طوال الأشهر الأخيرة في مصر، والى أن تجرى الانتخابات البرلمانية وشيكًا، تغلب على النقاش العام القضايا الداخلية، خصوصًا السياسية. الرئيس مبارك انتخب لست سنوات أخرى. وفي هذه المرة، طرح برنامجًا محددًا للتنفيذ خلال الفترة الرئاسية الجديدة. والحزب الحاكم، بل المحتكر للسلطة في الواقع منذ إنشائه، أكد أن مرشحيه للبرلمان ملتزمون هذا البرنامج الرئاسي الذي طرح أهدافًا أقرب ما يمكن إلى المألوف في خطابات العرش سابقًا. أهداف بحجم توفير أربعة ملايين ونصف مليون فرصة عمل جديدة علاجًا لمشكلة البطالة المتفاقمة واستصلاح مليون فدان جديد في الصحراء وإقامة ألف مصنع، وثمانين ألف مسكن سنوياً... الخ. بالطبع لم يرد نجوم الحزب الحاكم في أي وقت على الأسئلة الجادة المطروحة من نوع: إذا كان هذا البرنامج الطموح قابلاً للتنفيذ، فلماذا لم تنفذه حكومات الحزب طوال الأعوام الأربعة والعشرين الماضية؟ وإذا كانت الموازنة الأخيرة تتضمن سبعين بليون جنيه عجزاً في سنة واحدة، فمن أين بالموارد الضخمة المطلوبة لتنفيذ أهداف البرنامج الرئاسي؟ الردود الحكومية هنا عائمة وغائمة. الأسبوع الماضي، أعلن وزير مختص أن الحكومة لن تدبر الموارد أو تخلق ملايين فرص العمل، وإنما القطاع الخاص وخصوصًا منشآته الصغيرة. لكن ما هي سلطة الحكومة على تلك المنشآت الصغيرة أو حتى على القطاع الخاص كله... وهل استشير هذا القطاع أصلاً، خصوصاً في جزئه الجاد؟ أما جزؤه غير الجاد فهو مجموعة من رجال الأعمال الذين جرى تخليقهم بالنفوذ السياسي عبر قروض بليونية من بنوك القطاع العام. وأصبح الحزب الحاكم يعتمد عليهم عضوياً في تمويل نشاطاته وحملاته الانتخابية. ومن هذا الاعتماد المتبادل، أصبح متوقعاً أن نرى في البرلمان المقبل نفوذا متضخماً لهذا"المال السياسي"كما لم يحدث في مصر في أي وقت سابق. ليس هناك ما يؤذي المال المنتج في أي مجتمع أكثر من المال السياسي، فهذا الأخير يحقق أهدافه بأقل مجهود وعبر علاقات سياسية غير شفافة وبطرق محصنة ضد الاستقامة والحساب العام أو المنافسة الاقتصادية المفتوحة. في أي حال، سيتسع المجال لاحقًا لمتابعة"المال السياسي"ودوره في الانتخابات البرلمانية الوشيكة. لكن ما أصبح واضحًا الآن هو أن الحكومة المصرية لا تتصرف باعتبارها - ولو شكلياً - في أسابيعها الأخيرة. تتصرف كما لو أنها باقية أبداً، خصوصاً فريقها الاقتصادي، فتفرض أمراً واقعاً كل صباح وتقدم التزامات داخلياً وخارجياً على مدار الساعة. قبل أيام، وافقت الحكومة على إنشاء خمس جامعات خاصة جديدة دفعة واحدة، وهو شيء يعجز عنه القطاع الخاص في دولة غنية كبرى، فما بالنا بدولة نامية مدينة تكاثرت فيها الجامعات الخاصة في السنوات الأخيرة، بحجة أن أدنى ربح سنوي هو 17 في المئة. حين يصبح الهدف الأساس من العملية التعليمية هو الربح، نكون خسرنا التعليم العام والخاص معاً. فبدلاً من أن تستغرق الجامعة الخاصة سنوات لإعداد كادرها الخاص من الأساتذة والمتخصصين مثلاً، فإنها تغري كوادر الجامعات الحكومية بالانتقال إليها برواتب مضاعفة، تعوضها من الرسوم الباهظة التي تتقاضاها من طلبة لدى عائلاتهم ما يكفي مالياً لتعويض انخفاض أدائهم التعليمي. والنتيجة أن التعليم الجامعي جرى تخريبه، ولم يصبح أكثر تطوراً أو عصرية. بل إن نقابة الأطباء مثلا صرخت أكثر من مرة شاكية من عدم اطمئنانها إلى مستوى خريجي الجامعات الخاصة. لكن الحكومة التي تصرفت من قبل لحساب أهل المال لم تعد مستعدة للاستماع إلى أهل الاختصاص. العقلية العشوائية نفسها، تعاملت مع ملفات عدة بفرض أمر واقع تلتزم به الحكومة الحالية وأي حكومة تالية. الحكومة الحالية التزمت مثلاً