لم تنتظر الحكومة الجديدة في مصر قرار تشكيلها أو اعادة تشكيلها أخيراً لتفصح عن أضخم" انجازاتها"الموعودة، وهو الإسراع ببيع ما تبقى من شركات عامة تحت عنوان"الخصخصة". كانت انتخابات الرئاسة في الأفق، ثم الانتخابات البرلمانية، والبلد في حراك سياسي يفترض فيه ترقب صناديق الاقتراع. مع ذلك قرأنا في صحف 14/9/2005 الماضي تصريحات لرئيس الوزراء أحمد نظيف يقرر فيها أن استراتيجية الحكومة تشمل توسيع برنامج الخصخصة ليتضمن البنوك العامة وشركات التأمين والاتصالات والغاز. كان هذا انقلابا سياسياً / اقتصادياً من الدرجة الأولى. فالقطاعات التي ذكرها رئيس الوزراء هي بطبيعتها استراتيجية وتمثل ركائز أساسية لاقتصاد الدولة، وكان مفهوماً من البداية أنها محرمات لا يجوز الاقتراب منها... أولاً لأنها الأكثر ربحاً، وثانياً لأنها أعمدة للأقتصاد الوطني في دولة نامية، وثالثاً لأن تحقيق ملكيتها العامة احتاج الى جولات وجولات من النضال الوطني الذي تحمله جيلان سابقان من المصريين، وفي بعض الحالات ثلاثة أجيال. رئيس الحكومة القديمة أُعيد تأكيده رئيسًا للحكومة الجديدة محتفظاً فيها بفريقه الاقتصادي من الوزراء العاملين بهمة لكسر المحرمات الوطنية من خلال الخصخصة. وفي أسبوع واحد من السبت 7 الى الخميس 12 كانون الثاني يناير 2006 أعلن أحد وزراء المجموعة الاقتصادية الإعداد لطرح 45 شركة قطاع عام"ذات الربحية المرتفعة"للبيع، تضاف اليها 47 شركة مشتركة، وحصة من شركة للأدوية، ثم شركة لصناعة الألومنيوم، وشركة ثالثة للإسكان في القاهرة... وكلها شركات عملاقة في مجالها وأرباحها المتزايدة مورد ثابت للميزانية العامة. وأعلن وزير آخر أنه فوق ذلك لابد من خصخصة التعليم والصحة أيضاً. وبين التصريحين أعلن فجأة عن بيع حصة المال العام في رأسمال بنك مشترك هو"المصري الأميركي"... والبيع تم لبنك فرنسي غير معروف في مصر ولا في المنطقة أصلاً. نتذكر قبل شهور قليلة أزمة وزارية وقعت في ايطاليا واضطر معها وزير الاقتصاد للاستقالة، وذلك لأن محافظ البنك المركزى الإيطالي عرقل بيع أحد البنوك الصغيرة الى بنك أجنبي هولندي رغم أن هولندا عضو في الاتحاد الأوروبي، وهذا ما دفع خبيراً مصرياً مرموقاً هو الدكتور حازم الببلاوي للتنبيه الى ما يجري لأن الخصخصة ليست كتاباً مقدساً كما أن المصلحة الوطنية العليا يجب أن تكون الفيصل وليس مجرد اغراء البيع. كتب الببلاوي هذا التحذير رغم أنه هو نفسه من الساباقين للدعوة الى الخصخصة والتبشير بها. لكنه رأى أن المسألة تجاوزت حدودها في الحالة المصرية بما يقتضي التحذير. حصل الشيء نفسه اخيراً حين أعلنت الحكومة عن بيع حصة بنك الاسكندرية قطاع عام في رأسمال البنك المصري الأميركي قطاع خاص الى بنك فرنسي. هذه المرة، ورغم التعتيم الحكومي، خرج اثنان من الخبراء الاقتصاديين المصريين الكبار، والمؤمنين أصلاً بالاقتصاد الحر، ليسجلا علناً اعتراضهما. وأهم اعتراضات الدكتور هشام حسبو رئيس قسم المحاسبة في كلية تجارة جامعة عين شمس، وسلطان أبو علي وزير الاقتصاد والتجارة الأسبق، هي باختصار شديد: ان البيع تم بأقل من سعر أسهم البنك في البورصة، فخسرت الحكومة 14 في المئة من قيمة حصتها بلا مبرر. وفي تقدير أحد أكبر بيوت التمويل في مصر المتخصصة في الأوراق المالية فإن السعر العادل لسهم البنك هو 88 جنيهاً لكنه بيع ب 45 جنيهاً.