نادراً ما يوافق اليسار توني بلير أو جورج بوش، الرأي. وهذه المرة، أوحت حكمة الرجلين قرارهما الصائب أخذ جانب اليسار والليبراليين من نشر رسوم الكاريكاتور. فثمة سحابة الخوف تحوم على مكاتب الصحف الغربية، وتتربص بمدرائها فيحجمون عن نشر ما من شأنه أن يزعج المسلمين. وكان رئيس تحرير القسم الثقافي في جريدة"يولاندز بوستن"، ناشرة الرسوم السمجة، فليمنغ روز، قال إنه أراد التحرر من"الرقابة الذاتية"الدنماركية فيما يمس الإسلام. ولكن زعم الصحف عينها أن من أرسل الجنود إلى قلب واحدة من أقدم العواصم العربية، ولم يجلهم عنها حتى الساعة، وربما إلى أجل غير مسمى على رغم معارضة الغالبية العراقية، يخشى استفزاز المسلمين، زعم غير معقول ولا يصدق. وبوش لا ينفك يثير حفيظة المسلمين بتهديده العسكري المستمر لإيران. فالمحافظ الجديد العظيم، ومستشاروه الايديولوجيون، تبنوا موقفاً عملياً من الرسوم، وتحلوا بذكاء، نبههم الى ان الرسوم هذه تفتقر الى اللياقة، وتصور المسلمين جميعاً في صورة شهداء مزمعين. وموقف بوش قرينة على تفوق الأميركيين على الأوروبيين، فيما يعود الى فهم التعددية الثقافية. ولا تخلو الولاياتالمتحدة نفسها من التمييز العنصري والديني والإثني فاضطر الأميركيون الى التعامل مع الثقافات الكثيرة التي تتألف منها أمتهم، وانتهوا الى التغني بالتعددية والإختلاف في ضوء تاريخ البلاد الحافل بحركات الهجرة الجماعية، وتشديد الدستور الأميركي على مكانة حقوق الأفراد، أياً كان منشأهم. وأما في بريطانيا، فلا نزال متخلفين عن الأميركيين. اذا صح ان للتسامح حدين: الاول مقاومة الإختلاف والثاني التغني به، فبينهما حد ثالث هو قبوله. وعليه قد تكون مرتبة أقرب إلى الوسط منها إلى أحد الحدين. وليست إدانة الوزير جاك سترو السباقة للرسوم وليدة الصدفة. فوراء سترو ناخبو بلاكبورن، وكثير من الناخبين المسلمين المعتدلين. هو أدرك مدى شعور ناخبيه بالاهانة، جراء الرسوم. ولا شك في أن خبراء العالم العربي في وزارة الخارجية أبدوا من جهتهم رأيهم في المسألة، ولقوا آذاناً صاغية هذه المرة. والدنمارك ثابتة مكانها في الجهة المتحيزة على الإختلاف والمناوئة له، وهي بلد من اثنية واحدة، ولم تتقبل الثقافات الجديدة المقيمة فيها. ويشابه الخطاب العام في هذا البلد ذاك الذي ساد بريطانيا قبل جيل مضى. وتشوبه عبارات غاضبة تتناول واجب"الضيوف"إما إلتزام معايير"البلد المضيف"أو الرحيل عنه. فليحاول واحد منا هذا الخطاب بوجه لاجىء كردي هرب من عراق صدام حسين، أو بوجه ابنه المولود بكوبنهاغن. ونشرت صحيفة"دير شبيغل"الألمانية مقالاً ممتازاً بقلم دارسة السياسيات الدنماركية، ييتي كلاوسن، وهي حاورت ما يزيد عن 300 مسلم بارز في أوروبا الغربية، طوال السنوات الخمس المنصرمة. وترى الكاتبة أن"ضعف التسامح الديني واحترام حقوق الإنسان في الدنمارك بارز". وتستعيد كلاوسن كلمات وزير الشؤون الثقافية، المدافع الشرس عن"استرجاع"الثقافة الأصلية، برايان ميكلسن، قبيل نشر الرسوم :"لقد خضنا الحرب ضد ايديولوجية التعددية الثقافية التي تؤمن بتكافؤ الأشياء كلها، وصلاحياتها جميعها على حد سواء". فما الذي يحمل، والحال هذه، صحيفة بريطانية تقدمية الى"التضامن"مع المحررين الدنمركيين المعادين للمهاجرين، بعد ارتكابهم خطأ تقدير فظيعاً، عوض التضامن مع المسلمين البريطانيين الذين دانوا كلهم الرسوم؟ ولكن مهما كان غضب المتظاهرين مبرراً، فهل مقاطعتهم منتجات بلد أو رفعهم شعارات تنادي بقطع الرؤوس، مبرران؟ قد يصبح الغلو في رد الفعل أكثر عدائية من مسبباته، فيزيد عدد الذين يخافون المسلمين. ويلاحظ أن المتظاهرين الذين هجموا على مكاتب الإتحاد الأوروبي بغزة ليسوا من أنصار"حماس"، بل هم من الرعناء القريبين من"فتح"المهزومة وپ"الجهاد الإسلامي". ويحتمل أن يكون هدف المتظاهرين إحراج"حماس"، أو تسليط الضوء على حركاتهم. وفي إيران، لا يسعى الرئيس الذي يتعمد المواجهة إلا للتذرع بذريعة جديدة الى الحفاظ على الدعم الشعبي له. فقد قطع الوعود بمساعدة مواطنيه الأكثر فقراً، ولم يف بأي منها. فهربت الرساميل الإيرانية من البلاد، وتدهورت أسهم البورصة. ويحجم المستثمرون عن الاستثمار في مشاريع جديدة، خشية دخول إيران حربا مع الولاياتالمتحدة. وفي هذه الظروف، لعل خير وسيلة لإلهاء الرأي العام هي انكار"الهولوكوست"، وإلقاء الخطب في المؤامرة الغربية وراء الرسوم. ويقع معظم المسؤولية على عاتق وسائل الإعلام الأوروبية. فعلى هذه تجنب إبراز الشعارات المتطرفة التي ظهرت في التظاهرات المعادية للرسوم، والزعم أنها تختصر آراء المسلمين كلهم. فالقادة المسلمون المعتدلون في الدول الأوروبية حضوا، طوال الأسبوع، على ضبط النفس، ودانوا عنف المتظاهرين. ونددوا، من قبل، بتحريض أبي حمزة على القتل، قبل أن تندد به المحكمة. ولكن المشكلة ان الإعلام نادراً ما ينقل المناقشات القديمة والمتواترة في قلب المجتمع الإسلامي. فمحاولات المعتدلين مقاومة الرأي المتطرف، لم تنقطع. والحق ان المسلمين جزء من التنوع الأوروبي الجديد. وهم، كذلك، متنوعون. وتضم المجتمعات الليبراليين والمحافظين والحداثويين والتقليديين، كما تضم من يدركون آداب اللياقة والمتزمتين الذين يجهلونها. عن جوناثان ستيل،"غارديان"البريطانية، 11/2/2006