بالشروع فوراً في بيع بنوك القطاع العام، بل وكل الأصول الصناعية المصرية"عمال على بطال"من دون أن يتوقف أحد لحظة أمام ما جرى من"خصخصة"طوال العقد الأخير. الاعتراض هنا ليس إيديولوجياً، لكن"الخصخصة"في منشئها الرأسمالي لها أصول وقواعد. في بريطانيا مارغريت ثاتشر مثلاً، احتاج الأمر إلى 12 عاماً لخصخصة 8 في المئة من الاقتصاد البريطاني رغم أن بريطانيا مجتمع رأسمالي لديه قطاع خاص جاد وناجح وقادر على شراء المشروعات العامة. مع ذلك، كان ضمن شروط حكومة تاتشر في الخصخصة استمرار الحكومة لفترة من الزمن من خلال"السهم الذهبي"في رأس المال، ما يسمح لها بالاعتراض على أي تحول في مستوى الخدمة أو أسعارها. وحين بدأ بعض المشترين الجدد للمشروعات العامة في بريطانيا في مضاعفة مرتبات الإدارة العليا تقليداً للنموذج الأميركي خرجت تاتشر لكي تعترض على هذا السلوك. حين بدأت عملية"الخصخصة"في مصر قبل نحو 13 عاماً استجابة لضغوط صندوق النقد الدولي تعهدت الحكومة المصرية وقتها للرأي العام بإصدار كتاب أبيض يسجل كل واحدة من عمليات بيع القطاع العام والأسعار وقواعد تقييم الأصول المباعة وقدر الإضافة المتفق عليها من تكنولوجيا وعمالة... الخ. ثلاث عشرة سنة وكل حكومة في مصر تجدد هذا الالتزام كلما اضطرتها الظروف. لكن الزمن يمضي وعمليات البيع تتوالى، من دون أن يتحقق ذلك في أي حال بما جعل ملف"الخصخصة"في مصر من الأسرار العليا غير المسموح بكشفها، لا في صحافة ولا في برلمان. وبدلاً من ذلك، مضت سياسة فرض الأمر الواقع في طريقها. وأصبح الرأي العام يفاجأ بالصدفة بأن مشروعات رابحة بيعت لمستثمرين غير معروفي الهوية وبأسعار لا تساوي حتى ثمن الأرض في حالات كثيرة. وكان المشترى في أكثر من مرة مجرد واجهة لشركة عابرة للقارات باعت المشروع المصري نفسه إلى شركة أجنبية أخرى بأضعاف أضعاف الثمن الذي دفعته إلى الحكومة المصرية. هذه إذن ليست خصخصة على طريقة تاتشر وإنما خصخصة على طريقة روسيا ودول أوربا الشرقية. الفارق بين النموذجين كالفارق بين السماء والأرض... بين رأسمالية منضبطة داخل مجتمعاتها الأصلية، وأخرى متوحشة هدفها نهب الموارد المحدودة من الدول النامية إلى خارجها، مستغلة حكومات غير خاضعة للمحاسبة. في حال مصر، تجاوز هذا"الأمر الواقع"أخيراً كل ما هو إنتاجي ليمتد إلى خدمات عامة تبدأ من إدارة المطارات ولا تنتهي بالطرق. قبل أيام مثلاً، أعلنت مصادر حكومية نيتها طرح عملية مفاجئة بعنوان"تطوير الطريق الصحراوي بين القاهرة والإسكندرية"من خلال مستثمر - مجهول الهوية حتى اللحظة _ سيحتكر الطريق لمدة 25 سنة، بحجة أنه سينفق على تطويرها ألف وخمسمئة مليون دولار. بالتالي يصبح من حق"مجهول الهوية"هذا أن يفرض الرسوم التي يشاء على السيارات والمركبات العابرة، ولمدة 25 سنة. فلنتوقف هنا لحظة أمام الرقم: ألف وخمسمئة مليون دولار يعنى تسعة آلاف مليون جنيه مصري لتطوير طريق طولها مئتي كيلومتر. هذا ما زعمه المستثمر المجهول وتبرر به الحكومة الحالية في مصر اتجاهها لبيع طريق عامة يستخدمها سنويا مئات الآلاف من المصريين. لنتذكر أيضا أن مشروع بناء السد العالي في أسوان الذي قام بحماية مصر منذ إنشائه من الموت عطشًا أو جوعًا ثلاث مرات على الأقل بلغت كل تكاليفه مئتي مليون دولار. لا أحد الآن أصبح يعرف من يستغفل الآخر: المستثمر المجهول يستغفل الحكومة أو الحكومة تستغفل شعبها. وفي نهاية المطاف نحن أمام طريق عامة لا يجوز أصلا تحويلها إلى احتكار لحساب شخص أو آخر، ولمدة ربع قرن. طيلة خمسة عشر عاماً من السياسات الاقتصادية العشوائية لم تضف إلى الاقتصاد المصري صناعة جديدة واحدة، وبدلاً من ذلك تراجعت مصر حتى في الصناعات التقليدية التي كانت تفوقت فيها بالمستويات العالمية. الآن ماذا نرى؟ دعنا من الصناعات مرتفعة التكنولوجيا التي تتعلل السلطة أنها مضطرة إلى استيرادها. هل يعقل أن يدخل المواطن العادي إلى محل بقالة فلا يجد أمامه سوى تلفزيون كوري وزيت هولندي وسكر تركي ومنتجات القمح المستورد من أميركا؟ أكثر من ذلك، سجل خبراء أن سوق الأدوات المدرسية سيطرت عليها الواردات من الصين بنسبة 95 في المئة في كل المحلات والمكتبات، بينما أربعة في المئة من نصيب الهند واليابان والبرازيل وإسبانيا. أما الإنتاج المصري، فلم يعد يمثل أكثر من واحد في المئة بعدما كان حتى سنوات قليلة مضت هو الفائز بهذه السوق المتسعة التي يتعامل معها ستة عشر مليون طالب مصري يوميًا. مرة أخرى لا يتعلق الأمر هنا بنقاش إيديولوجي أو حتى وطني. يتعلق أساساً بسيطرة مستجدة للمستوردين على السوق المصرية وتتابع اختفاء المنتجين المحليين ومعهم فرص العمل، بما يضاعف من مشكلة البطالة المتفاقمة في مصر عاماً بعد عام. في كل مرة نجد"المال السياسي"في الخلفية ومستفيدًا بلا حدود. ونجد أيضًا تلاعبًا بمشكلة البطالة. لن نعود إلى مشروعات جرى تسويقها في حينها على أنها مشروعات عملاقة هدفها خلق مئات الآلاف من فرص العمل كمشروع توشكى وقبله مشروع تنمية خليج السويس. نعود فقط إلى 14 كانون الأول ديسمبر 2004. في ذلك التاريخ، فاجأت الحكومة المصرية الحالية الرأي العام بالتوقيع مع إسرائيل، وبمشاركة أميركا، على اتفاق لإقامة مناطق مؤهلة صناعياً"الكويز"وبمقتضاه تلتزم مصانع منسوجات مصرية محددة بأن يتضمن إنتاجها مشتريات إسرائيلية بحد أدنى هو 11.7 في المئة كوسيلة لدخول السوق الأميركية معفاة من الرسوم الجمركية. مشروع هذا الاتفاق استمرت مصر ترفضه منذ العام 1996، لكن الحكومة المصرية الجديدة فاجأت الجميع بقبوله بحجة أن هذا هو الإنقاذ الوحيد لصادرات المنسوجات المصرية. يومها قال الوزراء المختصون في الحكومة أيضًا إن هذا الاتفاق مع إسرائيل سيأتي لمصر بخمسة بلايين دولار استثمارات أجنبية، والأكثر أهمية انه سيخلق ربع مليون فرصة عمل جديدة للشباب وسيتراوح مرتب الواحد منهم شهريًا ما بين 800 و 1200 جنيه. وقتها سجلت في هذه الصفحة اعتراضات موضوعية على هذا الاتفاق الاقتصادي/ السياسي بينها أن"التزام مصر الآن بوجود 11.7 في المئة من المكونات الإسرائيلية كحد أدنى في نسيجها هو الأكثر شذوذاً في القصة كلها لأنه يعطى إسرائيل مركزاً احتكارياً متحكماً في الصناعة نفسها. فحتى لو كانت تلك المكونات متاح الحصول عليها بسعر أرخص من دولة عربية أخرى، أو حتى من مصانع داخل مصر نفسها، يصبح الالتزام المصري هو الشراء من إسرائيل، وبالسعر الذي تحدده إسرائيل. هذا وإلا... لن تدخل السلعة المصرية في السوق الأميركية". الآن بعد عشرة أشهر من التنفيذ لم تأتِ الاستثمارات الأجنبية الموعودة ولا زادت فرص العمل بأي مقدار، وأعلن مسؤول اقتصادي مصري أن المكونات الإسرائيلية ليست إسرائيلية، بل تشتريها إسرائيل من الصين ثم تبيعها إلى المصانع المصرية بثلاثة أضعاف ثمنها، فتصبح المنسوجات المصرية أكثر عجزًا عن دخول السوق الأميركية. مع ذلك أفتى أصحاب"المال السياسي"الذين كانوا محركين للاتفاق من الأصل بأن الحل ليس التراجع عن الاتفاق وإنما توسيعه ليشمل صناعات مصرية أخرى. لو كانت هناك معارضة حقيقية تكسر احتكار الحزب الحاكم للسلطة لما مرت مثل تلك الاتفاقات المدمرة. اتفاقات فوق مغزاها السياسي الخطير لا تعطي اسرائيل فحسب دور الوسيط بيننا وبين أميركا، وإنما المأساة الأكبر أنها تجعلها الوسيط بيننا وبين الصين. * كاتب مصري.