها ايضاً انها تدفع المشاهدين الى فقدان الثقة بالاعمال المحلية فيلجأون الى الانتاجات الاجنبية، الامر الذي يهدّد خصوصيتنا إنهم يظنون ان العولمة تمحو الخصوصية علماً انّها في الحقيقة تسعى الى ترسيخها. هذه البرامج تشكل خطراً على الاولاد لانها تفقدهم الايمان بلغتهم وخصوصيتهم فيميل ذوقهم الى الخارج". الصحافية ومعدّة البرامج الإذاعيّة والتلفزيونية سنا اياس ختشاريان تؤيد مقولة ان السهولة والبساطة تسيطران على برامج الالعاب، وتعتبر ان هذا الوضع ليس سيئاً "اذا كان البرنانج مركّباً بطريقة ذكية". إنها ظاهرة عالمية تؤثر في برامج الالعاب الثقافية التي وضعت جانباً مع ظهور برامج مثل "من يريد ان يصبح مليونيراً" الذي ينتشر في انكلترا ويتضمن اسئلة ليست صعبة، بل جذابة مع سهولة الربح، فلم يعد من الممكن التفكير ببرنامج اسئلة اقوى منه، لانه يجمع التسلية والبساطة ويقدّم بطريقة ذكية ومتجانسة. وتلاحظ ايضاً افتقاد برامج الالعاب الى عنصر الصورة لتتحوّل "إذاعية - تلفونية"، وتقول: "إن عنصر الصورة ضعيف في هذه البرامج التي يتم تصويرها في مكان ضيّق، فيكتفون بطرح الاسئلة من دون ان يحصل اي شيء مهم في الاستوديو. إضافة الى ذلك ثمة نقص في الابداع الافكار الجديدة، لأننا في مرحلة نقل الافكار من الخارج، إذا كانت الفكرة ناجحة، واذا نفذّت بطريقة صحيحة، يمكن ان يكتب لها النجاح. وتعاني احياناً بعض البرامج مشكلات في التطبيق على اعتبار ان كل عمل يتطلب فريق إعداد متفاهماً لنقل الافكار بدقة والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة". وتخوّف القيمين في المحطات التلفزيونية من بعض الافكار الجريئة والمكلفة احياناً دفعهم الى استبدالها بأخرى مبتذلة ومتشابهة. وتشير ختشاريان في هذا المجال الى انها قدمت افكاراً عدة لبرامج لم تر النور، كونها تتطرّق الى مواضيع حسّاسة ودقيقة كالدين، او لانها باهظة التكاليف، فارتأى المسؤولون وضعها جانباً. وقد حول غياب المغامرة والمبادرة لدى المسؤولين عن المحطات التلفزيونية، برامج الالعاب مجموعة نسخ خالية من الابتكار، فأصبحت "مبتذلة"، على حد قول مقدمة البرامج في تلفزيون "المستقبل" ريما مكتبي "ومستعملة في شكل واسع فغالبية البرامج الحالية تهدف الى التسلية والترفيه ونجد انها تتضمّن فقرة تسمح بمشاركة الناس". واعتبرت مكتبي ان "القيمين على المحطات شوّهوا برامج الالعاب الكبيرة التي كانت تعرض في اميركا مثلاً، تخصّص لها موازنة صخمة. اختلف الموضوع الآن واختلفت قيمة الهدايا الموزّعة على الرابحين فتدنّت كثيراً. المشكلة ان اصحاب المؤسسات يريدون الارخص والناس يطلبون الاسهل كونهم سئموا الصعب". وعن برنامج "شوفا وخدا" الذي تقدمه على شاشة "المستقبل"، قالت مكتبي "انه يتضمّن ثلاث العاب: الأولى "شوف وتذكّر" التي تعتمد كلّياً على الحظ وتقتصر على اختيار صورتين متشابهتين، والثانية "خمسة على خمسة" وهي كناية عن مجموعة اسئلة يمكن اي شخص ان يجيب عنها، ولو كانت ثقافته محدودة، واللعبة الاخيرة "سؤال ورد جوابه" وهي موجّهة الى المثقفين وطلاب الجامعة وتتضمّن سؤالاً صعباً. ونتوجه من خلال البرامج الى كل فئات المجتمع من دون اقصاء احد، من الولد الى ربّة المنزل وحتى المثقفين... عبر تعدّد الالعاب". وتعتبر ريما ان تقديم برامج الالعاب هو بمثابة مرحلة اولى من حياتها المهنية واساس جيد للتقدّم لاحقاً إذ "من الصعب كثيراً إضحاك الناس في هذه الظروف الصعبة. وعلى رغم ذلك، طموحي يتخطّى برامج الالعاب التي اخترتها واحببتها. فالمشاهدون يرتاحون الى برنامجنا لاننا لا ننقل اخبار البلد السياسية ولا نخبرهم عن المشكلات والمصائب التي يعانيها العالم بل نكتفي بتسليتهم وإضحاكهم". وأخيراً، من سئم سماع الاسئلة نفسها او رؤية الالعاب نفسها. ويريد تغييراً للوضع يمكنه، كما اقترحت سنا ختشاريان، ان "يقاطع هذه البرامج فيظهر ان البرنامج ليس ناجحاً. ولا ننسى ان على جدول برامج التلفزيون ان يكون متنوّعاً ليلبّي كل الاذواق وكل المستويات الثقافية فيتضمّن السهولة والالعاب والثقافة". اما اذا اردنا تحسين مستوى برامج الالعاب، فيرى جان كلود بولس "اولاً إقامة نوع من التصفية للوصول الى مشتركين ذوي مستوى ثقافي مقبول، ثانياً، إيجاد مقدّم خفيف الدم ولديه الثقافة الكافية لتصحيح المعلومات احياناً مثل المقدّم الراحل رياض شرارة، واخيراً يجب زيادة اسئلة او ايجاد لعبة مشوّقة تجذب الناس وتدفعهم الى التساول والمتابعة والتعلق بالبرنامج لان الجمهور يحتاج الى الحركة والتسلية والتشويق التي تشكل له متنقساً بعد نهار عمل طويل ومضن".