ليس الغرض من هذا المقال فتح جبهة أخرى غير الجبهة الدنماركية، إذ يكفينا مواجهة من نقدر على مواجهته وحرق أعلامه. والهدف فقط إرشاد القارئ إلى حالات سابقة على القدر نفسه من الخطورة، والى اننا بأمس الحاجة الى الغوص إلى قلب أكثر من مشكلة قائمة بيننا وبين الغرب. لم يحدثنا أحد عن الهوية السياسية لصحيفة"يولاندز بوستن"الدنماركية كي نعرف الخلفية الايديولوجية للفنان وللصحيفة التي أساءت للرسول الكريم. وهل هي من اليمين ام من اليسار او يسار الوسط وهل هي عنصرية مسكونة بالخوف من الأجانب غير البيض أو واقعة تحت شكل من أشكال النفوذ الإسرائيلي ونعرف أيضاً نوعية تغطيتها لأخبار المنطقة وعلى وجه الخصوص الصراع العربي - الإسرائيلي والانتفاضة الفلسطينية والعدوان على العراق واحتلاله الذي تشارك فيه الدنمارك. كل هذه الأمور على أهميتها غائبة. هناك مؤشر واحد يقودنا الى هويتها فهي أكبر الصحف الدنماركية واكثرها توزيعاً وما دامت كذلك فلا بد ان تكون من صحف اليمين المتطرف الأقوى تأييداً لإسرائيل وللسياسة التوسعية الأميركية في المنطقة والعالم كله والمعادي لقضايانا والذي يتعمد تشويه قيمنا وتحريف نياتنا إزاء السلام في المنطقة ورغبتنا في إقامة علاقات صحية مع الغرب. واليمين المتطرف هو علة عللنا في الغرب، فالعنصرية والشوفينية والاستعمار مرادفات له. وعدم الوضوح في الأزمة الأخيرة جعل كل الغرب خصماً وشريكاً ومتهماً، وهذا غير صحيح وغير موضوعي. من حقنا ان نفهم من الذي يوجه سهامه وسمومه نحونا ومن يريد الإساءة إلينا بقصد أن تسوء علاقتنا بالغرب وينفرد بالتأثير عليه. علينا ان نبحث عن صاحب المصلحة وعلاقته بهذه الصحيفة، وأن نعرف من المستفيد من إحداث شرخ في علاقتنا مع الغرب في الجانبين السياسي والديني وإحياء نزعة دفينة لدى هذا الفكر تجرّنا إلى صراع الحضارات منذ أن ظهرت نظريته كمقال في مجلة"شؤون خارجية"الأميركية في العام 1993 ثم عندما طورها صاحبها في كتاب وعندما حاول يائساً لفت النظر إلى صلاحيتها عندما أجرت الهند وباكستان تجاربهما النووية عام 1998 لأن الصراع الهندوسي - الإسلامي جزء من نظريته عن هذا الصراع المزعوم. العرب أدركوا ولكن لبرهة وجيزة خطورة إستيقاظ هذه النزعة وتحولها من القول إلى الفعل بعد 11/9 ثم ناموا كالعادة اعتقاداً منهم بأنه ما دام السيد قد رضي عن مقدار تعاونهم معه في مكافحة الإرهاب فلا داعي للتعب في خوض أي حوار مع الغرب حول أي مسألة. إن الجهل السائد والفهم الخاطئ لدى أحد طرفي المشكلة بقيم الآخر وبحقوقه السياسية ومصالحه الوطنية وفي طليعتها حقوق الشعب الفلسطيني هما أساس المشكلة مما يجعل من السهل إشعال الحرائق بين الحين والآخر. الرسوم الدنماركية هي في حقيقة الأمر تعبير عن قناعة جزء من الرأي العام الغربي بأن الإسلام صنو للإرهاب، ولهذه القناعة خلفياتها التاريخية والسياسية والدينية. ويرصد ديريك هوبود ورنا قباني في مقالين مهمين نشرتهما مجلة"شؤون عربية"- التي كانت تصدر عن بعثة