جاء التشكيل الوزاري الأخير في مصر ليحقق قفزة أخرى في تولي رجال الأعمال - بالمفهوم المصري السائد - المناصب الوزارية، وهو اتجاه متصاعد شهدناه واضحاً في اختيارات الحزب الحاكم لمرشحيه خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة. لا بأس في تولي رجال أعمال من القطاع الخاص مناصب عامة أو تشريعية. لكن هذه عملية لها ضوابط ومعايير حتى في الولاياتالمتحدة نفسها. معايير في مقدمها وجود ضمانات قانونية وعملية تحمي المصلحة العامة من تضارب المصالح المتوقع والمؤكد بالتجربة. وفي حالات عدة في مصر ثبت سابقاً تلاعب بعض هؤلاء من خلال إسناد مكاتبهم ومشروعاتهم الخاصة إلى أقرباء، لكي يتم من خلال المناصب الوزارية محاباتهم بالصفقات الحكومية السخية. كان جوهر الحكومة القديمة/ الجديدة في مصر هو وزراء المجموعة الاقتصادية. هم لم يتغيروا. هم أيضا تصرفوا دائماً على أساس أنهم لن يتغيروا، بحكومة جديدة أو بغيرها. فطوال الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي تحمل في طياتها، ولو نظرياً، احتمال أن تؤدي النتائج إلى تداول السلطة، استمرت الحكومة القائمة - خصوصاً فريقها الاقتصادي - تتصرف على أساس أن هذا التداول غير وارد بالمرة. في يوم الجولة الثالثة من الانتخابات البرلمانية مثلاً، بدأت خصخصة شركة الاتصالات، وهي شركة حكومية عملاقة تحتكر الاتصالات الهاتفية الأرضية المحلية والدولية، في خطوة لم تناقشها الحكومة في البرلمان مطلقاً ولا أشركت فيها الرأي العام بالمرة. وخلال أسبوع التشكيل الوزاري، جرى الإعلان عن بيع بنك الإسكندرية، أحد البنوك العامة الأربعة الكبرى، وهي أول مرة في مصر - بل في العالم العربي - تبيع حكومة بنكاً تملكه بالكامل إلى مستثمر أجنبي، سيكون أجنبياً بالضرورة. ومرة أخرى جرى ترتيب الخطوة بالتشاور مع الولاياتالمتحدة ومؤسسات أجنبية، ومن دون تشاور بالمرة على مستوى الرأي العام المصري صاحب الشأن الأول الذي تعمل البنوك العامة بمدخراته وودائعه. وإذا تذكرنا أن تمصير البنوك الأجنبية في مصر كان معركة وطنية كبرى قبل خمسين عاماً، بعدما ثبت تلاعب تلك البنوك بالاقتصاد المصري وسيطرتها على توجهاته، يتضح وجه الدراما في ما يجري. اللافت هنا أن الحكومة بعدما قررت بيع هذا البنك إلى أطراف أجنبية، تذكرت فجأة أن له مديونيات على بعض الشركات العامة، فقررت تخصيص ستة بلايين جنيه لتسديدها للبنك، في خطوة شاذة تماماً لا يفهمها سوى الطرف الأجنبي المستفيد من الصفقة. بل إن الشركة المصرية التي تحتكر صناعة السجائر في مصر أصبحت معروضة للبيع بثلاثة بلايين جنيه أقل من خمسمئة مليون دولار بينما سعر بيع مثيلتها في المغرب تنتج خمس إنتاج الشركة المصرية وربع سوقها المحلية وصل إلى ألف وسبعمئة مليون يورو. البيع إذن لغز محير وبخسارة غير مبررة بالمرة، فضلاً عن أن الأرباح الضخمة للشركة سنوياً ستخسرها الحكومة. ولتعويض الخسارة أمامها طريقان لا ثالث لهما: تخفيض موازنة الخدمات العامة أو فرض ضرائب جديدة على المواطنين. ثم أن الحكومة ابتكرت نوعاً جديداً تماماً من الخصخصة في الأعلام. فالتلفزيون المملوك للدولة يظل مملوكاً للدولة لكن مع بيع ساعتين يومياً في وقت ذروة المشاهدة لوكالة إعلانات. في الساعتين لا تحتكر الوكالة المحظوظة الإعلانات فقط، ولكنها أيضاً تختار المواد المذاعة والمذيعين والمعدين بأجور تحددها هي، زائد اختيار القضايا المطروحة. تفاخر وزراء المجموعة الاقتصادية في الحكومة، وهم أنفسهم المستمرون في الحكومة الجديدة، بأنهم خصخصوا خلال 18 شهراً مشروعات عامة حصلت الحكومة في مقابلها على 16.5 بليون جنيه منها 5.1 بليون جنيه قيمة بيع حصة في شركة الاتصالات الهاتفية وحدها. لم يكن مفاجئاً هذا التفاخر، فوزير الاستثمار في الحكومة لم يشغل نفسه بأي استثمار. شغل