ثم ان الحكومة لم تكن مضطرة الى البيع حصتها بتلك القيمة البخسة. كما انها اختارت الحكومة البيع مباشرة الى بنك أجنبي وحرمت القطاع الخاص المصري من التنافس على الشراء. في ايطاليا رفض محافظ البنك المركزي الايطالي بيع بنك ايطالي صغير الى بنك أجنبي واضطر وزير الاقتصاد للاستقالة. وفي مصر تبيع الحكومة حصتها الى بنك أجنبي وبنصف القيمة السوقية، فتهنىء الحكومة نفسها على هذا"الانجاز"المدهش ويعتبر وزير الاستثمار في تصريحاته أن ما يجري هو مجرد"فتح كلام" تعبير من العامية المصرية يعني فتح الشهية، شهية الأجانب طبعاً لشراء ركائز الأقتصاد المصري. كانت بداية عملية الخصخصة في مصر متلازمة مع حرب تحرير الكويت. في حينه قيل انه تقرر مكافأة مصر على مشاركتها لأميركا في الحرب بإسقاط نصف ديونها الخارجية. لكنه ارتبط أيضاً بالتزام مصر ببرنامج شامل قرره صندوق النقد الدولي لبيع القطاع العام المصري... القطاع نفسه الذي بغيره لم يكن صمود مصر الأقتصادي ممكناً بعد الغزوة الأسرائيلية في 1967، وكذلك لم تكن حرب أكتوبر ممكنة في 1973. في البداية قيل ان البيع هو فقط للشركات الخاسرة. وبعدها قيل ان البيع هو للتخلص من الإدارة الفاشلة للمشروعات العامة. ثم قيل ان البيع لن يمس حقوق العمال. في كل الأحوال قيل ان هذا البيع سيفتح شهية الأستثمارات الأجنبية للمجيء الى مصر. لم تأتِ الأستثمارات الأجنبية الى مصر، جاءت فقط لشراء ما هو موجود وناجح ورابح بالمعايير الاقتصادية البحتة. وفي كل الأحوال قطع البيع الطريق على أي استثمارات جديدة تضيف الى الاقتصاد المصري. فبالبداهة: لماذا يتعب مستثمر أجنبي نفسه بإقامة مشروع جديد اذا كان الأسهل شراء مشروع قائم ورابح له من اليوم الأول؟ حتى الفنادق الكبرى التي كانت تديرها شركات عالمية مقابل حصة من الأرباح باعتها الحكومة ليحصل المشتري الأجنبي على كل الأرباح. في بعض الحالات اشترت شركة أجنبية شركة مصرية ثم باعتها تالياً الى شركة أجنبية بأربعة أمثال السعر الذي دفعته. في حالات أخرى كان المشتري يحصل على الشركة ثم يبيع أراضيها الفضاء بسعر السوق فيغطي ما دفعه وكأنه حصل على الشركة مجاناً. في كل الحالات كان أحد الشروط الثابتة في البيع هو حق المشتري في تسريح من يشاء من العاملين، واضطرت الحكومة الى تلفيق ما يسمى بالمعاش المبكر كرشوة لإغراء المزيد من العاملين بالخروج الى سوق البطالة وهم فى عز العطاء والخبرة. تلخيصاً لهذا كله سأتوقف فقط عند نموذجين صارخين لهذا النوع من الخصخصة الذي ابتكرته الحكومات في مصر وحصلت في حينه على شهادات بحسن السير والسلوك من صندوق النقد الدولي... والذي منه! هناك شركة"قها"للمعلبات الغذائية، وكانت ناجحة ورابحة طوال خمسين سنة على الأقل وتصدر معلباتها الى الدول العربية والأفريقية. بعد بيعها، وبالتقسيط المريح، لم يلتزم المشتري الوفاء بما تعهده، ولا بدفع مستحقات الدولة من الضرائب والتأمينات. وفي النهاية امتنع عن دفع حتى مرتبات العاملين. استغاث عمال الشركة وطرقوا كل أبواب الحكومة والبرلمان لكن أحداً لم يرغب في المراجعة... في الانتخابات البرلمانية الأخيرة نزل الى الدائرة التي تقع فيها شركة"قها"مرشحون من العيار الثقيل، من الحزب الوطني الحاكم ومن الاخوان المسلمين وفي ذيلهم سيف المعز وذهبه. المفاجأة هي أن الناخبين رفضوا هذا وذاك. واختاروا المرشحة الأقل انفاقاً على حملتها الانتخابية. في الواقع ساهم الناخبون أنفسهم في التمويل لأنهم يريدون المرشحة التي تعمل في شركة"قها"واستمرت طوال سنوات تدافع عن بقاء الشركة وحقوق عمالها بما اضطر الحكومة بعد طول مراوغة الى اعادة النظر في قرار البيع. وكما كتبت الزميلة منال لاشين أخيراً فإن"الحاجة جمالات رافع امرأة مصرية طرقت أبواب الصحافة ومجلس الشعب منذ أربع سنوات تدافع عن حقها وحق زملائها في لقمة العيش والمستقبل. هذا المستقبل تهدد بصفقة بيع مشبوهة لمصنع قها الذي تعمل به الحاجة جمالات كما يطلقون عليها. ولم تستسلم جمالات لوثائق البيع ولم تخش من قوة الحكومة ولا من التهديدات وجاءت الى الصحافة وطرقت باب مجلس الشعب ونجحت في الحالتين في جعل قضية بيع قها حية وفضيحة حكومية متحركة... وأوقفت بجهادها بيع الشركة"مع أن بعض الوزراء كانوا يسخرون من سذاجة الست جمالات وتصورها أنها تستطيع أن تقف في وجه قطار الخصخصة السريع جداً. نموذج آخر هو شركة مصر للغزل والنسيج بالمحلة الكبرى. أكتب هنا اسم الشركة قاصداً لأن شهرتها واسعة بامتداد العالم العربي منذ أكثر من ستين سنة على الأقل. تلك هي القلعة الصناعية الكبرى التي أنشأها طلعت حرب وكانوا في صبانا يأخذوننا في رحلات مدرسية لزيارة مصانعها حتى نؤمن بقدرة مصر على المنافسة عالمياً بمنتجاتها من الأقمشة والملابس. وفي حالات كثيرة كان انتاج الشركة من الأقمشة والملابس يتم بيعه الى الأسواق العربية والأجنبية بالحجز مسبقاً، رغم التوسعات الكبيرة والمستمرة في مصانع الشركة والتي تمولها الشركة من أرباحها. يكفي أن نقرأ أخيراً بعض التقارير الصحافية لندرك كم نتأخر وبالخطوة السريعة. مثلاً تقرير بعنوان:"غزل المحلة تتأهب للخروج من نطاق الخدمة. الحكومة تبخل بمئتي مليون جنيه 33 مليون دولار لانقاذ قلعة الاقتصاد المصري". تقرير آخر بعنوان"الموت الأكلينيكي يهدد قلعة الغزل والنسيج: توقف العمل في 4 مصانع والديون تهدد بطرد 28 ألف عامل". ماذا جرى؟ الشركة قيل لها منذ سنوات ان عليها توريد أرباحها بالكامل الى الحكومة. الشركة تربح باليمين لكنها ملزمة بتمويل التجديدات الضرورية عن طريق الاقتراض من البنوك وبفوائد تراكمية. خلال سنوات قليلة بلغت الديون وفوائدها بليون جنيه. وبتشجيع من الحكومة اضطرت الشركة اخيراً الى بيع جزء من أراضيها الاستثمارية لتمول احتياجاتها العاجلة. لكن الحكومة استولت على حصيلة البيع أيضاً بحجة أن وزارة المال بحاجة الى الفلوس. الشركة أغلقت أربعة من مصانعها وخسرت صفقات المنسوجات التي تعاقدت على تصديرها وتخسر تدريجاً كل أسواق التصدير التي كسبتها سابقاً بطلوع الروح فتحل محلها شركات أجنبية عملاقة منافسة. وفيما بين الحكومة والحكومة تخسر مصر احدى أهم قلاعها الصناعية ربما تمهيداًً لخصخصتها بسعر التراب ويصبح مستقبل 28 ألف عامل وعائلاتهم في مهب الريح. ربما كان تنقصهم نسخة أخرى من الحاجة جمالات التي عرفت كيف تدافع عن حقوقها وحقوق زملائها في شركة"قها". ربما كانوا في حاجة أيضاً الى صحافة أخرى غير الصحافة القاهرية المنشغلة لشوشتها بالنشر عن المرأة التي ذبحت زوجها بالساطور. ليس الموضوع هنا يساراً أو يميناً... قطاع عام أو قطاع خاص. فعلى رأي الصينيين: لا يهم أن تكون القطة سوداء أو بيضاء. انما المهم أن تصطاد الفئران. الموضوع هو فقط وبكل بساطة: عقل... وقلة عقل. كاتب مصري.