جامعة الدول العربية في لندن وتوقفت لأسباب مالية في بداية التسعينات ولم تنجح محاولات إعادة اصدارها في بداية الألفية الجديدة - الأسباب الدينية والثقافية والعنصرية لازدراء الإسلام واحتقار المسلمين. يقول السيد هوبود ان المسيحية رفضت الإسلام منذ نزول الرسالة السماوية لأن المسيحيين اعتقدوا أن الإسلام أتى ليحل محل ديانتهم. وهذا القول يجد صدقيته في ازدراء الغرب للصحراء وأهلها في الكتب والأفلام السينمائية ولرسالة مصدرها هذه البقعة الجرداء التي تحرك حتى الآن في مخيلتهم رواسب سلبية عديدة زرعها المستشرقون والرحالة كي يبرهنوا أن المسيحية هي الدين الأصوب وأن شعوبها هي الأرقى. وأن رسالتها الحضارية لا تتوقف وحتى عقود قليلة ماضية لم يكن يكتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم بصورة صحيحة فهو ماحود أو ماحومات، أما المسلمون فمحمديون للتدليل على شخصانية الرسالة وعدم سماوية الإسلام ونزول الوحي. وكان من الأهداف المعلنة للحروب الصليبية كأول مواجهة مع الإسلام بين الطرفين في ارض إسلامية تطهير أو تحرير فلسطين والأماكن المقدسة المسيحية من الوثنيين. وبعد سقوط الأندلس عام 1492 تنفست اوروبا الصعداء لكن فرحتها لم تطل لأن العثمانيين وصلوا عام 1527 أي بعد ثلاثة عقود ونصف العقد فقط إلى مشارف فيينا متجاوزين أسلافهم الذين أوقفتهم فرنسا عند بواتييه وحالت دون دخول اوروبا في الإسلام. ويحلو للبعض أن يردد الآن انه لولا هزيمة العرب في الحدود الفرنسية لكانت اوروبا كلها تؤذن، وتتردد هذه الجملة عندما يريد بعض الدوائر تخويف الأوروبيين من الوجود الإسلامي بين ظهرانيهم أو عند الحديث عن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي أي ان كليهما سيكون حصان طرواده الإسلامي. وتغذي الدوائر الإسرائيلية والقوى اليمينية السياسية منها والدينية قلقاً لا أساس له من الوجود الإسلامي في الغرب الذي سينجح في ما فشل فيه العمل العسكري من قبل أي غزو لأوروبا من الداخل. وتحدد هذه القوى فترة زمنية هي خمسون سنة لحدوث تغيير ديموغرافي استراتيجي في اوروبا لصالح مسلميها ستكون له تبعات سياسية ودينية وخيمة عليها. هذا الافتراض يصبح في مقام الحقيقة ومدعاة للقلق ولسياسات تضايق مسلمي اوروبا وتحد من هجرتهم إليها وتنفرد صحف اليمين في بريطانيا على سبيل المثال في إذكاء هذا التخوف والإساءة إلى العرب والمسلمين ومعلوم كم هي الكاريكاتورات المسيئة للعرب التي نشرتها صحيفة"الصن"التي يملكها روبرت ميردوخ اليهودي الاسترالي عن العرب"الخنازير"والتي توقفت عنها بعدما بدأت الجالية الإسلامية تمارس دورها الطبيعي في الحياة السياسية والإعلامية البريطانية، وما تكتبه السيدة مينالي فيليبس في صحيفتي"الديلي ميل"اليومية و"الوقائع اليهودية"الأسبوعية من افتراءات على الإسلام. ويسمح المقام هنا بالتذكير بالإساءات للإسلام التي انفردت بنشرها كأخبار صحيفة"الصنداي تلغراف"اليمينية التي كان يملكها اليهودي كونراد بلاك