تراجعت في معظم الصحف المصرية أخيراً أبواب الكلمات المتقاطعة لتأخذ مكانها"الأخبار المتقاطعة". في أبواب الكلمات المتقاطعة يظل الهدف التقليدي هو تسلية القراء من خلال تنشيط ذاكرتهم أو قدراتهم على ملء فراغ الحروف والكلمات، وفي النهاية ستنشر الجريدة الإجابات الصحيحة في العدد نفسه، وأقصاها في العدد التالي. لكن المشكلة في الأخبار المتقاطعة الجديدة هو أنها تصبح ألغازاً متقاطعة تستعصي على الفهم ولا تجد لها إجابات صحيحة... لا في اليوم التالي ولا في الشهر التالي ولا حتى في السنة التالية. لنأخذ مثلاً أسبوعاً واحداً في شهر تشرين الثاني نوفمبر الماضي، في الأول من الشهر قرأ الناس خبر اشتراك خمسة بنوك مصرية في تقديم قرض قيمته مئة مليون دولار إلى شركة من تركيا اختارتها الحكومة المصرية لإقامة صالة ثالثة للركاب في مطار القاهرة الدولي بالتعاون مع"الشركة القابضة للطرق والكباري"وهي حكومية. الصالة الجديدة ليس فيها أي تكنولوجيا خارقة تستعصي على الشركات المصرية، كما أنها مجرد بناية توجد في مصر منها عشرات، وفوق هذا وذاك فإن الشركة التركية ستنفذ المشروع المصري بأموال مصرية، أو على وجه الدقة بمئة مليون دولار أميركي كقرض تدفعه لها مسبقاً بنوك مصرية. في السابع من الشهر نفسه، نقرأ خبراً آخر في صفحة داخلية من جريدة متخصصة، خلاصته أن شركة حكومية لمكونات النسيج في كفر الدوار احتاجت إلى تمويل إضافي عاجل مقداره 16.3 مليون دولار لتستمر في الإنتاج. هذا التمويل لم تجد الشركة المصرية بنكاً مصرياً يقرضه لها فحصلت عليه أخيراً من بنك في... الصين. الشركة مع غيرها ضحية سياسة مقررة وثابتة منذ عشر سنوات على الأقل تقضي بمنع إعطاء قروض جديدة لشركات القطاع العام في الغزل والمنسوجات تحديداً. الشركات كانت تقوم سابقاً بتمويل احتياجاتها وتوسعاتها من أرباحها الخاصة. لكنها منذ العام 1991 أصبحت ملزمة بتوريد أرباحها بالكامل إلى الحكومة. فإذا احتاجت إلى شراء معداتها أو مجرد صيانة ما تملكه فعليها الاقتراض من البنوك وبفوائد تراكمية. وبالنتيجة تحول معظم الشركات من الربح إلى الخسارة بما جعل البنوك تتوقف عن إقراضها وبالتبعية اضطر معظمها إلى إغلاق مصانعها كلياً أو جزئياً وما يعنيه ذلك من بطالة صريحة ومقنعة لعمالها... علماً بأن شركات الغزل والنسيج هي الأكثر كثافة في تشغيل العمال. لغز متقاطع آخر: واحد من بنوك القطاع العام الأربعة الرئيسية، تسهل إدارته استيلاء رجل أعمال على 1359 مليون جنيه، كانت وقتها تساوي 500 مليون دولار. رجال أعمال آخرون يحصلون بالطريقة نفسها - النفوذ السياسي - من البنك نفسه على مئات الملايين من الجنيهات والدولارات كقروض، ثم يهربون مع قروضهم إلى خارج مصر. شركة قطاع عام مصرية تكتشف السلطات السويسرية أن لرئيسها حسابات سرية في بنوكها اشتبهت الشرطة في أنها تستخدم في غسيل الأموال. من هنا فقط طلبت السلطات السويسرية من مصر التحقيق، فتكتشف مصر التلاعب الخطير الذي جرى بإحدى شركاتها المملوكة لها وأول دفعة جرى التأكد من تهريبها كانت 120 مليون جنيه من أموال الشركة إلى سويسرا سراً وكان يمكن أن تتضاعف لولا اكتشاف الشرطة السويسرية للمسألة في سياق مختلف تماماً. أما في شركة الحديد والصلب المصرية، وهي أيضاً قطاع عام، فحصل رجل أعمال - بالصدفة أيضاً - على 320 ألف طن من منتجات الشركة بغير غطاء مالي، أخذا بفكرة الدفع حين ميسرة. لم يتم الدفع ولم تجئ الميسرة فأصبح مستقبل الشركة العملاقة على كف عفريت. في سنوات الثمانينات عانى الاقتصاد المصري من ظاهرة مستجدة ودخيلة عنوانها"الموت نصباً": شركات تنشأ تحت عنوان توظيف الأموال في مقابل أرباح استثنائية. خلال فترة قصيرة أسفر اللغز عن ضياع مدخرات شريحة معتبرة من المصريين. وحتى الآن لا يزال الضحايا يتساقطون عمراً وصحة. أصحاب الشركات أنفسهم: إما هربوا بأموال المصريين إلى خارج مصر أو أصبحوا سجناء. أما ما لم تتم المحاسبة عليه بصرامة وعلانية فهو: كيف حصلت تلك الشركات أصلاً على تراخيص حكومية بالعمل وبتجميع مدخرات المصريين وباستخدام شعارات ظاهرها الإسلام وباطنها النصب؟ لم يحاسب مسؤول حكومي واحد من الذين باركوا تأسيس تلك الشركات... وفي حالات عدة أفادوا منها. الجناة في الهواء الطلق والضحايا في خريف العمر. مع بداية التزام مصر طوعاً برنامجاً لخصخصة قطاعها العام في العام 1991 تحول الاقتصاد المصري من مرحلة"الموت نصباً"إلى مرحلة"الموت نهباً". شرائح مستجدة من الجراد تحت غطاء أنهم رجال أعمال أتيح لهم بنفوذ غير مفهوم حتى اللحظة نهب أموال البنوك العامة ومنتجات الشركات العامة بغير الضمانات المعتادة مصرفياً، والتركيز كله على بنوك القطاع العام تحديداً، مع أنه كان في مصر وقتها أكثر من أربعين مصرفا أجنبياً وخاصاً. المستفيدون اختفوا أو هربوا بقروضهم إلى الخارج. ومن الخارج بدأت الحكومات المصرية المعتبرة - بنصائح من داخلها - السعي إلى التصالح مع الهاربين. الحكومة هي التي تسعى إلى التصالح، وليس فقراء المصريين أصحاب الودائع لدى البنوك التي أساءت استخدام أموالهم بتفويض سياسي، وأحياناً بمجرد مكالمات هاتفية... في لغز جديد آخر لا تنفع معه أبواب الكلمات المتقاطعة. التزام مصر خصخصة قطاعها العام نشأ أصلاً من الاتفاق برعاية أميركية مع دول"نادي باريس". كان أساس هذا الاتفاق الموافقة على إسقاط نصف ديون مصر الخارجية وقتها، في مقابل التعهد مسبقاً بالشروع في بيع القطاع الخاص المصري من مرحلة"الموت بيعاً"إلى مرحلة"البيع خنقاً"، فحتى يبتلع الرأي العام المصري، الذي جرى تغييبه عمداً عما يجري، لغز الشروع الحكومي في بيع شركاته العامة الرابحة، بدأ منع تلك الشركات من أي استثمارات جديدة لازمة، ولو لمجرد صيانة المعدات الموجودة. فإذا كان ضرورياً، يصبح على الشركة العامة أن تسلم الحكومة أرباحها أولاً بأول، وبعدها تهب إلى البنوك مقترضة بفوائد تراكمية. الموت هو الموت: نصباً أو نهباً أو بيعاً أو خنقاً. لكننا نتحدث هنا عن اقتصاد وسياسة... وبشر. الاقتصاد في أحد جوانبه هو سياسة مركزة. فحين يدخل إلى سوق العمل في مصر كل سنة 750 ألف شاب متوقعين مورد رزق مشروع ومنتج، يصبح الاقتصاد الحقيقي هو المستعد لاستيعابهم بطريقة منتجة تضيف إليهم، وفي اللحظة نفسها تضيف إلى مصر. من هنا تصبح السياسة الجادة هي وضع البرامج الجادة الفعالة مسبقاً لتنمية اقتصادية حقيقية تزرع اليوم ما تجنيه غداً. السياسة هنا هي الإضافة إلى الاقتصاد وليس الخصم منه. طوال 15 سنة من سياسة بيع القطاع العام لم يكسب الاقتصاد المصري صناعة واحدة جديدة ولا أضيفت إلى مصانعه أي تكنولوجيا جديدة. على العكس، فإن بعض الصناعات الموجودة الناجحة الرابحة تخلفت لأنها ممنوعة حكومياً من الاستثمار الإضافي. في شهر تشرين الأول اكتوبر الماضي قال المستشار التجاري للسفارة الأميركية في القاهرة أمام نخبة مختارة من المصريين، وبرعاية مؤسسة صحفية قومية، إن القطاع العام المصري أصبح بمثابة"حائط برلين"واجب الإسقاط، في إشارة إلى الحائط الشهير الذي جرى إسقاطه في العام 1989 فانفتحت ألمانياالشرقية وكل أوروبا الشرقية وقتها أمام المشتاقين من الشركات الأميركية للشراء بسعر التراب، ما سمي لاحقاً بموجة الخصخصة. التشبيه هنا إيديولوجي بالثلاثة لأن الصراع الأميركي- السوفياتي وقتها على أوروبا لا يعني تلقائياً أن العالم الثالث النامي - ومصر منه - أصبح غنيمة حرب