يوم الثلثاء 17 / 10 / 2006 جرى في مصر حدث جلل سيتوقف مؤرخو المستقبل عنده طويلا باعتباره نقطة تحول كاشفة عن حاضر مصر ومستقبلها. الحدث استمدت منه الصحف المصرية عناوينها الرئيسية في الصباح التالي ومعظمها يلخصه عنوان:"بيع أول مصرف قطاع عام في مصر". في الواقع هي أول مرة يجري فيها بيع بنك مملوك ملكية عامة، ليس في مصر فقط وانما في العالم العربي بل وفي الشرق الأوسط بمجموعه. لكن الأهمية لا تتوقف هنا، فالملكية العامة للبنوك في مصر أساسا كانت عنوان نضال طويل خاضه الشعب المصري قبل ثلاثة أجيال على الأقل بدءا من قيام الراحل طلعت حرب بإنشاء أول بنك مصري بأموال المصريين، في وقت كانت البنوك الأجنبية أو فروعها تسيطر بالكامل على كل مقدرات الاقتصاد المصري. وفي سنة 1956 مثلاً أرادت المصالح الأجنبية معاقبة مصر على قيامها بتأميم شركة قناة السويس فكانت أول خطوة اتخذتها هي قيام البنوك الأجنبية العاملة في مصر بالامتناع عن تمويل عمليات شراء القطن المصري، وهو في حينه عصب الحياة الاقتصادية المصرية. والملكية العامة للبنوك ليست خياراً ايديولوجياً، فهي لا تتعلق بيسار أو يمين، وانما هي بالأساس خيار وطني يعلو على اليمين واليسار. وأبسط مثل لذلك نجده في فرنسا وألمانيا واليابان، حيث أنه بغير الملكية العامة لبنوك محددة لم تكن إعادة النهوض الاقتصادي ممكنة بعد خراب الحرب العالمية الثانية. وعلى رغم قيام الاتحاد الأوروبي بإزالة الحواجز الاقتصادية بين دوله الأعضاء الخمس والعشرين، إلا أن البنك المركزي الإيطالي مثلاً تدخل في العام الماضي لمنع قيام بنك هولندي - وهولندا دولة عضو بالاتحاد - بشراء بنك ايطالي صغير رغم أنه ملكية خاصة. وحتى وقت قريب كان التفكير في بيع أي من البنوك العامة المصرية، وهي أربعة، من المحرمات السياسية المعلنة. وحينما جرى قبل سنتين أثناء وجود محافظ البنك المركزي المصري في العاصمة الأميركية واشنطن أن تسرب خبر ابلاغ الأميركيين باستعداد مصر لبيع أحد بنوك قطاعها العام الكبرى انقلبت الدنيا وجرى تكذيب الخبر بطريقة مراوغة. والآن يثبت بأثر رجعي أن الخبر كان صحيحا، وأن البنك المحدد هو"بنك الإسكندرية". وقبل معرفة المصريين بتلك النية المبيتة لبيعه كان صدر قرار مفاجئ بإدماج"بنك القاهرة"في"بنك مصر"، وبذلك انكمشت بنوك القطاع العام الى ثلاثة. أما بعد بيع بنك الإسكندرية فانكمشت الى بنكين اثنين. وبالوضع الجديد وبكامل وعي الحكومة المصرية في السلطة انخفضت حصة البنوك العامة المصرية من ودائع المصريين الى ثلاثة وخمسين في المئة بينما ارتفعت حصة البنوك الأجنبية بقدرة قادر الى سبعة وأربعين في المئة. فلنلاحظ أولاً انها جميعاً ودائع مصريين. ولنلاحظ ثانياً أن مصر ليست مجتمعاً مغلقاً فهي مفتوحة منذ سنة 1974 أمام البنوك الأجنبية وفيها حاليا 41 بنكاً أجنبياً أو فرعاً لبنك أجنبي، مع ذلك لم يقم أي بنك أجنبي بإدخال دولار واحد الى مصر وانما جاء ليعمل بودائع المصريين ويحول أرباحه منها الى الخارج أولا بأول. فلنلاحظ أيضا أن تلك البنوك الأجنبية تستخدم هذه الودائع من المصريين في ما يناسبها هي من مصالح في الربح الأسرع والأعلى وتأكيداً في الاستهلاك والاستيراد. أحد تلك البنوك مثلا قام بحملة إعلانية أخيراً لتسويق أضخم مشروع لديه وعنوانه:"أسرع قرض لشراء سيارة حتى مليون جنيه". اعلانات أخرى لتسويق