وأفسحت أيضاً مساحة اسبوعية لزوجته بربرا إيميل لقذف سمومها ضد العرب والمسلمين والانحياز الكامل لليكود، وتواطأت مع شخص كتب مقالات مسيئة للعرب والمسلمين تحت إسم مستعار هو"ويل كومينز"سرعان ما اتضح ان صاحب الإسم الحقيقي يعمل في المجلس البريطاني الذي فصله من العمل ليس بسبب التزوير وحده وإنما لأن ما قام به يناقض سياسة المجلس في تجسير الفجوة بين الشرق والغرب. وفي 25/11/2001 نشرت الديلي تلغراف وحدها رفض البعض في الكنيسة الإنغيليكانية وضع إسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع أسماء انبياء آخرين كإبراهيم وإسحق ويوسف ويوحنا"وساره"ويشوع وداوود وموسى ومريم أم عيسى الذين قادوا شعب الله إلى نور الله. ووصف الدكتور جورج كاريه كبير أساقفة كنتربيري حينذاك هذه الخطوة بأنها غير سارة بالمرة، والدكتور كاريه أثار جدلاً كبيراً وعاصفة من الانتقادات عندما ألقى محاضرة في روما في نهاية عام 2004، بعد تركه موقعه الديني السابق الذكر، قلل فيها من إسهام المسلمين الحضاري الذي توقف عند اختراع الصفر على حد قوله وقبل هذا خطب في نيجيريا حيث يوجد اكبر عدد من أتباع الكنيسة الإنغيليكانية بلغة الاستغراب والاستنكار لعدم بناء كنائس في مكةالمكرمة. ومن قصر لامبيث مقر الكنيسة الإنغيليكانية قال الدكتور سايكس ايضاً بأن وضع إسم النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع الآخرين انتصار للنيات الحسنة على الدين الصائب. وفي 21/4/2004 نشرت"الصاندي تلغراف"وحدها من بين صحف الأحد الرصينة اعتراض بعض رجال الكنيسة نفسها على نية الملكة إليزابيث الثانية زيارة المركز الإسلامي في اسكنثورب Scunthorpe كإيماءة طيبة منها ومن العائلة المالكة نحو مسلمي بريطانيا بمناسبة احتفالات بريطانيا باليوبيل الذهبي لجلوس الملكة على العرش وكنوع من الاعتراف بأن بريطانيا أصبحت بلداً متعدد الثقافات والديانات. وقد اعترض الكاهن ديفيد فيليبس، سكرتير عام جمعية الكنيسة، محذراً بأن الزيارة تعطي إشارة خاطئة بأن كل الأديان شرعية، وهو ما يتعارض مع قسم الملكة بحماية الدين المسيحي، ولأن المسلمين ليسوا سوى نسبة صغيرة فقد طلب من الملكة أن تفكر في الأمر بقوة لأن هذه الخطوة تضعف دورها كحاكم أعلى للكنيسة الأنغيليكانية والذائدة عن الدين. هذا التيار الديني ليس قاصراً على الكنيسة الإنكليزية بل يتعداه إلى الكنيسة الكاثوليكية، ففي أثناء تنصيب قداسة بابا روما الجديد بنديكت السادس في العام الماضي نقلت الإذاعة الرابعة في ال"بي بي سي"قولاً قديماً للكاردينال جوزيف راتزينغر الذي اصبح البابا الجديد بأن الدين الإسلامي دين ناقص. الرسام الدنماركي إذاً هو إبن مخلص لهذه البيئة الدينية والسياسية والثقافية وليس منفصلاً عنها وهو أيضاً جزء من بيئة يضعف الالتزام الديني فيها ويقل فيها الاحترام لكل الأنبياء، ولهذا السبب فليس بمستغرب أن تصبح كرة القدم هي الدين الجديد في بريطانيا والوطنية هي الدين الجديد في الولاياتالمتحدة عقب أحداث 11/9/2001 وأن يتعرض المسيح عليه السلام لشتى أنواع النقد والسخرية وأحياناً الإنكار لصحة رسالته. وقد شاهد المواطن الأوروبي افلاماً سينمائية وتليفزيونية عدة أذكر منها هنا فيلمين حديثين الأول عن مريم البتول بثته"بي بي سي 1"في 22/12/ 2002، والثاني كان عنوانه"من كتب الإنجيل؟"