أميركية. بالنسبة الى مصر، لم ينشأ القطاع العام عن دوافع إيديولوجية. نشأ بحكم الضرورة ولأسباب عملية عاجلة. نشأ رغبة في تعويض سريع للتخلف وإصرار على دخول عصر الصناعة بجدية. في دولة نامية كمصر لا تعني إقامة مصنع جديد مجرد مبانٍ وآلات. والدول الكبرى في عالم اليوم تغفل حقيقة أنها دخلت عصر الصناعة معفاة من كل تلك التكاليف الاجتماعية الإضافية. ومن يعود إلى قصص تشارلز ديكنز مثلاً سيعرف كم قصفت الرأسمالية المتوحشة في بداياتها أعمار ثلاثة أجيال على الأقل من العمال، وكان الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت أول من اضطر إلى تقييد تلك الرأسمالية المتوحشة بعدما أوصلت أميركا إلى الخراب فأنقذها من توحشها... لبعض الوقت. مع التغيرات الدولية انقلبت أميركا على نفسها وعادت الرأسمالية المتوحشة من جديد وهي لا تمارس توحشها إلا على الدول النامية. في تنبؤ مبكر كتب مستشار بارز للرئيس الراحل جون كينيدي أن أميركا أصبحت مثل صاحبة بيت الدعارة التي تقاعدت بعد العمر والثروة فبدأت تنصح الآخرين بالفضيلة. وحسب رأيه، فإن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لو كانا موجودين سابقاً وأخذت أميركا الدولة الناشئة بمشورتهما لما عرف العالم اليوم قوة عظمى اسمها أميركا. وحتى في اللحظة الراهنة، لا تزال أميركا - محامي الاقتصاد الحر - توفر حماية منظورة وغير منظورة لبعض منتجاتها. مع ذلك فإنهم - أميركا وغيرها - يمطرون الدول النامية صباح مساء بمواعظ عن تحرير التجارة، مصحوبة بسيف منظمة التجارة الدولية وصندوق النقد الدولي وغيرهما. دعونا نقرر هنا أن الأصل في الأشياء هو التجارة الحرة والأسواق المفتوحة والقطاع الخاص والمنافسة غير المقيدة. لكن لكي تنافس يجب أولاً أن تبقى على قيد الحياة. تجتهد وتتعلم وتتدرب وتنتج قبل أن تستورد. أليس لغزاً محيراً مثلاً أن نتابع في مصر مناقصات حكومية لتوريد سلع يشترط في الإعلانات أن تكون صناعة أميركية أو أوروبية أو يابانية؟ لا نتكلم هنا عن أجهزة كومبيوتر مثلاً. نتكلم عن أحواض غسيل من الصلب ومناشف ومقصات وشاش أبيض وغيرها من السلع التي تنتجها مصانع مصرية بكفاءة وجودة منذ نصف قرن على الأقل. أليس لغزاً أيضاً أن تشرع مصر في بيع بنوكها فتصر مسبقاً أن يكون البيع لبنوك أجنبية تحديداً؟ ثم: أليس لافتاً أن تباع صناعات حاكمة في مصر كالحديد والأسمنت والسكر، فيبدأ المشترون الجدد برفع أسعار البيع بنسبة 50 في المئة وأحياناً مئة في المئة، بما يؤدي تلقائياً إلى ارتفاع تكاليف إنتاج عشرات أخرى من السلع؟ أليس عجيباً أن يرفع مصنع واحد بعد خصخصته سعر بيع طن الحديد 300 جنيه دفعة واحدة فيحقق البائع بليوني جنيه أرباحاً إضافية سنوياً، من دون أن تفكر الحكومة في انعكاس ذلك على تكاليف إقامة مساكن جديدة للمواطنين. ثم: أليس عجيباً أن يكشف محافظ البنك المركزي أخيراً أن برنامج البدء ببيع البنوك العامة والشركات الكبرى الأخرى قرره الحزب الحاكم والقيادة السياسية منذ تشرين الأول 2004، لكن إعلان ذلك تأجل إلى ما بعد الانتخابات؟ وحين يندهش مواطنون من تفكير الحكومة في بيع شركة الدخان وهي التي تحصل منها الحكومة سنوياً على أربعة بلايين جنيه رسوماً وضرائب، فيرد وزير المال بأن خصخصة الشركة سيجعلها تضاعف إعلاناتها لترويج المزيد من سجائرها بين المصريين فيصبحون أكثر تدخيناً وسعادة. ربما من أجل هذا ترفض الحكومة بإصرار التشاور مع البرلمان أو الرأي العام بشأن الخصخصة، فربما لو عرض وزير المال خصخصة شركة السجائر يقنعه البرلمان بأن يزيد من تدخين سجائره هو تاركاً للمصريين شركتهم ومصانعهم وأرباحهم بعيداً عن جشع فرق الجراد الدولية. كاتب مصري.