قروض لتملك الشاليهات والقصور في سواحل مصر. في الحالة الأولى يتم استخدام ودائع المصريين لتمويل استيراد الأغلى والأحدث من السيارات المستوردة. وفي الحالة الثانية يتم دفع المصريين دفعا إلى نوع من الترف لا يتحمله مجتمع مصري يعيش 17 في المئة من أفراده تحت خط الفقر. في الحالتين تزيد أعباء الاقتصاد المصري بدل أن تخف وينحدر الى الاستهلاك الترفي بدل دفعه الى انتاج مفيد ونافع ومولد لفرص عمل جديدة لتشغيل الشباب. من هنا أصبح السؤال الأول هو: اذا كان السوق المصري مفتوحا أمام البنوك الأجنبية منذ سنة 1974 ولم تساعد في ادخال أو اقامة أي صناعة جديدة في مصر، فلماذا تتطوع مصر الآن لوضع المزيد من ودائع المصريين تحت تصرفها من خلال بيع أحد البنوك الكبرى ذات الملكية العامة فيستولي عليه بنك أجنبي - هو ايطالي في حالتنا هذه - بكل مبانيه وفروعه البالغة نحو مئتين منتشرة في مصر من أقصاها الى أقصاها، زائداً سمعته وتاريخه ومصداقيته التي بناها عبر نصف قرن، وبودائع تبلغ حالياً 42 بليون جنيه؟ في المؤتمر الصحافي الذي جرى عقده للإعلان عن الصفقة الجديدة جلس المسؤولون المصريون عن الصفقة كي يدلوا بتصريحات هي في جوهرها تهنئة للذات لدرجة أن رئيس البنك المباع أصر على أن يأخذ لنفسه نصيبه من التهنئة لأنه كان عنصراً فاعلاً في بيع البنك العام، وهو المعين أصلا لإدارته، والمحافظة على أصوله وحقوق مودعيه. من المؤتمر الصحافي نعرف أن البنك الإيطالي المشتري سيدفع بليوناً و612 مليون دولار ثمناً ل"بنك الإسكندرية"بكل فروعه ومنشآته التي قيل انها تساوي 9.2 بليون جنيه مصري. لكن، كيف ستستخدم الحكومة البائعة هذا المبلغ؟ هنا اختلفت الإجابات. ممثل البنك المركزي قال ان المبلغ سيضاف الى احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية. أما وزير الاستثمار - وهي التسمية الرسمية بديلا عن وزير البيع - فقال ان الحصيلة ستوجه لدعم المراكز والمخصصات المالية للبنكين الاثنين الباقيين كملكية عامة. أما وزير المالية - وهو"شجيع السيما"في الفيلم كله - فقال ان الحصيلة ستستخدم في تخفيض الدين العام المحلي بعد اقتطاع جزء لتمويل مشروعات الصرف الصحي تجميلاً للحكومة وحزبها الحاكم أمام الرأي العام. تعني المسألة باختصار: نبيع أولاً ثم نفكر تالياً لماذا كنا نبيع. انه استرسال بلغة الاقتصاد لما جرى الترويج له خلال العقود الأخيرة بلغة السياسة: نفرط أولاً وبعدها نفكر في العواقب. في جميع الحالات تجاهل مسؤولو الحكومة في ذلك المؤتمر الصحافي المشهود ثلاث نقاط رئيسية. أولا: لم يذكروا التقييم الأصلي الذي كان مقدرا للبنك العام المباع وكيف جرى قياسه ومن الذي قام به. في هذه المرة اتعظ فريق البيع المصري من فضيحة سابقة شغلت الرأي العام بقوة عنوانها شركة"عمر أفندي"للبيع بالتجزئة. في مواجهة صدمة الرأي العام المصري سابقا من بلاغ المهندس يحيى حسين عضو لجنة التقييم المشكلة رسميا الى النائب العام المصري ضد فريق البائعين المصريين الحكوميين الضاغطين للبيع من أجل البيع، رد عليه الفريق مجتمعا بنعومة ولكن بحرص على إعادة رص الصفوف. بعدها قالوا بكل هدوء ان المسألة لا علاقة لها مطلقا بالتفريط وإنما هي مجرد خلاف فني على أسلوب تقييم الملكية العامة. فمثلا هناك طريقة التقييم بالمدخلات. وطريقة التقييم بالمخرجات. وطريقة التقييم بالفوقيات: خلاف