نفسه بالبيع ولا شيء غير البيع والبيع والبيع. وكلما كانت المشروعات المباعة أكثر ربحاً كلما كان هذا أفضل وأسرع. البعض قد يتعلل هنا بأنه لا بأس من ذلك إذا كانت حصيلة البيع ستستثمر في مشروعات أخرى قائمة أو جديدة. لكن الحكومة أعلنت بصريح العبارة أن حصيلة البيع ستستخدمها الحكومة في سد جزء من العجز المتراكم في موازنتها وديونها. هذا يعادل قيام أسرة ببيع تحويشة عمرها، فقط لتصبح أقل مديونية مما أصبحت عليه. لم يكن مفاجئاً والحال كذلك أن يحظى وزراء المجموعة الاقتصادية برضاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والحكومة الأميركية. ولكي تصبح الرسالة معلنة وواضحة خرج مدير الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في مصر ليعلن عشية التغيير الوزاري أن الاقتصاد المصري شهد تحسناً كبيراً في ظل تلك السياسة سياسة البيع والبيع والبيع، ما قفز بمعدل النمو الاقتصادي المصري إلى نحو ستة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. في الواقع إن هذه تصريحات مضللة تماماً، لأنها تحتسب مثلاً ارتفاع حصيلة مصر من بيع بترولها وكذلك حصيلة بيعها لجزء من شركاتها الرابحة باعتبارها موارد استثمارية حققها الاقتصاد المصري من داخله، وبالتالي هي إضافة إيجابية للتنمية الاقتصادية. لكن الإضافة الحقيقية تكون بالقدرة على إنشاء مشروعات جديدة تخلق فرص عمل جديدة. أما البيع من قطاع عام إلى قطاع خاص فهو مثل نقل المحفظة من الجيب الأيسر إلى الجيب الأيمن. والأسوأ هو أن المحفظة في هذه الحال تنتقل من جيوب المصريين إلى جيوب"الخواجات". لم يحدث طوال خمس عشرة سنة أن نوقشت قضية الخصخصة في مصر مناقشة جادة علنية ومسؤولة وشفافة. في كل مرة، ومن كل حكومة كانت تفتقر إلى الوضوح والشفافية وتجاهل متعمد للعواقب المؤكدة على الاقتصاد المصري، وفى مقدمها زيادة البطالة بدرجة فادحة. في العام 2001 مثلاً أعلنت الحكومة المصرية تحت الضغط الشعبي عن مئة وسبعين ألف وظيفة حكومية. كانت وظائف مفتعلة وغير إنتاجية ودخلها محدود للغاية لا يسمح بحياة كريمة ولا بما هو قريب منها. مع ذلك تقدم لتلك الوظائف أربعة ملايين وأربعمئة ألف مواطن، ما يعكس الحجم المروع لمشكلة البطالة، خصوصاً أن معظمهم ذوو تعليم متوسط وجامعي. الآن تفاقم الوضع أكثر وأكثر وأصبح معتاداً أن يجد المرء خريجي جامعات يباشرون العمل في محطات بنزين أو محلات بقالة أو حتى في مواقف سيارات، على رغم أنهم يحملون شهادات جامعية في الطب أو الهندسة أو الزراعة. في القصة جانب إيجابي، وهو أن أولئك الخريجين متمسكون بالرزق الحلال ولم ينزلقوا إلى إرهاب أو ترويج مخدرات. لكن للقصة أيضاً جانبها المأسوي، لأنه يعنى أن ما تحمله المجتمع - وما تحملته عائلاتهم - من مصاريف لتعليمهم سنوات بعد سنوات ذهب هباء في نهاية المطاف. المجتمع المصري هنا يخسر مرتين. يخسر بلايين أنفقها في العملية التعليمية كاستثمار يفاجأ بأنه من دون جدوى. وخسر شباباً متعلمين دفعتهم سياسات خرقاء في نهاية المطاف إلى مزاحمة الأميين في أعمالهم. في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في مصر لم تكن هناك أي رؤية جادة لواقع مصر الاقتصادي. فقط تبنى الحزب الحاكم برنامجاً رئاسياً سبق إعلانه لزوم الانتخابات يعد بتوفير 4.5 مليون فرصة عمل جديدة وإنشاء ألف مصنع جديد خلال ست سنوات زائد الحواشي من شقق سكنية وأراضي زراعية جديدة وما إليها. لكن حينما سئلت الحكومة من أين لها الموارد الضخمة لتنفيذ ذلك أجاب وزرائها المختصون المجموعة الاقتصادية من دون أن تطرف لهم عين بأن"العشم كبير في القطاع الخاص". وفضلا عن أنهم لم يستشيروا هذا"القطاع الخاص"أصلا، فإنه هو ذاته لم يملك القدرة حتى على شراء الجزء المطروح خصخصته من شركة واحدة هي شركة الاتصالات الهاتفية، فاستحوذ عليها المشترون الأجانب. وحينما فاجأت الحكومة الرأي العام المصري في 14/12/2004 بتوقيع اتفاق"الكويز"مع إسرائيل وأميركا حاولت امتصاص الصدمة بالزعم بأن الاتفاق لصالح الاقتصاد المصري وسيخلق مئات الآلاف من فرص العمل للشباب بمرتبات سخية حددها الوزير المختص سلفا. الآن، بعد سنة، أسفر تنفيذ الاتفاق عن حقيقتين. أولاً: إن إسرائيل رفعت سعر نصيبها من مكونات السلعة المصرية إلى ثلاثة أمثال، زائد أنها لا تنتج تلك المكونات أصلاً وإنما تستوردها من الصين، بما يعني عملياً أن مصر التزمت دفع جزية لإسرائيل بحجة أن هذا شرط للنفاذ إلى السوق الأميركية. ثانياً: إن الألف مليون دولار الموعودة كمكسب إضافي لمصر من الاتفاق تمخض عن خمسين مليون دولار بكلام الحكومة هي أيضاً مشكوك في صحتها. وكما عبر أصحاب الشركات المصرية المعنية في مؤتمر عقد في القاهرة قبل أيام فإنه"اتضح أن هدف الاتفاق الأساسي هو دس أنف إسرائيل في مجال الاقتصاد المصري، وان الاتفاق جعل النظام المعلوماتي لصناعة النسيج المصرية عرضة للاختراق باعتبار أن قطاع الغزل والنسيج ركيزة للاقتصاد المصري، وكذلك زيادة الكساد في المصانع المصرية آلتي تعمل فى مجال مكملات صناعة الغزل والنسيج". وأشار رئيس إحدى الشركات الكبرى المعنية إلى أن المصانع المصرية المنضمة إلى"الكويز"تحولت إلى"مجرد ورش تجميع للخامات المستوردة من إسرائيل لتوريدها إلى السوق الأميركية". كان بين الحجج الحكومية التي قيلت لتمرير اتفاق"الكويز"، رغم أنف الغضب العام، أن حفنة من رجال الأعمال المصريين المرتبطين بعلاقات وثيقة مع أميركا وإسرائيل هم الذين سعوا إليها وتفاوضوا عليها. لكن الأسابيع التالية سرعان ما صدمت الرأي العام المصري بتطور آخر درامي بنفس القدر، هو التوقيع على اتفاق لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، تلتزم مصر فيه بمنح إسرائيل جزءا معتبرا من مواردها من الغاز بسعر التراب ولمدة 15 عاما قابلة للمد إلى عشرين. السعر ثابت طوال تلك المدة بما يوازي ستة عشر دولاراً لكمية الغاز المكافئة لبرميل من البترول، بينما سعر برميل البترول يتحرك الآن دولياً بسرعة إلى مستوى الستين دولاراً، بحسب دراسة قيمة صدرت أخيراً للدكتور أحمد السيد النجار. وكما جرى في اتفاق"الكويز"، فإن اتفاق الغاز مع إسرائيل ظلت الحكومة المصرية تتكتمه إلى أن أعلنته إسرائيل. في الحالين كان وزراء إسرائيل زائد الممثل التجاري الأميركي هم من عبر عن نشوته من تلك الخطوات الحكومية المصرية. ليس مفاجئاً إذن أن تنهال شهادات حسن السير والسلوك على السياسات الجديدة في مصر من الولاياتالمتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وإسرائيل وحتى... مجلة"بيزنس ويك". لكن المفاجئ في كل الأحوال هو أن تخلو هذه السياسات من الشفافية وتفرض تحولاتها على الرأي العام المصري كأمر واقع وقدر لا فكاك منه، كما أن من المثير للتأمل أيضاً أن تخلو الحملة الانتخابية البرلمانية الأخيرة من أي طرح جاد لمستقبل مصر الاقتصادي. كل ما رأيناه هو حزب حاكم يستمر في السلطة بعد 24 سنة، ومعارضة ترى أن العمامة والحجاب أكثر أهمية من التشغيل المنتج لملايين المصريين المتعلمين، بينما بطالتهم هي الكابوس الذي يجب أن يطير النوم من عيون كل الشريحة السياسية في مصر، بغير فذلكة ولا إيديولوجيا ولا يمين أو يسار. ربما كان الحل هنا هو استنساخ ملصق بريطاني من الحرب العالمية الأولى لصبى صغير يتطلع إلى أبيه متسائلاً: أين كنت أيام الحرب يا بابا؟ بالمصري، نحتاج إلى ملصق في كل الشوارع يسأل فيه المواطن كل رجل سياسة: أين كنت حينما يتدفق إلى سوق العمل كل سنة 750 ألف مصري فلا يجدون عملاً مطلقاً، وفوق ذلك يجدون ممتلكات جيلين سابقين من المصريين تباع إلى الخواجات... وبرخص التراب؟ * كاتب مصري.