وبثته القناة الرابعة في 25/12/2004 ولم تحرك الكنيسة أو أي مواطن بشأنهما ساكناً لأن بثهما يندرج تحت حرية التعبير، وهذا قد يكون مفتاحاً لفهم حدوث رد الفعل الغربي بعد رد فعلنا المتأخر وتباينه واختلاف الموقف الرسمي عن الموقف الشعبي المنقسم على نفسه وفوق ذلك يطالع قارئ الصحف البريطانية في الشهور الأخيرة آراء مواطنين يطالبون بكتابة إنجيل جديد يتلاءم مع ما طرأ على المجتمع البريطاني من تغيير في السلوك والمفاهيم مثل جعل العلاقة الجنسية المثلية مشروعة دينياً وقبول هذه العلاقة بين رجال الدين. لقد أصبحت الجماعة المؤمنة في بريطانيا أقلية والغالبية تتحدث عن عدم إيمانها بالخالق ولا تخشى القول انها ملحدة. وفي اميركا اخترعت دوائر علمية اسماً جديداً للخلق هو The Intelligent Design كحل وسط بين النظرية الداروينية التي يدور جدل قوي هناك حول صحتها وهل تدرس أم لا، وبين التيار الديني وكمبدأ مسلم به فإنه لا توجد في الغرب محظورات سياسية ودينية باستثناء وحيد هو عدم قبول التشكيك في المحرقة أو إنكارها. وفي فرنسا صدر"قانون غيسو"الذي يجرم من يجرؤ على ذلك وكان من ضحايا هذا القانون الذي صدر خصيصاً لمصلحة أقلية دينية في فرنسا تساوي خمسة عشر في المئة من مسلمي فرنسا الكاتب والمفكر الراحل رجاء غارودي وفي بريطانيا طرد الأستاذ الجامعي إيرفنج من عمله وباع منزله ليدفع أتعاب المحكمة التي دانته بإنكار المحرقة. ولم يقف معه أحد في إشارة قوية بالتسليم العام بجرمه اقتناعاً أو خوفاً، وبأن المحرقة غير خلافية وأسمى من المقدسات الدينية التي يختلف الناس حولها. إن العفن الدنماركي يجد خلفيته في الصورة النمطية السائدة في الغرب عن العرب والمسلمين التي لم تتحسن إلا قليلا في الآونة الأخيرة بجهد الغير. والحادثة الأخيرة تعطي الطرفين العربي والأوروبي فرصة ذهبية للقيام بحوار مؤسسي طويل المدى تشترك فيه القوى الدينية والسياسية والثقافية لتناقش بعمق وصراحة المشاكل المزمنة والمستجدة التي لا يمكن فصل بعضها عن الآخر والتي اصبحت تؤثر في أمن الطرفين وعلى مصالحهما ونحن الأولى بتعليق الجرس ولكن ليس على طريقة ما عملناه بعد 11/9 حين قدمت إلى لندن وفود انحصر جهدها في الحديث مع الجمهورالخطأ. وقبل ذلك علينا ان نقرّ بأننا لسنا أبرياء واننا نرتكب ما ارتكبه الرسام الدنماركي و"الصنداي تلغراف"إزاء الغرب والمسيحية. أزماتنا مع الغرب تتجدد والاضطراب في العلاقات معه سيبقى طالما ظن الغرب أنه يستطيع ترويضنا لقبول الظلم الإسرائيلي الحاضر بقوة في الغضب العربي والإسلامي الأخير وليس الآخر. كاتب يمني ورئيس سابق لبعثة الجامعة العربيه في بريطانيا.