فني ليس إلا. والنتيجة: ضاعت الشركة العامة المباعة وبنفس الزبون المشتري وبنفس السعر المقرر أصلا مع تحذير ضمني واضح لكل معترض، يسمونه في الغرب: صاحب ضمير. البائعون في هذه المرة بدوا أكثر حجة وإفحاما. فلإعطاء ذخيرة كافية لمندوبي الصحف في المؤتمر الصحافي قال فريق البيع: دعونا ننحي جانبا سيرة التقييم الأصلي لبنك الإسكندرية وفروعه ومنشآته وودائع المصريين الذين ائتمنوه عليها ثقة في ملكيته العامة. ركزوا فقط على السعر الهائل وغير المسبوق الذي بعناه به. لقد بعناه يا إخوان بخمسة أمثال"قيمته الدفترية". وهنا أضاف عضو آخر من فريق البيع - لأنه يحب الدقة والأمانة مع الرأي العام - ان"بنك الإسكندرية"المملوك لعموم المصريين، تم بيعه بخمسة ونصف أمثال قيمته الدفترية. بدت الحجة مفحمة، ومن خبراء ومتخصصين مع أنهم جميعا سياسيون. لكن هذا يتساوى مع بيع الهرم الأكبر في مصر - هرم خوفو - بمليون دولار الآن، بحجة أن هذا يساوي مليون ضعف قيمته الدفترية. أو بيع أكبر مبنى في ميدان التحرير بقلب القاهرة الآن بعشرة جنيهات للمتر المربع بحجة أن قيمة هذا المتر أصلاً عند إقامة المبنى كانت جنيها واحدا مع تجاهل حقيقة أن نفس المتر المربع الآن في نفس المساحة في نفس الموقع يساوي مئة ألف جنيه. ثم لم يذكر فريق البائعين للبنك المملوك للمصريين كافة حقيقة أنه من الآن فصاعداً لن تحصل الحكومة المصرية على أرباح البنك سنويا كما اعتادت في السابق، وانما أصبحت ملتزمة بتحويل تلك الأرباح الى الخارج أولا بأول وبالعملة الصعبة. كانت أرباح البنك تساهم سابقا في تمويل الميزانية العامة المصرية، لكن من الآن فصاعدا ستساهم تلك الأرباح في تمويل اقتصاد ايطاليا. ثم: اذا كانت حصيلة بيع هذا البنك تساوي 9.6 بليون جنيه مصري فإن أحدا لم يذكر بالمرة أن الحكومة المصرية البائعة نفسها - تجهيزا لإتمام صفقة بيع البنك - سددت له قبل شهور سبعة مليارات جنيه، وفجأة، تحت عنوان أنها مديونيات مستحقة للبنك على الشركات العامة. وبالزيادة: تحمل البنك فجأة قبيل بيعه بليون جنيه من ميزانيته لإعادة هيكلته بما فيها 450 مليون جنيه للمعاش المبكر، وهو تعبير بالشفرة يعني تسريح المئات من العاملين في البنك بالخروج الى المعاش بدلاً من تسريحهم قسراً بناء على رغبات المالك الجديد، ومعظمهم في سن الأربعين فما فوق. المشتري عينه على ودائع المصريين. اللحم مشفي بغير عظام. في مجتمع واع وخريطة سياسية صحية كان يتطلب بيع بنك قطاع عام، والى بنك أجنبي تحديداً، على الأقل استجوابا علنيا من قبل البرلمان المنتخب شعبيا للحكومة. فأموال البنوك العامة ليست ملكا للحكومة حتى تتصرف بها بقرار منفرد وتبيعها لأجانب كأمر واقع تفرضه على الناس كقدر لا فكاك منه. هي ودائع لمواطنين مصريين لم يستشرهم أحد حينما قررت الحكومة نقل الولاية عليها الى طرف أجنبي. استجواب برلماني يستدعي أيضا المساءلة والمحاسبة عن سياسة التخصص من أصلها. فالتخصص لم تكن في أي وقت ولا في أي بلد هدفا بحد ذاتها. فإذا لم تكن إسهاما مؤكدا في نهضة اقتصادية تحتاجها مصر بشدة فلا داعي لجعل وضع سيئ أصلاً يصبح أكثر سوءا. تزداد أهمية هذه المحاسبة على ضوء التاريخ الملتبس بشدة لسياسة التخصص في مصر التي لم تتسم منذ بدايتها بأي قدر من الشفافية أو المكاشفة أو معرفة حدودها وغاياتها. ففي أي بلد، خصوصاً مصر حيث أصبحت