أعاد الحشد المليوني الذي شهده 14 شباط فبراير، في الذكرى السنوية الأولى لاغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تصويب التوازنات وموازين القوى في لبنان، بغض النظر عن المواقف التي تخللها المهرجان الخطابي. لكن اعادة التصويب هذه هي النتيجة، أما السبب هو استمرار قضية اغتيال الحريري حيّة، وحارة، تولد التعاطف الشعبي مع الظلم المطلق الذي وقع بتغييبه. يخطئ من يعتبر، أو يحصر سبب الحشد المليوني، برد الفعل على الحشد الذي جمعه"حزب الله"في 9 شباط لإحياء ذكرى عاشوراء، أو رد فعل على احداث الاشرفية التي تعرّض خلالها مندسون للممتلكات والمقدسات في الأشرفية أو بالصراعات السياسية القائمة قبل 14 شباط، والمستمرة بعده. يبقى الدافع الأساس والسبب الجوهري الذي حرّك حشود جمهور قوى 14 آذار مارس هو لدى أكثر الذين شاركوا من الناس العاديين، هذه العاطقة المستمرة تجاه الحريري، وذلك السخط على اغتياله. ان تناسي هذا السبب وهذا الدافع عند الأكثرية الساحقة وغير الحزبية، من الحشود، يعني تجاهلاً للعامل الأساس الذي يشكل حاضناً للكثير من المواقف السياسية التي يعبر كل من قوى 14 آذار عنها على طريقته ووفقاً لمشاربه وأصوله الايديولوجية، بل ان تجاهل هذا الدافع الذي يؤدي الى استنتاجات خطيرة، تحصر ما حصل بالتناقضات المذهبية اللبنانية المرتفعة المنسوب هذه الأيام. وبهذا المعنى فإنه تجاهل لظلامة مطلقة، لا يفعل سوى تأجيج هذه التناقضات أكثر فأكثر. وفهم سبب تكرار الحشد المليوني بعد تظاهرة 14 آذار الشهيرة العام الماضي هو الذي يتيح تقدير النتائج لتحديد سبل التعاطي معها. بل ان سبب احتفاظ جرح اغتيال الحريري بسخونته العالية التي جاءت بالحشود، هو ان القتل تواصل واستمر فانضم الى الحريري في الضريح شهداء آخرون وشهداء أحياء نجوا بالصدفة، فضلاً عن ان كثراً من الاقطاب والرموز مرشحون للانضمام اليه في كل دقيقة وساعة ويوم. واذا كان خصوم"قوى 14 آذار"في المشهد الانقسامي اللبناني راهنوا على تباينات وتعارضات وعوامل ضعف في هذا الصف وبالتالي على عجز استنهاضهم الجماهير، فإن تناسي ما تعرضوا ويتعرضون له من قتل، جعلهم يتوحدون تلقائياً، مهما كانت نقاط التباعد في بعض السياسات بينهم. حتى ان شيئاً من الخبث قد يسمح بالقول ان وقف آلة القتل ضد قوى 14 آذار قد يؤدي الى انفراط عقد هذا التحالف. ان المرور على استمرار القتل ضد هذه الفئة على أنها موضوع جانبي، مقارنة مع الاهتمام بالمواضيع السياسية الخلافية التي تطرحها مع خصومها، يعني انكار مفاعيل حملة القتل المستمرة التي تتعرض لها قوى 14 آذار على كل المشهد السياسي اللبناني وامتداداته الاقليمية. انه أشبه بإنكار حصول القتل، كظلامة لها تداعياتها السياسية وإنكار لحتمية هذه التداعيات... فضلاً عن أنه إنكار لوجود قاتل، له هدف سياسي من وراء هذا الاسلوب في الغاء الآخرين، وإنكار لحق ضحيته في الانتفاض والتوجّع والتألّم والدفاع عن الحق في الحياة وضد الظلم ولو بالدماء... لا يؤدي تجاهل القتل، إنكاراً لمفاعيله السياسية، الى انكار وجود أكثرية شعبية تتعاطف مع قوى 14 آذار والتضامن معها فقط، او الى التشكيك بقدرة هذه القوى على الاحتفاظ بها، بل هو وقوع في فخ حسابات سياسية خاطئة لها هي الاخرى تداعيات سلبية على أصحابها. لن نتحدث عن الأثر اللاأخلاقي لإنكار القتل. فالإنكار اذا كان سياسياً، ليس ضرورياً ان يكون أخلاقياً، حتى لو كان القتل قضية أخلاقية.