البطالة بالملايين، يصبح الاقتصاد أكثر أهمية من تركه للاقتصاديين، وبالذات ذلك النوع من الاقتصاديين المتناغم على مدار الساعة مع رغبات وأهداف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والشركات المتعددة الجنسية وعابرة القارات. هناك صناعات بيعت بكاملها بأقل من عُشر ثمنها. هناك صناعات بيعت كي يغلقها المشتري ويسرح عمالها فيفسح الطريق أمام السلع المثيلة المستوردة. هناك صناعات كانت ناجحة ورابحة في مصر وتصدر منتجاتها إلى أسواق دول الخليج وافريقيا فلم تعد تصدر لا الى الخليج ولا افريقيا وأيضا لم تعد تنتج في مصر. هناك شركة واحدة اسمها شركة"المراجل"البخارية كانت تنتج في سنوات الستينات دروع الدبابات وفي مرحلة تالية تنتج معدات محطات الكهرباء. الشركة بمصانعها وأراضيها بيعت الى مشترٍ أجنبي بسعر بخس تماما هو 16 مليون دولار. وبمجرد بيعها تعاقدت معها الحكومة على صناعة غلايات ومعدات محطات كهرباء قيمتها 650 مليون دولار. هناك أيضا قلاع صناعية كبرى للغزل والنسيج في المحلة الكبرى وكفر الدوار تحولت الى شبه خرائب تثقلها الديون الملفقة تمهيدا لبيعها بسعر التراب. وحينما حاولت الحكومة امتصاص غضب الرأي العام أعلنت في 11/4/2006 تخصيص 900 مليون جنيه لإصلاح شركات كفر الدوار واستعادة طاقتها الإنتاجية. لكن بنظرة فاحصة للرقم تبين أن منه 530 مليون جنيه لتمويل خروج العمال الى المعاش المبكر. هناك قبل هذا كله قصة"عمر أفندي"وهي شركة البيع بالتجزئة التي ركبت الحكومة رأسها ومضت في بيعها رغم المعارضة العارمة. هذا يعيدنا الى الخريطة السياسية غير الصحية في تعاملها مع برنامج التخصص، ثم يعيدنا الى نقطة أهم وهي عدم وجود قطاع خاص مصري قوي ومنتج ومهموم بالشأن المصري. ففي كل الدنيا تمثل شركات البيع بالتجزئة وسيطا بين المنتج والمستهلك وتحقق أرباحها من تلك المهمة. فإذا انخفضت أرباح شركة كهذه أو لم تربح أصلا فهذا يعني خللا فادحا في الإدارة يعالج بحسم وحزم قبل القفز مباشرة الى بيع الجمل بما حمل لمشترٍ أجنبي. هذا المشتري الأجنبي من حقه وسلطته أن يعرض في فروعه السلع المستوردة فقط لأن أرباحه فيها أعلى وأسرع ولأنه غير ملزم بعرض سلع مصرية. في سنوات الأربعينات مثلا اكتشف طلعت حرب وبنك مصر أن المصانع المصرية الناشئة لا تجد منافذ لعرض وبيع منتجاتها في السوق المصري بسبب سيطرة الشركات الأجنبية تماما على منافذ البيع بالتجزئة. من هنا أقام طلعت حرب خصيصا"شركة بيع المصنوعات المصرية"لذلك الغرض الواضح من اسمها. الآن تعود التخصص بمصر ستين سنة الى الوراء، ولا تجد مصر عندها قطاعا خاصا قويا ومنتجا ليعترض على هذا التحول الجذري. ربما لأن القطاع الخاص الموجود هو في معظمه مستورد وليس منتجا. ولزيادة الطين بلة اتخذت الحكومة المصرية خطوة غير مسبوقة وهي الإفراج عن السلع المستوردة فورا قبل تسديد الرسوم الجمركية المستحقة عليها، مع اعطاء المستوردين شهرا كمهلة مريحة في كل مرة يسددون بعدها الرسوم براحتهم. لم تفعل أميركا ذلك. ولم تفعله اليابان ولا الصين ولا فرنسا ولا أي دولة شرقاً وغرباً مهما كانت غنية ومستغنية. لكن هذا جرى في مصر المدينة بثلاثين بليون دولار خارجياً وبأربعمئة بليون جنيه داخلياً ولديها مليونان ومئتا ألف من العاطلين عن العمل - اذا أخذنا بالرقم الرسمي - كلهم متعلمون ومعظمهم خريجو جامعات. * كاتب مصري